هكذا عرف العراق البريد والبرق قبل ١٥٠ سنة
قبل ستينيات القرن التاسع عشر، كانت عملية نقل البريد الخاص بإيالة بغداد تتم بواسطة وسائل نقل بدائية جداً اتسمت ببطء عملها، كما أن حكومة الإيالة لم تسع الى إنشاء دائرة خاصة بإدارة البريد، حيث كان البريد الخاص بالحكومة العثمانية في إيالة بغداد يتم نقله بواسطة رجال عرفوا بإسم (التتارية) احترفوا هذه المهنة وأنفردوا بالقيام بها دون غيرهم،لكونهم كانوا يتمتعون بقدرة كبيرة على تحمل مشاق السفر. وجعلت هؤلاء تحت إشراف شخص يدعى (تاتار آغاسي) أي المسؤول عن شؤون البريد.
وكان هؤلاء ينقلون البريد من مدينة بغداد الى العاصمة استانبول، ويستغرقون في ذلك مدة تتراوح من اثني عشر الى عشرين يوماً مارين باثنتين وأربعين مدينة خلال سفرهم، وكانت حكومة الإيالة تمنح هؤلاء أجوراً معينة لقاء عملهم هذا.
كما أن حكومة الإيالة اعتمدت على هؤلاء التتارية في نقل بريدها الى حلب، وكذلك نقل بريدها الى العاصمة الإيرانية طهران. وكانت تلك الخطوط مخصصة لنقل البريد الخاص بالحكومة العثمانية في إيالة بغداد فقط.
أما تجار إيالة بغداد فقد كانوا يفضّلون نقل بريدهم عن طريق بريد الهجين، أو بريد الجمال، التابع لشركة الهند الشرقية البريطانية، حيث كان هذا الخط ينقل البريد الخاص بالحكومة البريطانية ويعمل بين إيالة بغداد والشام، ويتولى إدارة شؤونه المقيم البريطاني في إيالة بغداد. كما يقوم بحماية هذا الخط شيوخ العشائر العربية الذين يتقاضون أجوراً معينة لقاء عملهم هذا. وكان لهذا البريد منزلة كبيرة لدى تجار إيالة بغداد، حيث كانوا يفضّلون نقل رسائلهم من خلال ذلك البريد بسبب تنظيمه وضمان وصوله.
كما كان هناك بريد آخر أطلق عليه (بريد الخيل)، تابع أيضاً لشركة الهند الشرقية البريطانية، وقد تولى هذا الخط نقل البريد الخاص بالحكومة البريطانية من البصرة الى مدينة بغداد، ثم الى الموصل وماردين وديار بكر حتى يصل العاصمة استانبول. إلا أن الحكومة البريطانية قامت سنة 1841 بإلغاء تلك الخطوط لنقل البريد، لا سيما بعد أن جلبت باخرة خاصة لنقل البريد تعمل بين البصرة ومدينة بغداد.
أما سكان بغداد، فقد كانوا يفضلون استخدام وسيلة أخرى لنقل بريدهم، وذلك من خلال المسافرين الذين كانوا ينزلون في (خانات) المدينة، فيعطوهم رسائلهم لكي يوصلونها الى الجهة التي يقصدونها أو التي جاءوا منها.
وبعد حركة التنظيمات الإصلاحية التي شهدتها الدولة العثمانية منذ صدور مرسوم كلخانة سنة 1839، بدأت الدولة العثمانية تفكر جدياً بإصلاح وسائل نقل بريدها بين الإيالات التابعة لها، وأدركت ضرورة إيجاد وسائل سريعة لنقل البريد وتنظيمه وفق أساليب حديثة،
ففي سنة 1847 أصدرت الدولة العثمانية نظام (الطوابع) الذي نص على ضرورة لصق طابع بريدي على الرسائل التي تصل الى العاصمة استانبول من إيالاتها، أو على الرسائل التي تنقل بين إيالة وأخرى. وقد طبق هذا النظام في إيالة بغداد حال صدوره حيث بدأ استعمال الطوابع على الرسائل المرسلة من إيالة بغداد الى العاصمة استانبول أو الى الإيالات الأخرى.
وبعد أن شرعت البواخر النهرية بالعمل منذ أواخر خمسينيات القرن التاسع عشر، أخذت هذه البواخر، وفي مقدمتها الباخرتان بغداد وبصرة، تقوم بمهمة نقل البريد بين مدينتي بغداد والبصرة. كما أن الوالي محمد نامق باشا في ولايته الثانية أنشأ خطاً آخر لنقل البريد بين مدينتي بغداد والبصرة، وعيّن له سعاةً من أبناء العشائر العربية القاطنة بين المدينتين، مقابل أجور معينة، لنقل البريد مرتين في الأسبوع. بالإضافة الى أن هذا الوالي أنشأ خطاً بريدياً آخر بين مدينتي بغداد والبصرة يمر عبر أراضي الديوانية، وقد خصص هذا الخط بشكل كامل لأغراض سياسية وعسكرية خاصة بحكومة الإيالة فقط.
أما عن البريد بين مدينة بغداد والعاصمة استانبول، فقد بقي يعتمد على رجال من التتارية في نقله، كما استخدمت حكومة الإيالة الخيول في نقل البريد من مدينة بغداد الى العاصمة استانبول، حيث اعتمدت بشكل كبير على رجال من عشيرة عنزة، يتقنون ركوب الخيل، في نقل البريد الى العاصمة استانبول. وكان هذا البريد يغادر مدينة بغداد كل يوم اثنين، ويمر بمدن الموصل وديار بكر حتى يصل الى العاصمة استانبول.
وكانت البصرة تمثل أهم مراكز نقل البريد في إيالة بغداد، حيث كان يصل إليها بريد الحكومة البريطانية من الهند، والذي يراد نقله الى العاصمة استانبول مروراً بمدينة بغداد. أو الذي يراد نقله الى بريطانيا عن طريق إيالتي حلب وبيروت.
وفي أواخر ستينيات القرن التاسع عشر، سعت الدولة العثمانية الى عقد معاهدة مع بريطانيا، نصت على نقل بريد الحكومة العثمانية في إيالة بغداد وموظفيها على متن البواخر البريطانية العاملة في نهر دجلة، كما تم الإتفاق على أن يكون نقل ذلك البريد مجاناً، بشرط أن يختم الغلاف الرسمي بختم الدائرة المرسلة، وأن لا تحتوي تلك الرسائل على خطابات خاصة.
البرق (التلغراف)
لم يستخدم البرق في إيالة بغداد إلا في ستينيات القرن التاسع عشر، إذ سعت الدولة العثمانية منذ سنة 1857 الى عقد إتفاق مع بريطانيا من أجل إنشاء خطوط للبرق في إيالة بغداد. وتماشياً مع أوضاع التنظيمات الإصلاحية التي قامت بها الدولة العثمانية، فقد أصدرت سنة 1859 (قانون البرق) الذي نص على ضرورة تأسيس خطوط للبرق بين جميع الإيالات التابعة للدولة العثمانية، حيث كانت تهدف من وراء ذلك بسط سلطتها المركزية المباشرة على تلك الإيالات ومحاولة تأمين الأمن والنظام فيها. كما أكد هذا القانون، على منح الأولوية لمراسلات الدولة العثمانية التي تتم عن طريق البرق، ومن ثم مراسلات الدول الأجنبية، ثم مراسلات التجار. وأكد على سرية المخابرات.
وبعد عقد الاتفاق العثماني البريطاني الذي نص على إنشاء خطوط للبرق داخل إيالة بغداد على نفقة الدولة العثمانية بإدارة مهندسين بريطانيين، تم العمل على وفق ما جاء به ذلك الاتفاق، فأنشئ أول خط للبرق سنة 1861 قادماً من الهند عن طريق البصرة، ومن ثم الى مدينة بغداد ممتداً في قاع نهر دجلة، ومن مدينة بغداد حتى العاصمة استانبول.
وفي سنة 1863 جرى عقد اتفاق آخر بين الدولة العثمانية وبريطانيا من أجل إنشاء خط آخر يمتد من مدينة بغداد الى منطقة الفاو في البصرة. ويبدو من ذلك أن الحكومة البريطانية كانت تهدف من وراء إنشاء ذلك الخط تعزيز مصالحها بشكل أكبر في إيالة بغداد. فتم الاتفاق بين المقيم البريطاني كامبل والوالي محمد نامق باشا على إجراء عملية مسح لجميع الأراضي الواقعة بين مدينتي بغداد والفاو، لمدّ ذلك الخط. وقد واجه هذا العمل بعض الصعوبات لا سيما من قبل العشائر المتمردة على حكومة الإيالة التي كانت تلجأ الى تخريب هذا العمل كرد فعل عدائي ضد حكومة الإيالة. إلا أن هذا الخط أنجز وتم استخدامه سنة 1865.
وعلى أثر ذلك أسست دائرة البرق في إيالة بغداد سنة 1865، وكان مقرها مدينة بغداد في منطقة باب المعظم، من أجل إدارة شؤون البرق في الإيالة. كما أسست حكومة الإيالة دائرة أخرى في مدينة الفاو، وجعلت جميع موظفيها من العثمانيين على الرغم من إنجاز خط بغداد- الفاو بمساعدة بريطانية. إلا أنه بعد ذلك سمحت الحكومة العثمانية للمقيمية البريطانية في بغداد بتأسيس بناية للبرق خاصة بالإتصالات البريطانية، إلى جانب دائرة البرق في الفاو، على أن تفتح بين البنايتين نافذة لتبادل المراسلات بينهما. وقد فرضت الدائرة العثمانية رقابتها المباشرة على بناية البرق البريطانية من خلال عدم السماح لها باتخاذ أي إجراء إداري ومحاولة توسيع نطاق عملها إلا بموافقتها.
وبعد منتصف ستينيات القرن التاسع عشر، أصدرت الدولة العثمانية أمراً الى حكومة إيالة بغداد بالعمل على مد خطوط للبرق داخل الإيالة لربط جميع مناطقها بخطوط برقية منتظمة مما يسهل عليها حكم تلك المناطق بشكل مباشر. فبدأت حكومة الإيالة تعمل على تحقيق ذلك العمل فأنشأت خطاً للبرق بين مدينة بغداد ومدينتي كربلاء والنجف، وأنشات خطاً آخر بين بغداد وخانقين من أجل إيصاله الى العاصمة الإيرانية طهران.
أما عن أجور البرق في إيالة بغداد، فقد كانت مرتفعة جداً، حيث كانت تحسب على المسافة وعدد الكلمات، فكان سعر الرسالة البرقية التي تحتوي على عشرين كلمة، عشرة قروش. في حين كان سعر الرسالة البرقية بين إيالة بغداد والإيالات الأخرى كالموصل وديار بكر واطنة وحلب وأرضروم، خمسة عشر قرشاً لكل عشرين كلمة. أما الإيالات البعيدة كالبوسنة، فقد كان سعر الرسالة التي تحوي عشرين كلمة، سبعين قرشاً.
عن رسالة : الإدارة العثمانية في إيالة بغداد(1831م- 1869م)
المدى /نيزك سعيد عبد الكريم
1045 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع