سلام توفيق
هذا المقال نشرته بجزئين قبل 4 اعوام واعيد الان نشره بجزء واحد
نوعان من الناس يبقى اثرهم محفورا بذاكرتي..ومن الصعب نسيانهما.. الاول هو الانسان الذي اسدى لي احسانا.. والثاني هو الانسان الذي طالني بسوء دون وجه حق !!
ثلاثة وعشرين عاما مرت وانا اتذكر تماما تلك الاحداث التي رافقت تواجدي في تلك الدورة..واليكم الان القصة:
كنت لتوي انهيت قصعة العشاء مع زملائي الجنود في رعيل الدبابات في قاطع هور الحويزة العام 1987 .. فاخذت القصعة وهي اناء من القصدير مستطيل الشكل يكفي لسكب الرز فيه او المرق لخمسة او اكثر من الجنود حيث كان علي ان اغسلها لان ذلك اليوم كان دوري!!
لم انهي الغسل حتى تناهى الى سمعي صوت عريف خفر الوحدة ينادي علي ويبلغني بان المساعد النقيب غانم ارسل بطلبي فورا.. انتابني شيء من التوجس فبادرت الى سؤال العريف ان كان يعرف سبب هذا الاستدعاء العاجل فقال انه لايعلم شيئا
اكملت لبس قيافتي الكاملة وتوجهت الى غرفة المساعد ..حيث طلبت من الحرس الخاص للمساعد الجندي غزوان ان يبلغه حضوري ..ففعل وجاء ليقول لي ادخل النقيب ينتظرك
اديت التحية العسكرية .. وكان الجو رسميا تماما اذ كان النقيب غانم وهو ضابط مجند من النوع الجدي ولا يقيم علاقات ودية مع الجنود عكس الكثير من الضباط الذين كانوا يميلون الى التقارب وانشاء علاقات صداقة مع شريحة معينة من الجنود تتناغم توجهاتهم اما بسبب الدراسة التي تجمعهم او حب نادي رياضي معين او الانتساب لمنطقة معينة ..الخ وكانت علاقتي به عادية جدا
بادرني النقيب غانم قائلا
ججو انت خوش ولد وتستاهل واحد يفيدك
خير سيدي
اكو دورة 45 يوم بتكريت مال اعداد معلمي السياقة والادامة للدبابات .. وعل سريع يريدون واحد من الكتيبة ..الدورة تبدي يوم السبت يعني كدامك باجر وعكبه تروح تلتحق بالدورة ..وترتاح 45 يوم من الجبهة ..
شكرته جدا ووعدته بكيلو كرزات موصلية عند عودتي من الدورة.. فابتسم موافقا وقال:
يلا روح بسرعة لملم غراضك ورتب امورك وتعال اخذ كتابك وتوكل بالله
كدت اطير من الفرح ..هدية لا على البال ولا على الخاطر نزلت علي من السماء 45 يوما بعيدا عن اجواء الحرب والقصف والتدريب الاجمالي والواجبات الليلية والنهارية..وجنود الشغل ايضا!!
لم يصدق افراد رعيلي وسريتي الامر وانا ارزم يطقي والملم شتات اغراضي وتصوروا انه قفشة جديدة من القفشات التي كنت ابتدعها لهم يوميا.. درت عليهم الواحد بعد الاخر اقبلهم واودعهم فمن يدري ان كنت سالتقيهم مرة اخرى ام لا فتلك الايام لم تكن تنذر الا بسوء.
وصلت صباح اليوم التالي الى البيت وقضيت الخميس والجمعة في البيت ..وفي اليوم التالي ركبت احد الباصات المتجهة الى بغداد حيث كان
معهد الدروع في الجانب الايسر للطريق بين بيجي وتكريت اذا كنت سائرا باتجاه بغداد..ومن خدم هناك يعرف كم كان عظيما ومنظما و ببنايات وتجهيزات متطورة.
بعد ان سلمت كتابي الى قلم المعهد ومعي بعض الجنود ونواب الضباط من مختلف وحدات الجيش العراقي .. كانت نظرة واحدة في محيا هؤلاء كافية لاعرف مع من سانسجم خلال فترة الدورة ..ثم بعد ساعات كان المسؤولون عن الدورة يجرون لنا تعدادا ويسلموننا قاعة نظيفة ومرتبة وفيها كهرباء وتلفزيون في واجهة القاعة ..وجربايات للنوم مع دواشك سميكة ووسائد كبيرة ذات اللون الاخضر الغامق..حيث بلغ عددنا بحدود 50 عنصرا بين جندي ونائب ضابط..
وكم كانت فرحتنا حين وجدنا النواب ضباط انفسهم الذين اشرفوا على تعليمنا وتدريبنا قبل ثلاث سنوات في ذات المعهد ..فهل هناك اشهر من ن ض عبد زيد من الناصرية الموسوعة الكاملة للدبابات..وكذلك ن ض علي تالي واخرون يعرفهم من خدم في ذلك المعهد
التقى بنا ملازم اول فائز ومعه ن ض عبد زيد وتلوا علينا مناهج الدورة ..والمنهاج اليومي بدءا بالعرضات وانتهاءا بتوقيت قصعة العشاء..ولم يتطرقوا الى مسالة الواجبات الليلية فتصورنا ان ذلك هو تكريم لنا كوننا قادمين من جبهات القتال !!
عصرا قررنا النزول الى بيجي وتكريت والتمتع بمشاهدة الحياة المدنية والاتصال الهاتفي وتناول العشاء في مطعم لايقدم لنا القصعة التي مللنا منها في وحداتنا!!
عند عودتنا مساءا كنا نرتدي ملابس مدنية - تراكسوتات و دشاديش- في القاعة التي كانت تضم حوالي 50 سريرا .. تجمعنا على سجيتنا فمن خلال التعارف انقسمنا على مجموعات تنسجم فيما بينها..اهل الموصل في مجموعة واهل الناصرية في اخرى واهل بغداد في ثالثة وهكذا..قسم يستمع للاخبار والبرامج والاغاني في الراديو ..وقسم اخر جلس قبالة التلفزيون..وقسم اخر جلس على الصبة الاسمنتية في واجهة القاعة يدخن بشراهة ! قسما منهم كان يضع المراة امامه ويحلق لحيته..واخرون يصبغون حذاء الخدمة او البسطال ! وهكذا وفي العاشرة تم اطفاء الاضوية وخلدنا للنوم وكان قسما من الاسرة خاليا من اصحابها ..الذين كانت مناطق سكناهم قريبة ويمكنهم النزول يوميا بعد الثانية ظهرا..حيث عليهم ان يكونوا متواجدين في ساحة العرص السابعة صباحا
وفي صباح اليوم التالي وقبل السابعة بربع ساعة كنا نصطف في مجموعات ..كل مجموعة تمثل دورة معينة من دورات السياقة او المخابرة او الاسلحة او التعبئة..الخ
كنا نتهامس فيما بيننا ونتبادل التعليقات قبل حضور الضباط ورئيس عرفاء الوحدة..وفجاءة صدرت اصوات مستاءة من عدة جنود ونواب ضباط من افراد الدورة ..وكانوا يصيحون بصوتا واحدا ومسموعا
اووووووهووووووووو !!
رفعت راسي لاتبين لماذا استنكر الجنود حولي ..بادر احدهم قائلا
هذا بعده هنااااا
صوبت نظري تجاهه من هو هذا الذي بعده هنا.. لم يكن استيائي اقل منهم حين عرفت من يقصدون
ن ض موحان .. رئيس عرفاء الوحدة رجل قصير وبدين جدا وذو شوارب بيضاء كثيفة .. كان جنود الدورات لايطيقونه لانه كان عسكريا لايقل التزاما عن الجندي الامين المرحوم عبدالجبار شنشل!!!!
وكان لا يتساهل مع الجنود المذنبين او المتاخرين عن التعداد ..ولهذا فان من كان حولي لمم يستبشر خيرا بقادم الايام
بعد دقائق بداء الضباط بالحضور ..تعرفت على غالبهم تغيرت رتبهم نحو الاعلى ولكن الوجوه نفسها ..الرائد مرضي مشحن رافع (شغل بعد السقوط ولفترة قصيرة مدير شرطة الرمادي وهو برتبة لواء حاليا).. والرائد عبدالخالق ذاكر يعقوب الطويل صاحب الشعر الابيض.. بعد ان انفضت العرضات وانقسمت الدورات كل في قاعة للمحاضرات .. بدات دورتنا رسميا
ابلغنا ن ض عبد زيد ان مسؤول دورتنا هو المقدم حافظ لكنه مجاز حاليا وينوبه الملازم اول فائز ..وكانت الامور عادية ذلك الاسبوع ..دورات نظرية الى الساعة الثانية ظهرا تتخللها استراحة في العاشرة والنصف للفطور..وعند الثانية نتناول قصعة الغداء ونتفرق ..منا من ينزل الى بلدته وقسم اخر ينزل الى بيجي وتكريت ويعود مساءا .
كان من الطبيعي ان تقع طيورنا على اشكالها ..وسحبت نفسي عن مجموعة اهل الموصل الاربعة لاني لم اجد فيهم ضالتي فقد كانوا يحبون العزلة ..ولايتحملون طريقة الاكل لاهل الجنوب ..ولا لهجتهم ..بينما بطبيعتي احب اهل الجنوب لان لي اصدقاء مخلصون جدا من البصرة والناصرية.. اتذكر من مجموعتنا التي اصبحنا مجموعة متجانسة كل من سلام هاشم عليوي من ناحية الفهود بالناصرية و نائب ضابط داير حذر مسلم من الكوت وخالد محمد كريم من كربلاء ..واخر من بغداد اسمه صلاح الدين واخر من سامراء لم اعد اذكر اسمه..وكنا نذهب يوميا تقريبا بسيارة نائب ضابط داير ..نوع ميتسو بيشي الى احد المناطق القريبة ..ومرة اخذنا صاحبنا من سامراء الى الملوية وتسلقناها الى اعلى نقطة
مر الاسبوع الاول والثاني وحتى منتصف الثالث بشكل شبه طبيعي ..مع ان قلة من النواب الضباط معنا في الدورة بداوا يتضايقون منا نحن الجنود والمكلفين لتفوق بعضنا عليهم في الاختبارات حيث كانوا يعولون كثيرا على نيل مراكز متقدمة ليستفادوا منها في وحداتهم وفي مسيرة خدمتهم المستقبلية..ولعل اكثرهم حنقا علينا كان نائب ضابط من اهل منطقة الدبس بكركوك اسمه عباس .ا وكان طويلا ضعيفا اشقراني البشرة والشعر ووجهه منمش بعض الشيء ..وكان يستقصدنا ويستفزنا ويحاول دائما ايجاد حاجز بيننا كجنود وبين نواب الضباط ..ولم يكن يؤازره الا واحد او اثنين ..بينما كان البقية مثل داير و نائب ضابط سهر من بغداد وعلي عيدان من الناصرية وعباس غير عباسنا هذا من الناصرية ايضا
اناس لطيفين ولم نجد منهم الا كل خير
المشاكل بدات مع التحاق المقدم حافظ امر دورتنا ..حيث كان هذا الضابط لايحمل احتراما لاحد ..ومع اول يوم التقى بنا كانت طريقة كلامه طريقة متعالية.. ويستهزء بالجميع ..ولايقيم وزنا لاحد ..فكان لايتوانى في اهانة اي نائب ضابط كبيرا كان ام صغيرا .. وكنا نحزن لهم حين يسمعهم كلاما خشنا .. ولكن ماباليد حيلة !!
في نفس اليوم ابلغنا ان علينا ان نقوم بواجب الحراسة الليلية للمعسكر !! وكان هذا ازعج مايمكنه فعله لنا اذ ان هذا معناه اننا لن نتمكن من النزول ..وسنتبهذل بحمل يطقاتنا ليلا لنتوجه مئات الامتار مشيا الى نقاط حراستنا..هذا عدا الازعاج نفسه حين يتوجب عليك ان تستيقظ ليلا لتخسر ساعتين من راحتك في نقاط حراسة عديمة الفائدة ابتدعها بنفسه لاهانتنا واذيتنا!! ورغم محاولات بعضنا معه التي وصلت للتذلل والتوسل لاننا ضيوف لاسابيع قليلة وقادمين من الجبهات..الا ان هذا لم يزيده الا استهتارا وصلفا
في اليوم التالي كنا مع حماقة جديدة لهذا الضابط المستهتر في ساحة العرضات حيث طلب ان نحلق رؤوسنا جميعا كتلاميذ دورات جدد وكان يسميها ( زيان عقدة باربعة) اي نمرة 4 ..وقد حاول نواب الضباط ان يثنوه عن طلبه وقسم منهم شيموه كونهم اصحاب عوائل واطفال وان دخولهم على اطفالهم حليقي الراس يسيء لهم والى نفسية اطفالهم !! ولكنه كان يضحك باستهزاء
نعود الى عباسنا الذي كان ينتظر الفرصة لالحاق الاذية بكل الدورة دون استثناء..حيث بادر وحال عودتنا الى القاعات في استراحة الفطور بالذهاب الى الحلاق وقام بحلاقة شعره على الصفر ليجبر البقية على العمل ذاته.. وقد حدثت اشكالات وملاسنات بينه وبين بقية النواب ضباط وخصوصا صديقي داير الذي كان شجاعا لايهاب احدا ..
في ساحة العرضات في اليوم التالي كان قسم قليل منا قد حلق شعره والقسم الاكبر خففه قليلا والقسم القليل الباقي ومنهم داير و انا وسلام وصلاح الدين وبقية الشلة لم نحلق رؤوسنا.. وحال حضور المقدم حافظ بادره عباسنا بانه وقع ضحية لانه نفذ الامر العسكري ..والباقين لم ينفذوه .. فاجابه المقدم بان اي جندي لم يحلق شعره لن ينزل الى البيت اعتبارا من الاربعاء الى يوم الجمعة.. ففرح عباس فرحا عظيما !!
وحين جاء الاربعاء كانت نماذج النزول بيد المقدم حافظ واستلمها الذين حلقوا شعرهم ..واصحاب الحظ السعيد والواسطات وبقينا نحن 4-5 جنود هم نفسهم جماعتي الذين ذكرتهم ..فقررنا ان ننزل بلا نماذج !! وفعلا نزلنا وحين عدنا يوم السبت تم ابلاغنا باننا غياب رسميين ليومي الخميس والجمعة ..وتم ادراج هذا في كنيتنا وعندما عدنا لوحداتنا تم تقديمنا كمذنبين ولكننا لم نتعاقب وتم مسح الغيابات بعد قناعة امر الوحدة بان غيابنا كان عن التعداد يوم الخميس فقط!!
في نهاية الدورة كان علينا ان نقوم بدور المعلم كل على انفراد ونقوم بالقاء المحاضرات ليختبرون استيعابنا لدورنا..وكان المقدم حافظ يكلف عباس للقيام باعمال مشاغبة او اصدار اصوات اثناء محاضراتنا لننال درجة تقييم قليلة .. ولتفادي الامر كانت مجموعتنا تشكل طوقا على عباس حين ياتي دور كل منا..وحين يقوم باي منجسة كنا نعطي الاشارة لصاحبنا الذي يقوم بدور المعلم...وفي محاضرة عباس حولنا المحاضرة الى هرج و مرج فطلب ان نغادر القاعة مبكرا..فانبه المقدم حافظ وقال له كيف تطردهم دون ان تتاكد انهم من قام بالاساءة..فاجابه سيدي يريدون ينتقمون مني وانت تعرف ليش ..فنهره المقدم
المهم جاء يوم الوداع واعلان النتائج فكان الاول جندي اسمه كريم لانه كان من اقارب ملازم اول فائز والثاني كان نائب ضابط سهر.. وكنت انا في المركز السابع من بين 50 ..ولم يفشل في الدورة الا ثلاثة.. كان عباسنا واحد منهم!!
وهكذا نال جزاء افعاله وودعنا بعضنا..وعدنا الى وحداتنا ورغم اني لم التقيهم مرة اخرى الا انني لازلت اتذكر كثيرون منهم ..وكما قلت في البداية انني من الصعب ان انسى من احسن لي يوما..او من اساء لي يوما دون وجه حق !!
1021 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع