ذكريات فيضان بغداد سنة ١٩٥٤
من ذكرياتي القديمة التي لا تنسى عن فيضان نهر دجلة صيف عام 1954 اذ كان عمري 14 عاما وكنا نسكن في العطيفية شمال الجسر الحديدي حوالي مائة متر وكان بين بيتنا وهو مقر الشركة التي شيدت الجسر الحديدي وغادرت. وكانت السدة الترابية بين النهر الذي ما ازال اتذكر الماء وصل بحوالي شبر واحد بالقرب من مستوى السدة الترابية . وبيتنا خلف السدة. فلو حدث اي خرق في السدة نتيجة الفيضان لوصل الماء الى فوق سطح البيت. ولكن الله لطف وانتهت الازمة بفضل البغداديين الذين هبوا جميعا ليسيطروا على سدة ناظم باشا في منطقة الوزيرية.وشجاعة وزير الداخلية المرحوم سعيد قزاز الذي اصر على عدم افراغ سكنة منطقة الرصافة ونقلهم الى منطقة الكرخ ، بالرغم من اصرار كبار المسؤولين العراقيين على ذلك لكن المرحوم قزاز اصر على رأيه والذي ظهر اخر الامر انه كان مصيبا في رأيه رحمه الله واسكنه فسيح جناته.
كانت الجرافات الحكومية والعسكرية التي تحمل التراب من غرب بغداد الى شرقها حيث سدة ناظم باشا تمر امام بيتنا عابرة الجسر الحديدي فيما الشاحنات تنقل العوائل المهجرة من شرق بغداد الى غربها وبعضها اقيمت بالقرب من الجسر الحديدي، وشاحنات اخرى كانت تنقل الصمون والتمر توزعه على العوائل المهجرة.
وكان زميل والدي في العمل المرحوم عبد الحميد القيسي الملقب ب،( التيلجي) ابو المرحوم رمزي والشهيد الطيار غالب الذي استشهد في عدوان الخامس من حزيران 1967..
فقد شهدت بغداد أخطر فيضان لنهر دجلة في بدايات عام 1954 والذي هدد بغداد بالغرق، بسبب إرتفاع مناسيب نهر دجلة وقلة السدود على دجلة،وكانت الرصافة الأكثر تهديداً بالغرق، ولكن مرت الأزمة بسلام بسبب إشتراك الجهد
الحكومي والعسكري والشعبي (المتطوعين) في الحد من خطورة الفيضان.
والوقفة الشعبية مع الحكومة واشتراك الجيش والشرطة في جهد مكافحة الفيضان وتسجل تاريخا مشرفا لأهل بغداد وأهل العراق في التعاون لإزالة خطرالفيضان
أولئك النشامي الذين تطوعوا لحماية مدينتهم الحبيبة...
سعيد قزاز وزير الداخلية يرفض إخلاء بغداد للحيلولة دون كارثة أخرى
صالح جبر يقول إن دور أهالي الكرخ قادرة على استيعاب مشردي الرصافة
اكدتِ الاحوال الجوية وشدة البرودة وكثرة الامطار التي هطلت في اواخر عام 1953 واوائل سنة 1954 ان فيضاناً خطراً سيداهم العراق .وقال وزير الزراعة (عبد الغني الدللي)ان تدابير قد اتخذت منها تقوية السدود الضعيفة التي أنشأت من الفيضانات السابقة في وادي دجلة، وتنسيق العمل والمراقبة وتحديد الواجبات لموظفي الري والادارة وغيرهم
وفي 17/ 3 /1954 بدأت مناسيب المياه في نهر دجلة ترتفع ، ووصلت هذه المناسب إلى درجة خطرة في 25 من اذار ، واعلنت البلاغات الرسمية ان الزيادة لم يسبق لها مثيل منذ 48عاماً ،وواصلت المناسيب ارتفاعها ،فتولى الجيش والشرطة والاهالي حراسة السدود ، ووزعت الدوائر المختصة المواد اللازمة لمجابهة الفيضان ، وسخرت الحكومة المكائن والالات التي كانت الشركات الاجنبية تستخدمها في تبليط الشوارع واقامة المنشآت ، وقاربت الزيادة 36 متراً في26/اذار ،وهو المنسوب الذي يفوق درجة الخطر بمتر واحد
فنامت بغداد ليلة 27 اذار وهي فزعة قلقة يتهددها الفيضان والغرق في كل لحظة ،واضطرت سلطات الري إلى فتح اربع كسرات في مناطق الخفاجي والرفيع واليهودية والداوديه .وسهر الناس ليلة 28 /اذار حتى الصباح وهم خائفون وايديهم على قلوبهم ،فقد بدأت المياه تتسرب إلى كثير من الدور والمؤسسات القريبة من النهر ، وتحولت ساحة السراي الكبرى إلى بحيرة تعذر على الموظفين اجتيازها بيسر..
وكانت ليلة 29 اذار اسوأ الليالي التي شهدتها بغداد ،وصارت مياه الفيضان التي تجمعت خلف السدود المحيطة بها من الشرق ومن الجنون تهدد العاصمة بغداد ... ولا يحول بينها وبين الكارثة سوى (سدة ناظم باشا) التي تحيط ببغداد من الناحية الشرقية وقد اصابها الهزال واخذت الرياح الشرقية تضغط عليها .
وفي تلك الليلة اجتمع رؤساء الوزراء السابقون والوزراء والمسؤولون وبعض النواب والاعيان واتخذ مجلس الوزراء بعد مناقشة دقيقة للموقف قراراً باخلاء بغداد اخلاءً جزئياً.
وقال البيان" انه من المستحسن ان ينقل الشيوخ والاطفال الصغار والمرضى من المناطق المجاورة للسداد الشرقية إلى جانب الكرخ.." وكان في بغداد زهاء ثلاثة ارباع المليون نسمة يسكن ثلثهم في جانب الرصافة المعرض للغرق .
وسأل وزير الداخلية (سعيد قزاز) مهندس الري البريطاني عن درجة الخطر المحدق بالعاصمة ،فلما اجابه المهندس ان درجة الخطر قد تبلغ إلى 95% ،اعلن الوزير القزاز انه يخالف هذا القرار لما يولد تنفيذه من ارتباك قد يؤدي إلى التهلكة ،
وكان صالح جبر ،احد رؤساء الوزراء السابقين ،ممن حضر هذا الاجتماع ،قد قال :"ان نخوة اهل الكرخ تسمح بايواء سبع عائلات في كل دار من دورهم!!" ولما حضر الامير عبد الاله وجد نفسه بين قرار لمجلس الوزراء ومعارضة شديدة من جانب وزير الداخلية ،وكانت وجهة نظر القزاز ان في بغداد جسرين فقط فاذا اصطدمت سيارتان من سيارات المتسابقين في الهرب وقعت مذابح لاتعرف مغبتها ولا يمكن تلافي اضرارها.
وشاءت ارادة الباري ان توقف الرياح العاتية التي كانت تعبث بالسدود ،وتهدد العاصمة بالكارثة في كل لحظة ،
فاستقر الرأي على ان تضاعف جهود العناية بالسدود ،وان تتخذ كافة التدابير الضرورية لمجابهة الاحداث المتوقعة في كل لحظة .واعلن وزير الداخلية بياناً إلى الشعب العراقي بنبرات حزينة ونفس كسيرة قابلها الناس بالبكاء والعويل ،وكذب البيان الاخبار التي تحدثت عن بعض الكسرات في سدود مدينة بغداد.
ولابد هنا من ذكر الوقفة الجريئة لوزير الداخلية سعيد قزاز وقد ذكر ذلك بعض الاخوة الباحثين في دراسة العراق الحديث في رسائلهم واطاريحهم الجامعية ـ حيث رفض قزاز اخلاء مدينة بغداد الحبيبة.اما المساحة التي غمرتها مياه الفيضان فقد تجاوزت مليوني فدان ،وان عدد الذين نكبوا بسببها كان نحو ربع مليون نسمة ،اما الاضرار المادية التي لحقت بالطرق والاراضي الزراعية وغيرها فقد تجاوزت خمسة وثلاثين مليون دينار ،
وقد غرقت (بغداد الجديدة) برمتها ولم تبق منها الا مداخن كور الطابوق ،وغرقت حدائق الوزيرية بمياه المجاري ، وغرق (معسكرالرشيد) بما فيه من عتاد وارزاق ،وغرق كل ماكان خلف سدة ناظم باشا ،وكانت طائرات الهيلوكوبتر تنقذ المحصورين من المياه ،والقت هذه الطائرات 25 طناً من المواد الغذائية ،
وتبرع ملك السعودية (سعود بن عبدالعزيز) بمليون ونصف مليون ريال سعودي (حوالي 150 الف دينار) وتبرع امير الكويت (الشيخ عبدالله السالم بمائة الف دينار ، وشيخ البحرين بـ(7500 دينار) وقداسة البابا بثلاثة الاف دولار ،وتبرعت الهند بأربعين الف ربية ،وايران بمليون ريال ايراني وتبرعت جمعية الهلال الاحمر بخمسة الاف دينار.
وسمحت حكومة بغداد باجراء اكتتاب عام بمئة الف دينار ،وارسلت حكومات مصر وتركيا والاردن وسوريا بعثات طبية ،اما بريطانيا فقد تبرعت بالف خيمة وبخمسة ملايين كيس رمل نقلتها طائرات خاصة سقطت احداهن وقتل طاقمها ،وتبرعت امريكا من الخيم ومواد الاسعاف.ولم تقتصر الاضرار على بغداد حسب فقد حل بلواء الكوت ما حل بلواء بغداد ، ولحقت لواء العمارة اضرار عظيمة ،وتعرض لواء البصرة إلى اخطار جسيمة وانقطعت المواصلات بين بغداد ومعظم المدن الرئيسة وتعطلت الملاحة في دجلة.
لكن اكبر جريمة ارتكبتها محكمة المهداوي التي اصدرت حكم الاعدام بحق هذا الوزير الشجاع سعيد قزاز.
اذ يقول نصير الجادرجي ذكرني ذلك الموقف بتعليق والدي (كامل الچادرچي) في أثناء محاكمة (سعيد قزاز) أمام المحكمة العسكرية الخاصة (محكمة الشعب) بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958 حين حكمت عليه بالاعدام، فعلّق والدي قائلاً: كان يجب ألايُحكم بالاعدام، بسبب موقفه من فيضان .1954..
3858 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع