أيام زمان الجزء العشرون / التنجيد
التنجيد مهنة قديمة تسللت من أيدي الجدات الى المنجدين المحترفين، وباتت من التراث والفلكلور، الذي فقد سطوته على الساحة الشعبية، بعد أن كان المسيطر على كل حفلات التنجيد بالحواري والأزقة والدروب، التي كان بمجرد وصول صداها إلى الأذان، يعلم المستمعون بأن هناك عرس قيد التجهيز، ووصل لمرحلة إعداد اللحفان والمخدات والمطارح.
بتغييرات كثيرة مرت حفلات التنجيد، التي كانت تقام في أفنية المنازل القديمة وعلى الأسطح، وتبدأ بدعوة بعض النساء والصبايا من أهل العروس حول المنجد، وهو يقوم بعمله، يحملن الدفوف ويتغنين بالأغاني التراثية والفلكلورية، وغيرها مما اعتدن عليه وتوارثتها الأجيال، حتى نهاية نهار يوم التنجيد، وسط جمع من الجيران والأحبة.
ولكن بعد ظهور أجهزة تسجيل الأغاني، ونتيجة لتطور الأفكار المجتمعية ظهرت عادات وأفكار جديدة ليوم التنجيد، وأصبح المشهد السائد له هو تجمع الشباب والبنات من أبناء الحي، وأهالي العروسين أمام منزل العريس المتواجد فيه المنجد، يتراقصون على أنغام الأغاني الشعبية، مستعرضين مفروشات وأثاث العروس معلقة على حبال ممتدة بعرض الحارة القاطن بها منزل العريس، ويتسمر الوضع على هذا الحال حتى ينتهي المنجد من دق وعزق مراتب ومفروشات الزواج، وحاليا انقرضت هذه العادات.
ولسنوات طويلة تربعت تلك المهنة على عرش الحرف اليدوية، وظلت واحدة من أبرز وأهم معالم رحلة التجهيز للعرس، وكان أصحابها يتنافسون فيما بينهم على صناعة أفضل المفروشات، فأخرجت أجيالا من المنجدين المهرة فيها، وانتشرت محلاتهم في كافة الأحياء الشعبية.
والمنجد يسمى القطان (النداف) هذه الحرفة كانت خير شاهد على التاريخ، فالقطان والنداف اسمان لحرفة واحدة لكننا لا نجد لها اليوم أثراً إلا الذكريات عند الآباء والأجداد استمرت حتى الخمسينيات وهي حرفة يدوية تعتمد على مادة القطن فتحوله إلى صناعات ومنتوجات مختلفة كالمساند والمخاد والبطانيات والأغطية (اللحاف) والمطارح والفرش.
تعد مهنة التنجيد من المهن التي لها جذور في التاريخ، عرفتها معظم الحضارات القديمة مثل الفرعونية والإغريقية والرومانية، وفي العصر الحديث لا يجد مكاناً إلا وبه أثر لمهنة التنجيد، تعتبر من أهم المهن التي عرفت في تاريخ العراق، كما تعد مهنة التنجيد مهنة تراثية، يعود عمرها إلى مئات السنين، لكن ما يجمع المنجدين في العالم هي حرفة تتوارث عادةً أباً عن جد، وعلى الرغم من التطوّر الصناعي والاعتماد على الآلات الحديثة في معظم المهن والحرف، إلا إننا نجد البعض يتمسك بالأصول والأساليب القديمة، ليتحدى بها التطور بأدواته البدائية، وخبرته العالية، لكن ما مدى القدرة على مواجهة التحدي في ظل الغزو الصناعي الحاصل، فقبل انتشار تكنولوجيا صناعة الوسائد والأغطية والبطانيات والفرش، لم يكن في المنزل سوى اللحاف كوسيلة للتدفئة والوقاية من برد الشتاء ، وكانت هذه المهنة تدخل في مستلزمات تأسيس كل منزل جديد.
وهي من المهن التقليدية القديمة وللأسف هي في طريقها إلى الانقراض، أو انقرضت تقريبا في أكثر المناطق في الوقت الحالي، لعدم الاهتمام بها من قبل المعنيين وإهمالها من قبل الجميع. والتنجيد هي من الحرف اليدوية الفنية، التي تجمع بين حرفية الصنعة، وتجليّات المبدع في إضافة شيئاً من روحه وإبداعه على المنتج الذي يقوم عليه، وهي مهنة تستوعب الاجتهاد، وتطلق العنان للإبداعات الفردية، وتُساعد على التميّز والإضافة، لارتباطها بمقتنيات البيت وتجهيزه من ناحية، والوضع الاقتصادي لصاحب المنتج وما يرافقه من بذخ في خامات المشغول، خاصة بعد أن كان التنجيد يعتمد على صوف الغنم والماعز والخيوط والأقمشة المستخدمة.
صاحب الحرفة والمهنة الذي يتعامل مع مادة القطن الخام، ومن خلال ذلك يوفر للأفراد وللأسر والبيوت، ما يحتاجونه من مختلف أنواع الأثاث، التي يحتاج إليها كل فرد كما يقوم القطان حسب الطلب بتجهيز الأثاث اللازم لغرف النوم، وغرف استقبال الضيوف وما يحتاجه الحجاج في موسم الحج من الفرش وغيره أثناء أداء فريضة الحج قديما، كما يعمل القطان على تجهيز غرف الأعراس ومناسبات حفل الزواج والمناسبات المختلفة، ولهذا فإن حرفة القطان عادة تكون لصيقة بالإنسان منذ القدم لحاجته إلى أنواع مختلفة من الأثاث المنزلي وغيره، ولقد كان الخان هو أول الأماكن في جمع أصحاب حرفة التنجيد فاحتضن عددا من الدكاكين أصحابها الذين يعملون في هذه المهنة.
أما العوامل التي أدت إلى اندثار هذه المهنة، منها ظهور الإسفنج الذي اكتسح السوق واحتل مكان الصوف والقطن وذلك لسهولة تنجيده، وتقلص عدد معلمي هذه الحرفة والمردود المادي القليل الذي تعود به إلى الحرفي، بالإضافة إلى عدم وجود من يرعى هذه المهنة ويهتم بتوسيعها وتطويرها. فقد غزت الأغطية واللحف والوسادات الجاهزة كل البيوت، ولم يعد الجيل الجديد يهتم على ماذا سينام أو ماذا سيضع تحت رأسه، مع إن النوم على القطن والصوف يُفيد الجسم ويريحه.
في الماضي كانت أم العروس أو العريس تجهز جهاز ابنتها وابنها، من لحف وفرش ووسادات ذات أقمشة حريريه ملونه وجميلة، وكان المنجد يتفنن كثيراً بزركشة اللحف، والتطريز عليه من الرسومات والأشكال الهندسية حسب الطلب منها طيور الحب، النجمة، الوردة، ورق الصنوبر، وغيرها من الأشكال التي كانت تلقى طلباً، ورغم ظهور اللحاف والبطانيات المصنوعة ألياً والذي لا تحتاج في صناعته إلى المنجد كونها تصنع من الفايبر وتخاط بماكينة، وليس باليد كما كان اللحاف القطني، إلا أن المنجد ما زال منتشرًا في البلدان العربية
وخاصة في الأرياف، وإن كان قد خسر الكثير من زبائنه بفعل هذا التطور وانتشار البطانيات ورخص سعرها.
لابد للمنجد من حيازة أدوات مهنته الرئيسية، فالقوس وهو أداة خشبية مقوسة يتراوح طولها من متر إلى متر ونصف مربوطة بوتر غليظ، ويصنع الوتر من الأمعاء الدقيقة للخروف، ويلزم للوتر الواحد أربعة أمعاء تشكل أربعة بتوت هي المادة الأولية للوتر ويفضل أن تكون الأمعاء لخراف بلغت سنة من العمر.
والمطرقة وتسمى الجك وهي أداة خشبية قصيرة بنهاية عريضة، ولها مقبض بطول 15 سم، بالإضافة الى عصا مأخوذة من شجرة رمان أو خيزران. مع خيوط بيضاء وملونة وأبر خياطة كبيرة والكشتبان ومشرطاً حاداً ومقص.
تبدأ عملية التنجيد بإحضار القطن أو الصوف للمنجد بعد غسله جيداً، وتنشيفه، ويقوم المنجد بفرد القطن أو الصوف ويفكك الكتل المتلبدة عن بعضها، وفصل ما به من بقايا خيوط أو شوائب، وبعدها يبدأ المنجد بعملية النفش أو التنعيم من خلال الضرب بالعصا عدة مرات، ويقلب لإتمام عملية التفكيك وفرز الرمال والشوائب منه، ثم يقسمها إلى أقسام صغيرة بانتظار عملية الندف، وحديثاً ظهرت آلات كهربائية خاصة للنفش والتنعيم.
يجلس المنجد قبالة كومة القطن، تاركاً مساحة لنثر القطن المندوف، وتبدأ العملية بضبط الوتر عن طريق إصبع الدوزان، حيث يشد الوتر ويضرب عليه بالمدقة، والمنجد الخبير يتعامل مع قوسه كما يتعامل الموسيقى مع أوتار آلته، يلامس الوتر كومة القطن في الثلث الأول منه، ويضرب بالمطرقة عند المنتصف أو بداية الثلث الأخير فيصدر نغمة عريضة مكتومة، تلتف ألياف القطن على الوتر، يرفع القوس إلى الهواء ويدق المدقة الثابتة فينثر الوتر حمولته بعيداً على شكل خيوط مفككة رهيفة، ويصدر صوفاً حاداً وقوياً، وبهذه الآلية المتكررة يقوم المنجد بسحب قسم من القطن محولاً إياها إلى قسم كبيرة مفكك، وبين الحين والحين يتوقف المنجد لنتطيف الوتر مما علق به من بقايا قطع القطن الصغيرة المعلقة على الوتر والتي تؤثر عليه ونغمته، ويدرك المنجد ذلك من تغير النغمة وقلة ما يجذبه من قطن من القسم الأساسي، ويقال عن هذه الحالة أن الوتر ثقل وبربط.
قديماً كانت عملية حلج القطن تتم يدوياً بواسطة آلة خشبية، عبارة عن دولاب يدار يدوياً ويقوم بعزل القطن عن البذور عند جني محصول القطن وفي الخريف، وبعدها تبدأ عملية ندف القطن. جاءت تسمية الندف من نفش القطن والتي تتم بواسطة ضرب القطن بآلة ذات وتر غليظ على شكل قوس. أما ندف الصوف يتم عاده في فصل الربيع وذلك بعد عملية جز صوف الأغنام.
يبدأ "النداف" عمله بنثر القطن على حصير ليعرضه لأشعة الشمس لفترة من الزمن لتسهل عملية تنظيف القطن وتقليبه، وتخليص ما علق به من شوائب وأجزاء قطنية متماسكة، وتتم هذه العملية بواسطة "الجك،
بعد تجهيز الصوف يقوم المنجد بمليء القماش المفصّل والمحاك مسبقاً حسب الطلب سواء أكان مخدة أو لحاف أو غيرها ثم يقوم بخياطتها ويضيف عليها نقشات للتزيين.
وعادةً يحتاج تنجيد اللحاف إلى طبقتين من القماش، طبقة سفلية ويفضل استخدام القماش الخام القطني الأبيض اللون، والطبقة العلوية تكون من الساتان الملون، وهناك عدة ألوان منها الأصفر والأزرق والزهري وغيرها من الألوان، والساتان أنواع متعددة منها الساتان الحريري وهو الأفضل والأطول عمراً، والساتان الممزوج بخيوط البوليستر وهو أرخص وأقل جودة، والزبون هو الذي يختار ويشتري نوعية القماش المستخدم حسب إمكاناته المادية.
وبالنسبة للفرش يستخدم القماش حسب نوعها، إذا كانت الفرشة مخصصة لتمد على الأرض تنجد بقماش خام أبيض، ويخاط لها كيس قماشي ملون يغلفها بالكامل لحمايتها والحفاظ على نظافتها، ويمكن فكه بسهولة وغسله كلما اتسخ وإعادة تغليف الفرشة به، أما الفرشة المخصصة للسرير يمكن استخدام القماش القطني الأبيض أو الملون حسب طلب الزبون، ولا تحتاج إلى كيس قماشي لتغليفها.
وعند تجهيز اللحاف يستوعب الواحد ما بين 12-15 كيلوغرام من المادة المراد تصنيعها منها، ويقل الوزن كلما صغر اللحاف.
ويستخدم المنجّد العصا الخفيفة واللينة، لتحريك الصوف أو القطن من مكان إلى آخر، لتوزيع السماكة في الفرشة أو اللحاف أو زيادتها وفق الحاجة، لتعذر استخدام اليدين في هذه الحالة، لتأثير الثقل على مستوى القطن، ما قد يجعله غير متساوي، فتظهر مع الاستخدام نتوءات تجعل المنجّد يعيد التنجيد من جديد، وبعد الانتهاء من توزيع القطن داخل القماش، تتم حياكة فتحة القالب، ومن ثم تأتي عملية التضريب لتثبيت الصوف مع القماش، وهي الخياطة بشكل طولي وعرضي، باستخدام الإبرة الطويلة مخاط والخيوط القوية، بمساعدة الكتشبان وهو أداة معدنية تشبه وعاء صغيرا بحجم أنملة الإصبع، خشن من الخارج وأملس من الداخل، يوضع في أصبع المنجّد لحمايته من وخز الإبرة، ويساعد في غرزها في قالب اللحاف أو الفرشة.
وأفضل أنواع الوسائد المحشو بريش النعام والبط والقطن الأصلي والقطن الصناعي بأنواعه، والقطن مهم للكثير من الناس ممن يعانون من مشكلات في الرقبة والظهر والعمود، وذو أهمية ملائمة للوسادة من حيث وزنها ومطابقتها للشروط الصحية.
المصادر
ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
وكالات. مواقع الأخبار. الدستور ـ طلعت شناعة
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/mochtaratt/50921-2021-09-30-16-03-01.html
4828 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع