المثقف العراقي وغياب دوره القيادي

                                          

                              إبراهيم الزبيدي

لا خلاف في أن العراق موطن ثقافي أصيل وعريق. ولا ينكر أحدٌ أيضا ريادة المثقف العراقي، عربيا ودوليا، في كثير من مجالات الإبداع.

لكن لابد لنا أن نقر بأن جسد الثقافة العراقية أصيب بالترهل والتشظي والتمزق مع بداية تموز/ يوليو 1958، وما جاء بعدها من صراعات سياسية تحولت إلى صدامات عقائدية وفكرية  جرفت في خضمها أغلب المثقفين العراقيين، وما زالت آثارها وانعاكساتها تفعل فعلها في ضمير المواطن العراقي إلى اليوم.
وفي سنين البعث الخانقة، بما عرف عنه من سطوة عُنفية على كل أنواع الإبداع، أصيب جسد الثقافة العراقية بانشطار حاد بين مثقف سلطوي فقد هويته وتخلى عن وظيفته التنويرية التثويرية الإنسانية، وغادر موقع القيادة، وانخرط في عملية الترويج لعصبية الحزب وديكتاتوريته العقائدية المغلقة، وبين مثقف آخر رفض السقوط في شباك الحزب، وفضل دخول غيابة السجون، أو مواجهة الاغتيال بالسموم والكواتم والقبور الجماعية، أو ولّى وجهَه صوبَ الغربة، وتاه في دروبها الموحشة.
ثم جاء الغزو الأمريكي وجاءت معه الأحزاب الدينية والقومية المتعطشة للثروة والسلطة لتضع المثقف العراقي أمام ذات المأزق القديم، إما مع ديكتاتورية العقيدة الواحدة، طائفية أو قومية أو عشائرية، أو مع الجوع والحرمان والصمت القهري والغربة القاهرة من جديد.
ومؤسف جدا أن بعض مثقفينا وإعلاميينا وصحفيينا تخلوا عن بعض مبادئهم الثورية التقدمية وانخرطوا في العمل داخل أحزاب السلطة، متطوعين أو مضطرين بحكم الحاجة، وفقدوا، رويدا رويدا، أصالتهم والكثير من مبادئهم القديمة وقيمهم ومقاييسهم للأمور، وتفننوا في اختلاق التبرير والتنظير لتهدأة وجع الضميرالذي لابد أن يعاود وخزَه بين حين وحين.
ورغم انكسار الوطن، في ظل هيمنة الديكتاتور الجديد، وبلوغه أدنى درجات التدهور والانحطاط فلم يستعد إلا أقل القليل من المثقفين وعيه القديم ويتمرد على وصاية أحزاب السلطة ويتوقف عن خدمة عبثها بهوية الوطن و وتمزيقها لجوهر لحمته وأمنه واستقلاله واستقراره.
ولو قيس ما فعله محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمون في أقل من عام بمصر وبالمصريين بما ارتكبه نوري المالكي وحزب الدعوة في عشر سنوات بحق العراق والعراقيين والمنطقة لكان قطرة في بحر. ومع ذلك فلم تصبر الملايين المصرية بقيادة مثقفيها طويلا كما صبر العراقيون.
إن لنا فيما جرى في مصر أسوة حسنة. فالذي جرى أن الملايين الثلاثين التي خرجت إلى الساحات يوم 30 حزيران/ يونيو لم تغادر ساحات صمودها إلا بعد أن أسقطت حكم التخلف والتسلط والعشوائية، وأعادت الاحترام لمؤسسات الدولة، وصانت حقوق المواطنين في الحرية والكرامة، وأرست سلطة القانون، وصانت حرمة القضاء واستقلاله وحياده، وفتحت أبواب الغد على مستقبل أفضل وخالٍ من القهر والتزمت والاستبداد.
وبالنظر والتدقيق في تفاصيل دوافعها وطبيعتها نجد أنها لم تكن هوجة (فرهودية) جاهلة وطائفية وعشائرية ومناطقية، كما جرى عندنا في العراق يوم سقوط النظام السابق، بل كانت مبدأية وثورية خالصة أساسُ خلافها مع الإخوان فكريٌ وعقائدي وسلوكي ومنهجي، ورفضٌ حازم وحاسم للعنف والتخلف وهيمنة العقيدة الواحدة.
وهنا يأتي الحديث عن المثقف المصري، وبالأخص رجال الإعلام والأدب والرسم والتمثيل والموسيقى والغناء والمحامين وأساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين ورجال المال والاقتصاد وأعضاء منظمات المجتمع المدني وشبان الإنترنيت والفيس بوك والتويتر ويو تيوب. فما فعلوه في تثوير الشارع المصري وقيادته والصمود داخله حتى النصر الأخير كان مذهلا ورائدا بلا حدود. فقد أعادوا إلى الميادين المصرية، في القاهرة وبقية المحافظات والأقاليم والقرى والأرياف، نبضها الثوري الأصيل، وجعلوها َتثبُت، بشمم وإباء وشجاعة نادرة، في مواجهة عنف «رعاع الظلام» من بلطجية الإخوان وشبيحتهم المدججين بالأسلحة النارية، على اختلاف أنواعها، وبالهراوات وقناني الملوتوف الحارقة.
يضاف إلى ذلك أن التظاهرات المصرية الداعية إلى إسقاط نظام الإخوان حركت الكثير من المياه العربية الراكدة، وأطلقت حملات تضامن وتأييد ومناصرة من قبل عشرات بل مئات المثقفين والإعلاميين والفنانين العرب، بشعار واحد لم يتغير، (لن نعود إلى الجاهليّة).
ورغم أن الجيش المصري بقيادة عبد الفتاح السيسي كان اللاعب الفاعل والحاسم في تحقيق هدف الجماهير، إلا أن الحقيقة  أنه لم يكن مفجرها ومنظمها وقائدها بل كان تابعا لها وحارسا ومرافقا وحسب. إذ لم يكن أمامه سوى خيارين، الأول هو الرضوخ لسطوة الجماعة والسماح لها بسحق الجماهير وقتل إرادتها وتحويل مصر إلى عراقِ خائب آخر يعوم في الدم والفوضى والعنف والفساد والعمالة. أما الثاني فهو الانحياز لإرادة الملايين والانقياد لثورة المثقفين. مع التذكير بأن المجتمع المصري، والجيش منه ومن صلب تكوينه النفسي والحضاري والتاريخي، معروفٌ بالوسطية والمسالمة والتدين الهاديء، وبالبغض الفطري المبداي للعنف والمشاكسة.
هذا ما حدث في مصر. بالمقابل فإن جذور الثقافة التقدمية التنويرية التثويرية في العراق لا تقل عن شقيقتها المصرية عمقا ورسوخا وصلابة. وعلى ذلك واستنادا إليه فما زال لدى المواطن العراقي بعضُ أمل في أن يستعيد المثقفون العراقيون وعيهم القديم، فيستنهضوا ما تبقى فيهم من قيم ومباديء، وبالأخص أؤلئك الذين يخدمون الحاكم الديكتاتور في نقابات واتحادات ثقافية وإعلامية وصحفية يمولها ويهيمن على قرارها، فينتفضوا ويسترجعوا دورهم القيادي في تثوير الشارع وتنويره وإشعال نار الكرامة والحمية فيه، كما كانوا يفعلون دائما عبر تاريخ الشعب العراقي النضالي الطويل.
أما حين يتوقّف المبدعون والمثقفون عن الكتابة والغناء والتفكير والتمرّد فإن الوطن يفقد صوته واسمه وبصيرته. وحين يرمون سلاحهم يخسر الوطن المعركة. وحين يحتجزهم (المتأسلمون) تغرق الأمّة في ظلام عظيم

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

453 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع