د. محمد عياش الكبيسي
تتناقل وكالات الأنباء ومواقع التواصل الاجتماعي أخبارا متتالية وموثقة بالصور لحملات من العدوان الشاذ والبشع والتي تمارسه ميليشيات(أنتي بلاكا) المسيحية بحق المسلمين في جمهورية إفريقيا الوسطى.
الصور تتحدث عن شق بطون الحوامل وذبح الأجنة بالسكاكين، وعن دبكات جماعية فوق الأجساد حتى سحقها وإزهاق أرواحها، هناك أيضا عمليات بتر للأطراف والأعضاء المختلفة للرجال والنساء والأطفال.
المعلومات تؤكد ضلوع الحكومة المؤقتة والمدعومة من فرنسا في كل تلك الحملات والتي عبّر عنها الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون (جرائم بشعة لا توصف) و (أن المسلمين يتعرضون لعمليات إعدام علنية، وبتر للأطراف، وغيرها من أعمال العنف المروعة، والخوف والفوضى. إن المسلمين يفرون بأرواحهم من المجازر، ويقومون بنزوح جماعي على نطاق تاريخي)!
إن هذه الصورة على بشاعتها وعلى أنها تكفي لتلفّ المجتمع البشري المشارك أو المتواطئ وحتى المتفرج والمراقب بلحاف من الخزي والعار، بيد أنها ليست الصورة الوحيدة، فهناك على امتداد الزمان والمكان صور أخرى لا تقل بشاعة عن هذه.
في بورما شاهد الكثيرون صور الوحوش البشرية وهي تقوم بشيّ الأطفال المسلمين على الصفائح الملتهبة بالنار، بينما يتولى الآخرون منهم حرق المساجد والمدارس والبيوت والمحاصيل الزراعية!
وفي سوريا صدر اعتراض باهت على قتل الأطفال السوريين بالغازات السامّة دون صدور قرار بمعاقبة ميليشيات الأسد التي استخدمت هذه الغازات بل أعطيت الضوء الأخضر لاستخدام البراميل المتفجرة التي تهدم البيوت على رؤوس ساكنيها فتقتلهم بالهدم أو الحرق، وربما لو خُيّر الضحايا لاختاروا الموت بالغازات السامة على هذه البراميل.
أما العراق فهو مسلسل آخر لا تنتهي حلقاته، ويكفينا هنا التذكير بزيارة مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية لإحدى المؤسسات العلمية الأميركية وحين سئلت: كيف تبررين قتل نصف مليون طفل عراقي بسبب الحصار؟ قالت: نعم هذا مبرر لتطبيق قرارات المجتمع الدولي!
والشهية الأميركية لقتل العراقيين لم تقف عند هذا الحد، فما قتل باليورانيوم المنضب والفسفور الأبيض والأسلحة المتطورة الأخرى قد تجاوز ذلك الحد، ثم لما تعبت أميركا من القتل قامت بتسليم العراقيين لعدوهم التاريخي والتقليدي والذي ما زال يختزن من الحقد والكراهية ما يكفيه للاستمرار بعمليات القتل والإذلال والتدمير الممنهج وبأمد مفتوح وغير محدد.
الذاكرة البشرية لم تنس بعدُ حمامات الدم في فلسطين ولبنان والبوسنة والهرسك وكوسوفو وأفغانستان وكشمير والشيشان، وهو سجل لا يختلف عن مرحلة الاستعمار التي أعقبت الحرب العالمية والتي راح ضحيتها الملايين من البشر في شرق آسيا أو شمال إفريقيا مهما اختلفت الشعارات والمبررات، هذا بالإضافة إلى ما تمارسه الأنظمة القمعية ضد شعوبها في العالم الشرقي وما تسمى بالدول النامية أو دول العالم الثالث.
صحيح أن العالم حقق طفرتين هائلتين: الأولى: إنتاجه للنظام الديمقراطي وما تضمنه من قيم ومفاهيم وقوانين وسلوكيات معرفية وتواصلية غاية في الرقي، والثانية: التقدم العلمي في كل المجالات المتصلة بحياة الإنسان كالطب والهندسة والصناعة والزراعة، وكان من الممكن بهاتين الطفرتين أن تتحقق أحلام الإنسان في صناعة المدينة الفاضلة أو جنّة الإنسان الدنيوية، بيد أن هذا الحلم أوشك أن يتحول إلى كابوس مرعب يتمنى فيه الإنسان أن لو بقي يعيش في عالمه البدائي، حيث قسّمت الديمقراطية المجتمعات البشرية إلى قبيلتين كبيرتين: قبيلة تنعم بالحرية ومتطلبات العيش الكريم لكنها ترغب باحتكار العلم والثروة وأسباب القوة، وقبيلة أخرى هائمة في القفار مضطربة وضائعة ومسلوبة الإرادة والكرامة، وقد فقدت القدرة على منافسة القبيلة الأولى أو استرداد بعض حقوقها وثرواتها المغصوبة أو المسروقة.
إن الغرب لم يكن صادقا في دعواه بنشر الديمقراطية في العالم، ولا بنشر العلم والحداثة، إنه لو أراد لفعل ذلك في إفريقيا التي تخضع لهيمنته منذ عقود طويلة، لكنه يكتفي بمص ثرواتها ودماء أبنائها وبناتها ثم يلقي إليهم بالفتات، ولو أراد لفعل ذلك في أفغانستان أو العراق، وقد أحسن به الظن الكثير من شعوبهما، حتى خشي المحافظون والمتدينون بداية الأمر من شيوع القيم الغربية المنافية للإسلام حينما ستمطر عليهم سماء الديمقراطية عسل الحرية ولبن التنمية، لقد تخيّل الكثيرون أنهم سيعيشون حياة شبيهة بحياة الإنسان الغربي، خاصة في وضع العراق الذي حباه الله بالخيرات التي تكفيه وتكفي أضعاف أضعافه.
إن الأميركيين طيلة وجودهم في العراق لم يشجعوا التيارات العلمانية أو الليبرالية كما كان متوقعا بل أحيوا في العراق أشد أنواع التطرف والانغلاق الكهنوتي والطائفي، وحتى في مجال الخدمات لم يتمكنوا من إعادة الكهرباء رغم الميزانية الخيالية التي رصدت لها، وهذا كله وغيره كثير يؤكد أن سياسة الغرب اليوم لا تختلف عن سياسة (الاستعمار القديم) في تشجيع الجهل والتخلف واعتماد حكمة الأجداد (فرّق تسد).
لقد بات واضحا أن الغرب لا يريد أن يصدّر لنا تجربته لا في الجانب الديمقراطي ولا في الجانب العلمي، وعلى التغريبيين العرب أن يدركوا هذه الحقيقة وأن يتعظوا بموقف الغرب من الجلبي ثم علاوي، وأما ما يرددونه من أن الغرب من حقه في النهاية أن يعمل لمصلحته وهو غير مسؤول عن مصالحنا نحن، فهذا بحاجة إلى وقفتين:
الأولى: بما أننا مقتنعون الآن أن الغرب يبحث عن مصلحته فقط، وهو يرى أن النهوض بمجتمعاتنا ودولنا سياسيا وعلميا واقتصاديا يضر بمصلحته، فهذا يعني أنه لم يعد هناك مبرر للتعويل على مساعدته أو السير في ظله، والأولى الرجوع إلى الذات والمصالحة مع الهوية وبنية المجتمع، كما يفعل الصينيون واليابانيون، ولننه هذا الجدال الفلسفي بين (الأصالة) و (الحداثة) لنتكلم من الآن فصاعدا عن أصالتنا نحن وعن حداثتنا نحن أيضا.
الثانية: إن تبرير هذه الجرائم بمنطق المصلحة الذاتية وهي عين (الأنانية) فإنه يعني أن القيم الإنسانية لم تتطور إلا نحو الأسوأ، فالمصلحة في عرف القبائل والتجمعات البدائية كانت تحققها بالعصي والحجارة ثم بالسيوف والرماح، واليوم تطورت هذه الأدوات إلى الأسلحة النووية والكيماوية والبايالوجية والبراميل المتفجرة وصواريخ كروز أو توماهوك العابرة للمحيطات.
بل إن تبرير سلوك الغرب تجاه المجتمعات الشرقية والإسلامية منها بشكل خاص بمنطق المصلحة، يجعلنا لا نطمئن ولا نثق بالثقافة الغربية أنها تمتلك شيئا مفيدا لهذا العالم المتعب والمثقل بهمومه، بل هي انتكاسة في عالم العلاقات الإنسانية الإنسانية، وهبوط إلى مستوى (ثقافة الغاب) فالكائنات القوية فيها ذات الأنياب أو المخالب لا تتورع عن سدّ حاجتها الجسدية من أجساد الآخرين ودمائهم.
إن شعار (عالم واحد.. قرية واحدة) قد حولته ثقافة المصلحة والأنانية المفرطة إلى (عالم واحد.. غابة واحدة) فمن بورما إلى إفريقيا الوسطى مرورا بالعراق والأحواز وسوريا وفلسطين وآلاف البشر الذين يتساقطون يوميا وتنهش أجسادهم وأطرافهم تتشكل ملامح الغابة الكبيرة وإن كانت بعناوين جديدة وأدوات متطورة.
637 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع