مدرسة الحقوق في القشلة..أم أنجبت القادة والمشهورين
نرجس/رجاء داود:توقفت كثيرا امام (القشلة) متأملةماضيا عريقا افصحت عنه هذه البناية القديمة..واستغرقت في تأملاتي مسترجعة شريطا من الماضي البعيد الذي لاانتسب اليه، ولكنني اجد فيه صلة حميمية تربطني بسحر الماضي القريب.
لاادري ان كنت اجد في (القشلة) شيئا يقودني الى موضوعي ولكني متأكدة ان هذه الخزانة تحتوي في احشائها على الكثير من القصص والحكايات. وفجأة مضت امامي هذهالبناية الشامخة مثل نخلة باسقة، وراحت تحدثني بهدوء عن الكائنات التيلم نزل حتى الان تتخذ من مرابعها مكانا يتشح بقداسة الماضي. هنا يتجمع محامون وكسبة وموظفون ونساء واطفال يحيطون بهذا البناء ويدورون حوله، وعندنا استفسرت من شيخ يقف الى جانبي مشدوهامثلي عن معنى هذا الذي يحصل اليوم وغدا وربما حصل بالامس فأجابني بلا مبالاة «هذه هي القشلة او دواوين الحكومة او هي بيت المحاكم يا ابنتي».
البداية
تصفحت اوراق الامس التي لم تزل تنبض بحرارة الحياة واخبرتني ان القشلة وما يحيط بها من مبان، وتحديدا في شارع السراي في بناية المدرسة الحميدية قبالة القشلة، قد احتضنت منذ 106 اعوام، اشهر مدارس العراق الاكاديمية تلك هي (مدرسة الحقوق).
ومدرسة الحقوق -كما اخبرني ملفها التاريخي- انها تأسست في اواخر العهد العثماني وبالتحديد في عهد الوالي (ناظم باشا ) 1908.
إن عراقة هذه المدرسة تِؤكد انها سيدة ولود انجبت لنا مئات الاسماء التي لمعت في سماء خدمة الوطن..ومنها تدرجت الى الحياة قادة ومفكرون وعلماء وساسة ورؤساء حكومات وقضاة وبرغم هذا المسار الطويل من الابداع والمعرفة،فقد سجلت مدرسة الحقوق قفزة سريعة الى الامام عندما حملت اسمها الجديد(كلية القانون) لتحقيق العدالة والانصاف وهي المبادئ التي حملتها هذه الكلية منذ106 اعوام.
للتاريخ نكهته
في عام 1908 احتفلت بغداد بافتتاح بغداد (مدرسة الحقوق) والقى الشاعر محمد صدقي الزهاوي وهو مدرس فيها ايضا،قصيدة بعنوان (فصول) عبر فيها عن رغبة العراقيين بدراسة القانون، وهم صناعه منذ عهد بابل وحمورابي، ومن بعد تولى ادارة هذه المدرسة مجلس مؤلف من اساتّذة عراقيين وموظفين عثمانيين وقضاة ومحامين، يرأسهم (موسى جلبي الباجه جي) والاساتذة يوسف عطا وحمدي الباجه جي وعارف يوسف السويدي وغيرهم.
لقد ضمت المدرسة في بداياتها الاولى اربعة صفوف بمعدل 30-40 طالبا عدا الصف الرابع الذي تجاوز عدد طلابه العشرة، وفي عام 1911 احتفل العراق بتخريج اول دفعة (حقوقية) وكان عددهم عشرة طلاب لمعت اسماء بعضهم في ميادين الحياة المتعددة.
وعند اندلاع الحرب العالمية الاولى اغلقت المدرسة ابوابها وجند طلاب الصف الرابع في الجيش العثماني.
وعند دخول الانجليزالى بغداد واحتلالهم العراق،اعلن المسؤول الانجليزي عن شؤون المعارف الميجر يوحنا عن نية سلطات الاحتلال في افتتاح مدرسة الحقوق،واختيرموريس رئيس محكمة الاستئناف مديرا فخريا للمدرسة،وكانت المدرسة في هذه الفترة تضم مرحلتين فقط وبلغ مجموع الطلبة فيها 45طالبا وفي عام 1920 تخرجت الوجبة الثانية.
بعد استقلال العراق الشكلي عام 1921 وتنصيب فيصل الاول ملكا صدر النظامالاساسي لمدرسة الحقوق والتي اصبحت تعرف بعد ذلك بكلية الحقوق وتولى العراقيون ادارتها بعد ان الغيت جميع الانظمة الصادرة في العهدين العثماني والاحتلال البريطاني.
واخذت المدرسة تضخ شبابا للمجتمع من اجل خدمة الوطن.
في رحاب كلية الحقوق
تولى ابناء العراق شؤون كليتهم الجديدة، فقد اسهمت اسماء كثيرة في تطوير الصرح الحضاري العريق مثل المربي ساطع الحصري ومنير القاضي... ولعراقتها امتدت الخبرة العربية لتسهم في تطوير هذه الكلية وقد تولى ادارتها العلامة القانوني عبد الرزاق السنهوري ومحمود عزمي والقاضي عبد الصمد الوشامي وحامد زكي وعبد الحكيم الرفاعي ومحمد عبد الله وعبد الرحمن البزاز وعبد الجبار عريم وشاكر ناصرومحمد طه البشير وعلي حسين خلف وعبد الحسين القطيفي ورياض عزيز هادي ومحمد الدوري ونزار العنبكي.
واحتضنت كلية الحقوق (كلية القانون) العديد من التدريسين المعروفين مثل المرحوم رشيد عالي الكيلاني قائد ثورة مايس1941 الذي كان يدرس مادة العقوبات ومالك الحسن (وزير سابق) وسلطان الشاوي سفير العراق السابق في جامعة الدول العربية ومنذر الشاوي (وزير سابق )وعشرات الاسماء التي شغلت مسؤوليات كبيرة في اجهزة الدولة المختلفة.
الحقوقية الاولى
مع افول الدولة العثمانية برزت الحاجة الملحة لتعليم البنات ومع حملة افتتاح المدارس الخاصة بالبنات اندفعت العوائل العراقية الى تسجيل بناتها في هذه المدارس غير ان الذي حصل فيما بعد واثار زوبعة من الاثارة الاجتماعية اقدام عائلة المرحوم الشيخ احمد الداود على تسجيل ابنتهم (صبيحة) في مدرسة الحقوق،وكانت العراقية الاولى من رعيل هذه المدرسة التي تخرجت ضمن دفعة عام 1936-1940 وحملت لقب (الحقوقية الاولى) وكانت بعد تخرجها _اول خبيرة نسائية في هيئة التحكيم في محكمة الاحداث الجانحين، وقد اعقبتها اناث فاضلات كثيرات منهن امينة رحال وسعاد خليل اسماعيل ونزيهة جودة واقبال منير ومديحة عوني ثم حصل التطور الكبير عندما جاءت ثورة 17-30 تموز وافتتاح المعهد القضائي لاعداد القضاة وقد انتسب اليه عدد من الخريجات الحقوقيات وبعد استكمالهن عدة القضاة تولين مراكز قضائية مهمة في الاجهزة العدلية ومنهن باكزة عبد القادر وسعاد الدباغ، ورجاء عبد الزهرة وساهرة يوسف.
وجوه تتحدث
في جولة لنا في عالم الخريجين الذين تركوا مقاعد الدراسة الحقوقية منذ زمن طويل وانغمسوا في الحياة..اذكر أستاذي الفاضل الدكتور عبد اللطيف القصير الذي حدثني قبل سنوات حيث كنت احدى طالباته عن جانب من حياته في الكلية قائلا :
كنت احد طلاب الكلية عام 1941 على الرغم من اني اكملت الدراسة الاعدادية الفرع العلمي،وتم قبولي في كلية الطب مع ثلاثة من زملائي لكن رغبتي كانت تتوجه نحو دراسة القانون، واذكر اني زرت الاستاذ توفيق السويدي رئيس وزراء سابق وطلبت منه التوسط لقبولي في كلية الحقوق،فاتصل بالدكتور منير القاضي وكيل الكلية انذاك،وقال له بالحرف الواحد : (عندي اربعة مجانين مقبولين في كلية الطب ولكنهم يريدون القبول في كلية الحقوق).
فطلب القاضي مقابلتنا وعندما تمت المقابلة اعتذر عن قبولنا بحجة ان مدة القبول قد انتهت،ولسنا من خريجي الفرع الادبي ولكننا قبلنا فيما بعد في كلية الحقوق.
واضاف الدكتور دراسة القانون تنمي الشخصية وتؤطرها بفهم عميق لمعنى المسؤولية،واحترام القانون وتطبيق العدالة،وكانت دفعتنا تتكون من (70)طالبا ومن دون طالبات،وقد شكلت كلية الحقوق بؤرة سياسية وطنية في مواجهة الظلم الاجتماعي والدفاع عن حقوق الشعب في المراحل المختلفة من تاريخ العراق السياسي الحديث.لهذا فان معظم خريجي دفعتنا رفضوا العمل لدى الحكومة الموالية للانكليز واتجه معظمنا الى مزاولة المحاماة والصحافة.
اما الفنان يوسف العاني فهو احد خريجي كلية الحقوق فحدثني عن ايام زمان قائلا:
كنت قد التحقت بالجامعة الامريكية في بيروت لدراسة الطب، ولكنني اخفقت في هذه التجربة وعدت الى العراق لالتحق بكلية الحقوق عام 1949 وكان همي من دراسة الحقوق معرفة الحياة عن طريق القانون واسست (جمعية جبر الخواطر)باتجاه نقدي كوميدي من خلال عروضها المسرحية التي تولت نقد الظواهر شعبيا واجتماعيا وسياسيا.
قلبنا اورقا تعود للعاني عن تلك المرحلة،فاخبرتنا : انه كان طالبا جذابا التفت حوله الكثيرات من زميلاته اللاتي يدرسن القانون وان احداهن شغلت قلبه لزمن ليس بالقصير وان كل زميلاته في الكلية تزوجن من زملائهن الا يوسف!!.
قال لنا يوسف مواصلا حديثه معنا :
بعد التخرج كنت ازور جمعية جبر الخواطر في كلية الحقوق واشاهد كل عمل من اعمالها، وفي احدى حفلات الكلية القيت قصيدة كوميدية اثارت فرح الطلبة والاساتذة وقلت في القصيدة :
قفا نبك من ذكرى حقوق وندوة
وحجية حسناء بطت مرارتي
والندوة هي المقهى القريبة من الكلية،اما الحجية فهي بائعة السكاير التي كانت تجلس في بابها،وهكذا تمضي القصيدة بحشد رموز الاثارة والضحك البريء الصاخب.
وتواصل هذه الكلية اليوم مسيرة اجدادنا لترفد القطر سنويا برجال العدالة لترسيخ اسس العدالة ولتقول للعالم انها البناء الاساسي الذي تقوم عليه كل حقوق البشرية.
946 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع