أيام زمان - الجزء الواحد و العشرون / التصحيف
تجليد الكتب أو التصحيف من أقدم المهن المعروفة، أما أصل الكلمة لغوياً فمشتق من الجلد، ويُقصد به وضع الجلد على الكتاب وشدّه، والمجلِّد من يعمل بهذه المهنة، أما المجلَّد فالجزء من الكتاب المنقسم إلى أجزاء. وتطلق في العراق لمرادفات التجليد التصحيف، وفي المغرب العربي التسفير وصاحب المهنة المصحِّف نسبة إلى المصحَف والمسفِّر والسِفْر وهو الكتاب، وتبدّل شكل الكتاب من اللفيفة أو مجموعة الرُّقُم إلى كتاب المؤلف من عدد من الرقوق، أو الألواح مرتبة بعضها فوق بعض ومربوطة من طرفها الأيمن أو الأيسر أو من الأعلى بحسب طريقة الكتابة.
احتل الكتاب منزلة مهمة في تاريخ الحضارة الإنسانية، فقد استحدث منذ عرف الإنسان الكتابة، فكان السومريون يدوِّنون النصوص الطويلة على رُقُم طينية ويرقمونها، كما ترقم صفحات الكتاب اليوم، وسبقت مصر منذ الألف الثالث قبل الميلاد إلى ابتكار لفائف ورق البردي بأحجام مختلفة يُلصق بعضها إلى بعض، وتكون الورقة الأولى من اللفيفة أكثر سمكاً من الأوراق الأخرى، لتحفظها من التلف، كذلك استعملت في الكتابة ألواح الخشب والعاج المغلفة بالشمع ،وكانت تجمع وتحفظ في صناديق خاصة، ثم اهتدى الإنسان إلى استعمال الجلد والرق جنباً إلى جنب مع البردي.
كان للمسيحية دور مهم في تطوير شكل الكتاب، ذلك أن انتشارها تطلّب نسخ الكتاب المقدس وتوزيعه على دور العبادة، ويعتقد أن أول ظهور التجليد في أديرة الأقباط ومنهم اقتبس الروم والعرب فن التجليد وطوَّروه. وتفنن الشعوب في طريقة التجليد وبلغوا فيه الغاية في الإتقان والجمال، والغاية منها حفظ أوراق الكتاب وضمها بعضها إلى بعض ضمن غلاف يقيها من التلف.
مرَّ تغليف الكتاب بمراحل مختلفة فبدأ باستخدام ألواح الخشب غلافاً واقياً، فكان يزخرف ويطعّم بالعاج أو يكسى بصفائح الذهب والفضة، أو بالقماش والحرير المطرز، ويزين بالأحجار الكريمة. ثم استبدل بألواح الخشب الكرتون أو الورق المقوى، واستبدلت بصفائح الذهب والفضة وشرائح الجلد التي غدت المادة الرئيسية في فن التغليف ومنحته اسمها، ويعدّ الأقباط أول من استعمل الجلد في هذا التجليد، وانتقل على يد المسيحيون إلى المشرق وبلاد فارس وما وراءها.
يستعرض المتحف البيزنطي المسيحي في العاصمة اليونانية أثينا، نماذج من فنون تجليد الكتب تمتد من القرن الحادي عشر حتى اليوم، يركز على دراسة فن التجليد، في العهد البيزنطي وما بعده، وبينها مؤلفات كتبت بخط اليد، وترافق الكتب مادة مسموعة ومرئية لزيادة الشرح بشأن نفس الموضوع.
أما الكتب القيمة ولا سيما الدينية منها، كانت تجلّد بالحرير المطلي بالذهب أو بالفضة، وتزين بالحجارة الكريمة وترسم على الغلاف، صور لتنين طائر أو نسر برأسين، وكان يراعى في الغلاف أن يكون سميكا بحيث يحفظ الكتاب من الحرارة والرطوبة، كما يراعى في الزوايا وضع أربع زوائد معدنية بحيث تحميه من الصدمات والاحتكاكات. حيث نقل فنيين بيزنطيين حرفة التجليد، بعد سقوط القسطنطينية بيد العثمانيين إلى أوروبا، وجزيرة كريت التي كان يحكمها الجنوبيون، ثم تراجع فن التجليد لعدة قرون، ليزدهر من جديد في القرن التاسع عشر على أسس أوروبية هذه المرة.
وتأثير التجليد البيزنطي استمرّ على هذه الصناعة خلال القرون التالية، ويبدو ذلك في الكتب التي خرجت من جزيرة كريت خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، كما ظهرت تأثيراتها فيما بعد على التجليد في أوروبا بأشكال متفاوتة، فن التجليد البيزنطي كانت له ملامح خاصة مثل الرؤوس العالية والزينة المعروفة التي تصور الحيوانات الأسطورية كالتنين والنسور ذات الرأسين وغيرها، دون الالتزام بلون أو حجم معين. وفن التجليد مصدرا من مصادر معرفة التاريخ، والاقتصاد، والسياسة، والتيارات المعرفية والفنية، السائدة في تلك العصور، فالغلاف الفخم كان يدلّ على ثراء وقوة الإمبراطورية البيزنطية والكنيسة، كما كانت الرسوم التي تزين الغلاف تعالج قضايا دينية واجتماعية، تهمّ المجتمع البيزنطي في تلك الفترة، مثل الصراع بشأن الصور الدينية.
تجليد الكتاب أو تسفيره هو آخر مرحلة من مراحل صناعة الكتاب، وأكثرها تعقيداً. فتجليد الكتاب تجليداً فنياً يتطلب استعمال ما لا يقل عن عشر مواد مختلفة، ويمر بما لا يقل عن ثماني عشرة خطوة ليصبح جاهزاً للبيع أو التوزيع، وقد ظلت مبادئ فن تجليد الكتب على مرَّ التاريخ إلى اليوم على ما هي لم تطرأ عليها سوى تبدلات قليلة بالموازنة مع ما شهدته أعمال التأليف والطباعة من تطورات. وما تزال عمليات طي الملازم (الكراريس) وجمعها وخياطتها أو لصقها تنفذ على نحو ما كانت عليه في التجليد اليدوي، إلا أنها غدت مؤتمتة تستخدم فيها المكائن جزئياً أو كلياً في عمليات الإنتاج بالجملة.
يمر تجليد الكتاب بمرحلتين منفصلتين الأولى جمع أوراق الكتاب المطبوعة وترتيبها وربطها في سفر واحد، والثانية إعداد الغلاف الواقي وتثبيته على السفر، وأكثر الكتب والدوريات التي تصدر اليوم يجلد آلياً. وتتوقف نوعية التجليد على أهمية الكتاب والغاية منه ودرجة زخرفته وتواتر استعماله ومدة حفظه، أما أهم المواد المستعملة في صنع الغلاف فهي القماش والورق والجلد والخيوط المتينة والغراء بأنواعه.
فالصحاف هو الفنان المجلد للكتب وله أدواته الفنية في ممارسة عمله مثل المخصف يستعمله لثقب ملازم الكتاب المراد تجليده يخيطه بالإبرة الغليظة والخيط الغليظ نوعما ، يشمع الخيط بشمع العسل ليسهل مرور الإبرة والخيط ويحتاج الصحاف الى المقص والشفرة ليقص بها المقوى والورق المعشر المستعمل في تجليد الكتب ويحتاج الى نوع من اللاصق يدعى (الشريس) يلصق به الورق أو الجلد على المقوى السميك ويستخدم صخرة أو قطعة من المرمر لا يتجاوز طولها أو عرضها الأربعين سنتمتر وسمكها لا يزيد على عشر سنتيمترات ومكبس من الخشب، يكبس به الكتاب بعد الفراغ من عملية التجليد ويصبح الكتاب مجلداً يمكن بقاؤه الى سنوات قادمة وقد يرثه الأبناء عن الآباء فالكتاب الجيد نعم ذخر المرء لأولاده وأحفاده ، وقبل بدء عملية التجليد يفسخ الكتاب الى ملازمه المطبوعة وتصلح أوراقه التالفة ويرتب بصورة منظمة لتبدأ خياطته أولا توضع جلدة وسط الظهر لتمسك بين الدفتين ويخاط الكتاب ملزمة وملزمة أي توضع كل ملزمة وتخاط حسب تسلسلها .ثم تقسم ملازم الكتاب الى أربعة أقسام يخاط كل قسمين معاً فتكون كراسة واحدة ويخاط مع الكراسة الأخرى المكونة من القسمين الآخرين حسب تسلسل الترقيم فيكون الكتاب واحداً ويطلق على هذه العملية التجليد الممتاز (التجليد الإفرنجي) . وهناك الطريقة البسيطة فيستعمل المخصف في ثقب جميع أوراق الكتاب وخياطته مرة واحدة، وهو أبسط أنواع التجليد
والتجليد على أقسام أربع اصطلح الصحافون عليها من حيث جودة التجليد وجماله ومتانته. التجليد الممتاز (الإفرنجي) تكون خياطة الكراسات بعناية تامة وبشكل جيد يكسى بنوع جيد من القماش المصنوع من الكتان الجيد ويغطى بجلد حيواني رقيق ولماع يطلق عليه (جلد كلاصي) وكان سعر التجليد من هذه النوعية فيما سبق 200 فلساً، أما في الوقت الحاضر تضاعف المبلغ بعشر أمثاله. والتجليد العصري: يخاط الكتاب بشكل كراسات وتكون المقوى جيدة والكعب من جلد الحيوان أي توضع جلدة من الأعلى الى الأسفل على طول الكتاب لتمسك بالكراسات وتصفها موحدة كما هو الحال في التجليد الإفرنجي ويبطن الغلاف بالورق المعشر ولون الغلاف اسود أو أحمر ويتراوح سعر التجليد من هذا النوع سابقاً من 120 ـ 150 فلساً. والتجليد المتوسط يوضع الكتاب بين دفتين من المقوى وبطانته من الورق الأبيض وكعبه من الكتان وسعر تجليد الكتاب من 80 ـ 100 فلساً. والتجليد العادي وهو أقل الأنواع وتجلد به الكتب المدرسية ويتم بالخصف والخياطة مرة واحدة لكل الكتاب لجمع ملازمه ويوضع بدل الكتان للكعب الخام الأسمر (الساحلي) وسعر التجليد من 25 فلساً هذا ما كان عليه قبل الخمسينات.
وهناك عملية أخرى ترتبط بتجليد الكتب ومتعلقة بصيانة الكتاب وحفظه وجماله يطلق عليها (الشيرازه) يقصد بها خياطة الكتاب من الأعلى ومن الأسفل بالجلد والورق وتتم هذه العملية بعد تمام تجليد الكتاب وبهذه الشيرازة يبقى الكتاب محتفظاً بدفتيه ولا يطرأ عليه تفسيخ تتم حياكته بصورة متينة وتعطيه بنفس الوقت لوناً جاذباً والخيوط المستعملة في الشيرازه ملونة فتضفي جمالاً على الكتاب وعلى الخصوص اذا كان الكتاب مرموقاً مجلاً مثل الكتب الدينية والفكرية الراقية وبعض كتب الأدعية ، فتلك الكتب تستحق الشيرازة ، وكثرة الصحافين في البلدة يدل على رواج الكتب وكثرة تداولها والعناية بها وهذا دليل ثقافي لتلك البلدة ودليل معرفة مستوى العلم فيها ، وقد على سبيل المثال كان في كربلاء صحافون يشغلون غرفاً داخل صحن الروضة الحسينية ببيع الكتب فيها فكان الصحاف يجلد الكتب ويبيعها أيضاً ، ولم يقتصر التجليد على الكتب وإنما كانت تجلد الرقي والأدعية والطلسمات التي يكتبها الملالي ، وفي أواخر الأربعينيات اخرجوا من داخل الصحن فالمكان لا يناسب البيع والشراء فيه فاستأجر الصحافون الحوانيت خارج الصحن وبعضهم غادر المدينة الى بغداد والمدن الأخرى.
في التجليد الفني يتم إعداد غلاف الكتاب منفصلاً ثم يربط به من جهة الكعب، فإذا كانت الملازم مخيطة فيكون التجليد بالخياطة الفنية. ويتألف الغلاف من لوحين من الكرتون السميك لوجهي الكتاب وشريط من الكرتون أو الورق للكعب، تغلف جميعها بقماش مشرب بالشمع أو اللدائن، أو بالجلد الطري، أو بالورق المشمع المزخرف. وتتم الكتابة والزخرفة على الغلاف بطبع الكلام المطلوب قبل إعداد الغلاف أو بأسلوب الختم بعد تركيبه، ويستعمل فيه الختم بورق الذهب أو بالأحبار الملونة أو بالختم النافر بالحرارة. ويتم تثبيت الغلاف على الكتاب بتغرية الوجه الداخلي لكل من اللوحين وزوائد قماش التبطين على الكعب ثم وضع الكتاب بين دفتي الغلاف وضغطه بمكبس خاص.
أما الكتاب شكل المخطوطة القديمة المؤلّفة من كرّاسات. فكانت تتمّ حياكة مجموعة الكراسات على لوحين خشبيّين. وبعد أن يقوم الحرفي المجلّد بوضع الكراسات في الترتيب الصحيح، يضعها لبعض الوقت تحت جسم ضاغط، قبل أن يحيك الكرّاسات بعضها ببعض. ثمّ يعمد إلى خياطة حبال صغيرة في ظهر الكتاب المجلّد، لتشكّل نتوءاً ظاهراً وهو ما يعرف بالطريقة اليونانيّة، فتأتي الخيوط ضمن الطيات الناتجة في ثنايا الكرّاسات (تجليد على ظهر مطاول). فيشكّل بذلك مجموعة الكرّاسات، ويربطها معاً وفي الوقت عينه يخيطها إلى اللوحين الخشبيّين. كانت هذه الطريقة الأكثر شيوعاً من دون منافس، إذ أنّها تؤمّن أفضل صلابة لمجموعة الكرّاسات. ويتمّ جمع اللوحين الخشبيين بواسطة خيطين، أحدهما من أعلى والثاني من أسفل، وتُستخدم صفحتا الوقاية لحماية داخل الألواح الخشبيّة، فيما يتمّ صبغ حافة التجليد أو تذهيبها.
لا يشمل التجليد البيزنطيّ امتدادات إضافيّة، أي أنّ الألواح الخشبيّة مقصوصة وفق أبعاد الكتاب الدقيقة. بالتالي تأتي المدرّجة التي تمّت حياكتها على ظهر الكتاب المجلّد، في أعلاه وأسفله، أعلى من الألواح الخشبيّة التي تشكّل أساسها، ويغطّيها الغلاف. إنّ هذا النوع من التجليد مع المدرّجة العالية والغطاء المتجاوز الحدود مميّز إلى حدّ أنّ المخطوطات اليونانيّة وحتّى المطبوعات اليونانيّة التي تمّ تجليدها في الغرب في القرن السادس عشر وحتّى بداية القرن السابع عشر قد غلّفت وفق الطريقة اليونانيّة.
المصادر
فن تجليد الكتب أيام زمان في كربلاء عن كتاب (كربلاء في الذاكرة).
مواقع ووكالات الأخبار
Reliures royales de la Renaissance : la Librairie de Fontainebleau, 1544-1570, BnF, 1999
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/mochtaratt/51142-2021-10-15-11-54-17.html
4018 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع