د.ضرغام الدباغ
الشخصية المحورية في هذا البحث هو الإيطالي : بينيتو أندريا أميلكارا موسوليني (Benito Amilcare Andrea Mussolini) (29 يوليو ـ تموز 1883 / 28 أبريل ـ نيسان 1945) حاكم إيطاليا بين 1922 / 1943.
شغل منصب رئيس الدولة الإيطالية ورئيس وزرائها وفي بعض المراحل وزير الخارجية والداخلية. وهو من مؤسسي الحركة الفاشية الإيطالية وزعمائها، سمي بالدوتشي (بالإيطالية: Il Duce) أي القائد من عام 1930 إلى 1943. ويعتبر موسوليني من الشخصيات الرئيسية المهمة في خلق الفاشية.
دخل موسوليني حزب العمال الوطني ولكنه خرج منه بسبب معارضة الحزب لدخول إيطاليا الحرب، ثم عمل في تحرير صحيفة أفانتي (إلى الأمام) ومن ثَم أسس ما يعرف بوحدات الكفاح التي أصبحت النواة لحزبه الفاشي الذي وصل به الحكم بعد المسيرة التي خاضها من ميلانو في الشمال حتى العاصمة روما. دخل الحرب العالمية الثانية مع دول المحور. حاول بعد أن أيقن من الهزيمة العسكرية وقبلها السياسية، الهرب إلى سويسرا عبر الشمال الإيطالي، في مناطق كانت تحت سيطرة المقاومة الوطنية الإيطالية، فألقي القبض عليه في نهاية شهر أبريل من عام 1945، وأعدمته حركة المقاومة الإيطالية مع أعوانه السبعة عشر بالقرب من بحيرة كومو، ثم أُخذت جثته مع عدد من أعوانه إلى ميلانو وعرضت هناك للجمهور وعلقوه رأساً على عقب حتى يراهم عامة الناس ولتأكيد خبر موته .
كان موسوليني شخصية لا يخلو من ذكاء حاد، مثقف، يجيد صنعة الحديث مع الجماهير، ومع الإطارات السياسية في بلاده، ولكنه أخطأ بأستسلامه لشهوة الحكم والتوسع، وتجاهله لقوى العالم المتغيرة، ودفع ثمن كل ذلك باهضاً، وعلى حساب الشعب الإيطالي.
**********
هذا المقال مترجم من كتاب صادر من ريدردايجست (Reders Digest) بنسختها الألمانية، بعنوان (Machtprobe in Rom: Mussolinis Ende auf Raten) المواجهة في روما : نهاية موسوليني وبالتدريج.
ترجمة : د. ضرغام الدباغ
ـــــــــــــــــــــــ
كانت لهزيمة دول المحور تداعياتها، إذ احتلت قوات الحلفاء في صيف عام 1943 جزيرة صقلية وعلى اثر ذلك تصاعدت حملة الانتقادات في صفوف الحزب الفاشي الإيطالي ضد سياسة موسوليني، ترى هل يستطيع الدوتشي الصمود ؟
كانت الأخبار الواردة من الجبهات مقلقة. ففي 11/ حزيران ـ يونية / 1943 هاجمت قوات الحلفاء جزيرة بانتليريا الإيطالية، ذات المكانة الاستراتيجية في البحر الأبيض المتوسط المقابلة للسواحل الأفريقية، والتي كانت تعد من الأهداف الصعبة المنال، وبعدها بأسابيع فقط، ابتدأت الحملة على صقلية، وأستقبل السكان القوات الأمريكية والبريطانية كمحررين. وفي 18/ تموز ـ يولية عاشت روما أولى الهجمات الجوية الكثيفة القوية التي ألحقت أضرار فادحة في العديد من أجزاء المدينة وأثارت الرعب بين السكان.
وفي هذه الظروف الصعبة تنادت الشخصيات القيادية في حزب موسوليني لعقد اجتماع أزمة للمجلس الفاشي الأعلى، وهو أعلى هيئة قيادية في الحزب الفاشي (يحكم إيطاليا منذ 1922)، وكانت هذه الهيئة لم تعقد مؤتمرها منذ عام 1939، وكل شيء كان يشير إلى أن نجم موسوليني الدكتاتور الذي سطع في إيطاليا منذ 21 عاماً قد بهت وبدا خافتاً وينذر بالأفول ! لذلك أخذت الحيرة حيناً والتردد تهيمنان على الدوتشي(القائد / وهو لقب موسوليني) وعلى تصرفاته حيناً، كما كانت تنتابه حيناً آخر العصبية والهياج.
وهنا بدأ خطراً آخر يهدد موسوليني:
في هذه الظروف، ابتدأ الملك عمانؤيل الثالث الذي كان حتى هذا الوقت يبدي الولاء للحزب الفاشي، ابتدأ بإقامة الصلات السرية بواسطة وزير بلاطه أكواروي مع رئيس أركان الجيش أمبروزيو، وبدأ بترتيب الخطط من أجل عزل موسوليني. وقد ابتدأ الأمر على أنه تنظيم معارضة داخلية ضمن صفوف الحزب الفاشي ضد قيادة وديكتاتورية موسوليني.
وكان من أبرز الذين تصدوا لهذه المهمة هو دينو جراندي عضو المجلس الأعلى والمتصدي الأول لحملة الانتقادات الموجهة ضد موسوليني، الذي أخبر الملك بالخطاب الذي قد أعده تحريرياً ليكون مشروع قرار للاجتماع الذي سيعقد في 24 / تموز ـ يوليو، والذي بموجبه سوف يعزل الدوتشي.
لكن ترى هل سيستسلم موسوليني لمحاولة العزل هذه ببساطة ؟ إذ لم يكن الأمر مضموناً حتى لو كان لدى جراندي الأكثرية في المجلس الفاشي الأعلى لتمرير وإنجاح مقترحه. وبهذا يمكن القول أن خصوم موسوليني كانوا يلعبون لعبة خطرة، وذات نتائج مجهولة !
ليلة المؤامرة
في 24 / تموز ـ يوليه / 1943، وهو يصادف يوم السبت، خيمت حرارة صيفية فوق روما، فيما كان التوتر يسود أعضاء المجلس الفاشي الأعلى، كان جراندي بحاجة حتمية إلى رفاق يتحالفون معه من أجل عرض مشروعه، لذلك لم يكف عن أجراء المحادثات الموثوقة مع القادة الآخرين للحزب الفاشي، بل وحتى مع صهر موسوليني (زوج أبنته) جالبازو شيانو، الذي أبدى المعارضة للدوتشي.
في الساعة 1700 (الخامسة مساء) أنعقد اجتماع 28 من أعضاء المجلس الأعلى يرتدون ملابسهم الرسمية السوداء في قاعة الاجتماعات في القصر الذي يعمل فيه موسوليني في ميدان فينيسيا، على مرمى حجر من المبنى الروماني التاريخي الفخم، الكابيتول، وكانوا يريدون طي الصفحة الفاشية ويضعون نهاية لهذه الحقبة. ولم يكن معلوماً لديهم حتى اللحظة(علم فيما بعد) أن جراندي كان قد استعد لليلة الخناجر الطويلة (1) بمسدس وقنبلة يدوية، ولكن لم يحدث ما يستحق هذا الحذر، بل أن موسوليني كان يدرك بعمق وهو السياسي الذكي والمثقف الظروف والتهديدات، لذلك فقد تردد في اعتقال خصومه.
وفي مجرى جلسة المساء الدرامية، واجه الدوتشي حملات لا رحمة فيها ضد سياساته وشخصه. وقد أتهمه جراندي، الذي كان العنصر الأساسي في الاجتماع، أتهمه بأنه قد خان من خلال شخصه وتصرفاته المبادئ الأساسية للفاشية، وطرح للتصويت مقترحاً : تقديم موسوليني للقضاء.
وكان هذا القرار يقوم على قاعدة : دعوة الملك هو رأس البلاد الأعلى في إطار الحقوق الدستورية، وكذلك بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة، إلى تحمل هذه المسؤولية. وقد رأى جراندي في ذلك الإمكانية الوحيدة، إلى جانب الحكومة، في الحيلولة دون خطر الانهيار العسكري للبلاد، وفي التمهيد لمفاوضات وقف أطلاق النار وإقامة الهدنة.
وحاول موسوليني مع بعض رفاق حزبه الحيلولة دون الوصول إلى مثل هذه النتيجة، وأن لا تنسحب إيطاليا من جانب واحد من التزامات التحالف ومواصلة الحرب إلى جانب ألمانيا. ولكن شيانو(وزير الخارجية وصهره) أحبط هذه الفكرة بالإشارة بأن ألمانيا تخدع إيطاليا منذ بدء الحرب، وأن إيطاليا في الجانب المخان وليس الخائن !
تسعة عشر صوتاً ضد الدوتشي
عندما حاول موسوليني بحلول منتصف الليل إنهاء الجلسة وتأجيلها، من أجل كسب الوقت، أعلن جراندي، بأنه سوف لن يترك أحداً يغادر القاعة قبل اتخاذ القرار، وهنا أعلن موسوليني عن فترة استراحة لكي يتسنى له إجراء مشاورات، والتصدي لمؤامرة خصومه. ولكن الدوتشي الذي كان ما يزال تحت وطأة شعور، بأن بوسعه التعامل مع حملة الانتقادات الموجه ضده وإنه سينته منها. وحيال مقترح جراندي، حاول اللجوء إلى التحايل بأن يسحب العناصر التي لم تقرر موقفها بعد إلى جانبه بقوله : " إن مفتاح الأزمة في رأسي، ولكني سوف لن أفصح عنه " وعندما أجري التصويت لم يعد هناك من شك : ففي الساعة 2،45 فجراً كانت نتائج التصويت 19 صوتاً لمقترحات جراندي مقابل 9 أصوات لموسوليني.
لقد خلع الفاشيون زعيمهم، وأنتهي الاجتماع دون أن يتمكن الدوتشي من اتخاذ قرار ضد المؤامرة.
المحاولة الأخيرة لموسوليني
كان معظم المتمردين ال19 ضد موسوليني يعتقدون بأنهم سيتعرضون للاعتقال، ولذلك فقد بادروا إلى الاختفاء في اليوم التالي عند أصدقائهم ومعارفهم، فيما كان موسوليني ما يزال يعتقد بإمكانية حل الأزمة سياسياً. والمبادرة الوحيدة التي قام بها حيال هذا الوضع، هو طلبه من الملك تقديم موعد المقابلة التقليدية معه إلى يوم الأحد في الساعة 1700، وقد تم إبلاغه، بأن البلاط يعول أهمية على أن يحضر موسوليني مرتدياً الملابس المدنية.
مضت سيارة موسوليني في الوقت المحدد بدقة باتجاه فيلا سافويا، وهو مقر بلاط الملك في روما، دون تحسب للوضع غير الطبيعي، وقد جلب موسوليني معه بعض الأوراق التي تثبت أن التصويت على قرار المجلس الفاشي الأعلى ليس مهماً، وكان يريد أن يقنع، أو يحمل الملك فيكتور عمانؤيل الثالث، على قبول تسلم القيادة العامة للقوات المسلحة التي كان قد استلمها منه منذ قيام القوات المسلحة الإيطالية بغزو اليونان عام 1940، وأراد أن يعيدها إلى الملك. واعتقد موسوليني إن هذا الإجراء سيجعله حر اليدين في ميدان السياسة الداخلية.
كما أن الدوتشي أعتقد أن إعادة شاملة لتأسيس مجلس الوزراء الذي سيكون واجبه الرئيسي إنهاء الحرب وهو، موسوليني، كان يأمل أن يجنب إيطاليا الاندحار العسكري. وكان قد تحدث موسوليني في ذلك هتلر في إمكانية التوصل إلى سلم منفصل على الجبهة الشرقية، الأمر الذي سيعزز مكانة المحور في الجناح الجنوبي ضد الحلفاء.
التفاوض
أرغم الملك فيكتور عمانؤيل الثالث موسوليني على الاستماع إليه ولم يمنحه الفرصة للحديث، بل ابلغه باختصار، بأنه وبسبب الموقف العسكري المتأزم والمتدهور، والتطورات التي جرت خلال 24 ساعة المنصرمة، أحداث ترغمه على خلعه من منصب كرئيس للوزراء، وأنه قد عين المارشال بادوليو كخلف له. وفي هذه اللحظة فقط أدرك الدوتشي بأنه قد خسر المعركة من أجل السلطة، ونهض خارجاً يرافقه الملك صامتاً.
وكان مستشاروا الملك عمانؤيل الثالث قد أقنعوه، بأن اعتقال موسوليني سيكون بسيطاً ودون ضجة أو مقاومة، وكانت منطقة القصر وما يحيط بها قد استعدت لمثل هذه الحالة، والسيارات المرافقة للدوتشي كانت كالعادة أمام البوابة الرئيسية، خارج مكاتب القصر، فيما استدعي سائق سيارة موسوليني بحجة مكالمة هاتفية، حيث ألقي القبض عليه.
وعندما أراد موسوليني التوجه إلى سيارته، تقدم إليه ضابط برتبة رائد يحمل غدارة، وأدلى بهذه الكلمات: " أن جلالته قد أمرني أن أتولى حماية سيادتكم " وطلب إليه أن يصعد سيارة إسعاف تابعة للصليب الأحمر.
لم يبدي موسوليني أي مقاومة، ومن مدخل جانبي غادرت العربية موقف السيارات لقصر فيلا سافوي إلى هدف مجهول. وبهذا الأسلوب السياسي/ ألتآمري غادر موسوليني المسرح السياسي الذي هيمن عليه لمد 21 عاماً.
مصرع موسوليني
أثارت إنباء سقوط موسوليني الفرحة والابتهاج بين صفوف الإيطاليين، ولكن النهاية المفاجئة للديكتاتور لم تكن تعني نهاية قريبة للحرب، بل إنها قسمت البلاد من الشمال والوسط والجنوب الإيطالي الذي حرر من قبل قوات الحلفاء ولكن بخسائر فادحة.
وفي 12 / أيلول ـ سبتمبر / 1943 تمكنت وحدات من القوات الخاصة الألمانية من مداهمة السجن في جرانزازو وتحرير موسوليني. الذي نجح بتأسيس حكومة تابعة للألمان في جاراداسا لمواصلة الحرب.
ولكن كل شيء أنتهي في نهاية ابريل 1945 عندما القي القبض عليه مع عشيقته من قبل الأنصار، واعدم رمياً بالرصاص.
****************
(1) ليلة الخناجر الطويلة، هي الليلة التي صفى فيها هتلر خصومه في الحزب النازي الألماني والعبارة هنا لغرض التشبيه ـ المترجم)
*******
المصدر
Wie geschah es Wirklich
Reader Digest / The Beste
1990 Stuttgart
3328 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع