ذكريات غير قتالية من القادسية...
فارس من طيران الجيش
17/11/2014
تواصلت الواجبات القتالية في قاطع الفيلق الاول للاشهر الست الاولى من عام 1981 ولغاية منتصف حزيران ( يونيو) ، تم تنسيبي مع مجموعة مستقلة لتدريب طيارين احداث اكملوا الدورة الاساسية في فرنسا على طائرات الويت 2 لتحويلهم كطيارين فعالين على طائرات الغزال كدورة متقدمة لرفد الاسراب المقاتلة بهم لادامة فعاليات الاسراب وزيادة عدد الطيارين لاستيعاب الاسراب الجديدة التي ستشكل لاحقا لادامة زخم المعركة الدفاعية عن الوطن ، وقبل ان التحق بهذه المجموعة المستقلة نهاية حزيران هناك احداث حصلت وتداخلت بين عامي 1980 والنصف الاول من عام 1981 وفيما يلي تفاصيلها :
اصابة آمر السرب 30 الويت 3
في نهاية شهر ايار(مايو) 1981 كلف السرب 30 بتشكيل من طائرتي الويت3 لواجب معالجة متسللين في منطقة بنجوين ، تم التنفيذ بقيادة امر السرب ( الرائد الطيار ج ز ع . م - وهو آمري المباشر) وبعد استمكانهم وخلال المعركة مع المتسللين اصيبت طائرة آمر السرب باصابة مباشرة وتطايرت الشظايا لتصيبه احداها في عينه مما استوجب قطع التماس مع المتسللين وهبوط الطائرة في اقرب معسكر لمعالجة النزف الشديد الذي نتج بعد ألاصابة ، وتم اجراء الاسعافات الاولية وايقاف النزيف ثم العودة الى كركوك ، حيث استدعت حالته الصحية رقوده في مستشفى كركوك العسكري ثم ارساله للعلاج خارج العراق الى مستشفى مختصة بالعيون في ( فينا . النمسا ) في نهاية شهر حزيران (يونيو) من نفس العام .
عند عودته من العلاج ابلغني تحيات وسلام مدير المستشفى ومالكها العراقي الجنسية وهو ابن عم والدتي ، بعد ان تم التعارف بينهما من خلال تبادل الحديث عن العراق والحرب الدائرة آنذاك وكونه اول طيار عراقي يعالج في هذا المستشفى ، وخلال الحديث جاء اسمي وكما اخبرني آمري بانه تعرف عليّ ( ابن فلانة ) وهي عادة عند اهل الاعظمية التسمية باسم الام . بعد انتهاء العلاج عاد امر السرب نهاية شهر تموز(يوليو) لاكمال العلاج في العراق مع تمتعه بالاجازة المرضية خلال فترة النقاهة .
مجلس تحقيقي بحق طيار ساذج كاد ان يؤدي الى اعدامي
تعود احداث هذا الموضوع الى يوم 22 / 9 / 1980 يوم الرد الشامل على الاعتداءات الايرانية حيث تم تفريق طائرات الجناح الاول في مطار K1 بانواعها الويت 3 ومي 8 والويسكس الى مناطق اخلاء من ضمنها مطار الرياض الثانوي الذي يقع في ناحية الرياض وبساتين الحويجة لتأمينها من غارات العدو اليومية على كركوك بمطاريها ومنشآتها النفطية ، بعد حوالي شهر ولاجل سهولة ادامة الطائرات تقرر ان تبقى طائرات الالويت 3 في مطار الرياض وان تنقل طائرات مي 8 الى بساتين الحويجة ( طائرات مي8 الروسية كبيرة الحجم ومخصصة للنقل ، وطائرات الويت 3 الفرنسية صغيرة الحجم ومسلحة ) ، لم تكون هناك هواتف مجفرة عسكرية لتأمين الاتصال مع الحويجة او الرياض ويتم الاتصال اليومي بواسطة الهواتف المدنية مع استخدام الرموز لايصال المعلومات لاسباب امنية .
اتصل آمر السرب بالضابط الموجود في مطار الرياض الملازم الاول الطيار ( ع . ع ) من سكنة مدينة كركوك ، ولاجل سرية المعلومات اخبره بان تبقى ( الصغيرة ويعني بها طائرات الويت 3) في مكانها وتذهب( الكبيرة ويعني بها طائرات مي 8 ) الى البساتين ، وهذه رموز نفهمها سريعا ،اجابه بانه لم يفهم الامر فكررها عليه مرتين وعندما فهمها اجاب هل تعني سيدي ان تبقى طائرات الالويت 3 في الرياض وتنقل طائرات مي 8 الى الحويجة ؟! استشاط الآمر غضباً وقال له نعم نعم هل ارتاحيت الان ؟!. ( اذكر هذه الحادثة لتبيان سذاجة وبساطة هذا الطيار ) .
من الامور الفنية يجب تشغيل الطائرات الشرقية ( مي 8 ) كل يومين او ثلاثة ولاجل ان تكون جاهزة لتنفيذ الواجبات يجري تعويض ما تم استهلاكه من الوقود بعد عدة تشغيلات ، ولكون عجلة الوقود لا يوجد لديها مسلك للدخول داخل البساتين يجري مع اخر تشغيل الطيران بالطائرة الى خارج البستان لاجل تزويدها بالوقود ثم اعادتها الى مكان اخلائها .
في احدى هذه الممارسات واثناء نقل الطائرة الى خارج البستان لاجل التزود بالوقود قرر الطيار ( الملازم الاول ع . ع . ) ان يكون طيرانه الى منطقة ليست بعيدة عن مكان التزود بالوقود انتظاراً لاستكمال الطائرة التي تسبقه انهاء عملية التزود بالوقود ، كانت توجد في المنطقة قرية خرج اهلها للتأشير للطائرة للنزول فيها وهم يحملون مواد غذائية ومعهم شيخ معمم،...
قرر الطيار الهبوط قربهم وهذا ما فعله فاقترب الشيخ منه حاملا معه ( تمر وبعض الخبز الحار ) لتوزيعها على الطيارين وكان اهل القرية فرحون بهذه الفعالية كونها اقل ما يمكنهم من التعبير عن حبهم وتقديرهم لطياري العراق وهم يخوضون معركتهم ضد عدو طامع .
المشكلة التي تبينت بعدها بان هذا الشيخ ( اعتقد بان اسمه حسين العاصي او غير هذا الاسم المهم لقبه العاصي ) هو على خلاف مع السلطة.
تم رفع تقرير حزبي من قبل بعض ( الخيرين !!! )في القرية حول الموضوع لكون القرية مراقبة بسبب هذا الشيخ ( العاصي )
نتيجة لهذا التقرير تم تشكيل مجلس تحقيقي حزبي من قبل المنظمة الحزبية في كركوك وكذلك مجلس تحقيقي في السرب الرابع من الجناح الاول وهو السرب الذي ينتمي اليه الطيار المعني بالحادث ، كان المجلس التحقيقي برآسة الرائد الطيار ( ر . ك . ع ) وهو المدرب الاقدم في السرب الرابع ، كان قرار المجلس التحقيقي توجيه عقوبة انضباطية للطيار بسبعة ايام حجز ( كما نصت عليه المادة القانونية التي قرر المجلس التحقيقي تقصيره وفقها ) وهذه اقل عقوبة تتخذ بحقه ( وعادتنا ان نحاول مساعدة المتهمين الذين تكون مخالفتهم غير مقصودة) . صادق آمر الجناح على المجلس ورفع محضر المجلس التحقيقي الى مديرية طيران الجيش ( الدائرة القانونية حسب الاختصاص ) .
لم يوافق مدير طيران الجيش على العقوبة والمادة القانونية التي ادين بها الطيار . لذلك وبكل ( بطولة!) اعاد مدير طيران الجيش العميد الطيار فاروق فرج المجلس التحقيقي الى الجناح الاول مع توصية في كتاب الاعادة بان يدان الضابط الطيار المعني ( وفق المادة ... الفقرة ..) من قانون العقوبات العسكري !! وتنص على عقوبة الاعدام !!!وهذا الامر مخالفة قانونية من قبل العميد فاروق فرج لكون اصول المحاكمات العسكرية تنص على صلاحية الامر الاعلى بما يخص المجالس التحقيقية تحددت بثلاث نقاط لا يحق له تجاوزها وهي :
1-التصديق على قرار المجلس
2-اعادة القرار الى رئيس المجلس لاعادة التحقيق ( في حالة عدم قناعته في القرار )
3-تغيير رئيس المجلس التحقيقي او اعضاءه(في حالة عدم قناعته بالقرار )
وصل كتاب اعادة المجلس التحقيقي الى الجناح الاول وكان رئيس المجلس التحقيقي منقول الى منصب وكيل آمر السرب 31 ( طائرات غزال ) جناح طيران الجيش الثالث في البصرة .
استدعاني آمر الجناح الاول العقيد الطيار ( ابو زينب ) ولدي علاقة معه اكثر من آمر جناح وطيار في احد الاسراب فهو مدربي ومن منطقة سكني واول طلعة طيران مارستها كانت معه في تموز (يوليو)عام 1974 ويعلم مدى صراحتي وجرأتي في نقل الحقيقة ( وله سوابق معي في بعض الحالات التي كنت اصارحه بما نشعر نحوه دون تردد او مجاملة ) وكان يحترمني بسبب هذه الجرءة كما يخبرني ويشجعني على ممارستها معه ، كان في حيرة من الامر لعدم قناعته بتوصية مدير طيران الجيش ، وكان يبحث عن رئيس للمجلس التحقيقي له الجرأة على عدم الاخذ بتوصية مدير طيران الجيش ليكلفه باجراء التحقيق ( كان المدير له صفة التعالي وعدم المرونة ولا يقبل النقاش ويتجنبه الكثيرين ) وبطبيعة آمر الجناح وطيبته كان يخشى ان يكلف ضابط ليكون رئيس للمجلس التحقيقي وينفذ ما جاء في توصية ( او امر ) مدير طيران الجيش( لان توصيته تكون اوامر يجب تنفيذها ) ، طلب مني ان اكون رئيس للمجلس التحقيقي وان اتخذ القرار المناسب لمثل هذه المخالفة ويبعد الطيار عن عقوبة الاعدام التي لا تناسب فعله .
لم يكون لدي اطلاع على الحادثة اساسا فقد تفاجئت بها عندما عرضها علي آمر الجناح! لذلك طلبت منه ان يزودني باوليات المجلس التحقيقي لدراستها ثم القرار على القبول بالتكليف او رفضه . فوافق امر الجناح مع الالحاح بالتوصية بايجاد حل لهذه المعضلة تنقذ الطيار من هذه العقوبة المجحفة .
درست الحادثة واستعنت بكراسة قانون العقوبات وعثرت على المادة التي تشمل مخالفته لادانته بها لا علاقة لها بالمادة التي امر بها مدير طيران الجيش . اخبرت آمر الجناح بما توصلت اليه ففرح كثيرا واصدر الامر بتكليفي مع اثنين من الطيارين بالتحقيق في الحادثة مع النصيحة بان يكون مجرى التحقيق فني بحت حول مخالفة طيران او تغيير واجب مع عدم الخوض بالامور الامنية، ولكون هناك مجلس تحقيقي آخر حزبي مشار له في المجلس السابق ( المعاد ) ووجود اسئلة امنية فيه ، فقد طلبت من آمر الجناح مفاتحة مرجعنا لطلب اشراك ضابط من الاستخبارات العسكرية في التحقيق يتولى الامور الامنية ، وبالفعل وصل ضابط من الاستخبارات العسكرية بواسطة طائرة غزال نقلته من بغداد الى كركوك ، وكان من دورتي وفصيلي في الكلية العسكرية اشترك معنا في التحقيق بعد اطلاعه على الاوليات ووافق على سير التحقيق والمادة التي اتخذناها في قرار الادانة ( وهذا الذي كنت قررته سابقا ) وكانت عقوبته السجن لمدة 30 يوم ( وهو الحد الادنى الذي تنص عليه المادة المدان بها ) . عاد ضابط الاستخبارت في نفس اليوم واعتذر عن قبول استضافته لتلك الليلة متعللا بوجود واجبات تستدعي عودته وعدم المبيت في كركوك .
عرضت قرار المجلس التحقيقي على آمر الجناح فوافق عليه وهو فرح بهذه النتيجة ورفعها الى المديرية واقرتها الدائرة القانونية ومدير طيران الجيش لكونها طابقت القانون فلا حجة له على نقض القرار .
اخذت القضية مسارها القانوني واحيل الطيار الى المحكمة العسكرية في كركوك وجرت محاكمته على التهمة والمادة المحال بها وحكمت عليه المحكمة بالحبس لمدة 45 يوما وهي المدة القصوى التي تنص عليها المادة المحال بها وبدون عقوبات تبعية ، ولكون الطيار كان موقوفا طيلة المدة السابقة والتي تجاوزت مدة العقوبة فقد اطلق سراحه بعد اكمال الاجراءات القانونية المتبعة .
فورالافراج عن الطيار صدر المرسوم الجمهوري باحالته على التقاعد وقبل اجراء معاملة التقاعد احتجز في دائرة الامن العامة في بغداد .ثم صدر مرسوم جمهوري باحالة اعضاء المحكمة العسكرية في كركوك التي اصدرت الحكم على التقاعد وبرتبتين ادنى !! ولم اعلم بهذه الاجراءات لكوني كنت مكلفا بتدريب مجموعة من الطيارين الاحداث في مطار ( الاسكندرية ) وسيجري الحديث عنها لاحقا ان شاء الله تعالى .
في بداية شهر تشرين الثاني 1981 وبعد انتهاء واجب التدريب عدت الى السرب في كركوك وبعد ايام استدعاني آمر الجناح واخبرني بورود كتاب من المديرية تستوجب حضوري وعضوي المجلس التحقيقي مع ضابط امن الجناح في مديرية الامن العامة في بغداد (كانت في شارع النضال) وتحدد يوم وساعة التواجد في مديرية الامن العامة ، اخبرني آمر الجناح بتفاصيل الاحداث التي تلت الحكم على الطيار ذو العلاقة والتي لم اسمع بها كما اسلفت ، واوصاني بان يكون تركيزنا خلال الاستدعاء على ان التحقيق كان فنيا فقط (يتضمن مخالفة الاوامر ومخالفة طيران ) وتجنب الحديث عن الامور الامنية والاصرار على موقفنا مهما حاولوا استدراجنا ! وهذا ما عملت به واوصلت المعلومة الى عضوي المجلس وضابط الامن .
في اليوم والساعة المحددتين وصلنا الى مديرية الامن ومن الباب الخلفي ( ساحة وقوف السيارات قرب جامع الخضيري ) وفي الاستعلامات طلبوا منا تسليم السلاح الذي لم نكون نحمله واصطحبونا من غرفة الى غرفة ودار الى دار لحين دخولنا الى غرفة كبيرة يتصدرها مكتب يجلس خلفه شخص عابس الوجه وكانه شيطان وتوجد فيها كراسي للجلوس ومنضدة كبيرة (كانها منضدة طعام ) وحولها كراسي بسيطة ، سلمنا عليه فاجابنا بكل صلافة وسوء ادب ببرود ولم يرفع عينه الينا واشار لنا بالجلوس على المقاعد المتواجدة في الغرفة ، لم نشعر بالارهاب وانما بالاشمئزاز من هكذا شخص (صعلوك)لاخلقة ولا اخلاق له فقد كنا اثنين برتبة رائد طياروآخربرتبة نقيب طيار وضابط الامن برتبة نقيب ،في ذلك الوقت كنا نشعر بان الجميع يحترمون ويقدرون عملنا الذي كنا نؤديه بكل اخلاص وشرف كطيارين نلمس محبة المواطنيين لنا من طريقة تعاملهم معنا ونشعر باننا ندافع ونصون شرف مثل هؤلاء الاراذل فقد فوجئنا بمثل هذا الاستقبال السيء الذي يعبر عن وضاعة صاحبه وقارنا كيف نقوم باستقبال ضيوفنا مهما كانت صفتهم عند ما يتواجدون في قواعدنا الجوية مع هذا الفعل المشين ، بعد فترة انتظار قصيرة اشار لي بان ادخل لمقابلة مدير الامن العام ، تركت الغرفة الى غرفة اخرى خالية سوى من درج مدور سلكته ومن طريقة الصعود تبين بانه كان برج وعندما اكملت الدرج دخلت مباشرة الى غرفة كبيرة تجولت بعيني سريعا فوجدتها تزخر بكامرات مراقبة وتسجيل ويجلس في الواجهة شخص خلف مكتب كبير وامامة كرسي وبعد ان سلمت عليه سلام طبيعي وليس عسكري لكونه لم يكن يحمل رتبة اجابني بادب واشار لي بالجلوس امامه ( كنت اعتقد بانه سكرتير مدير الامن العام وسيدخلني اليه متى ما يطلب ذلك منه ) لكون ليس من المعقول ان لا يؤدي الدرج الا الى غرفة السكرتير! .
بدأ يسألني اولا عن سيرتي ومسير حياتي قبل الدخول الى الجيش ثم الوحدات التي خدمت بها وبشكل ودود ومؤدب جعلني استريح جدا في الرد على الاستفسارات ( ساحاول هنا ان اتذكر المهم من هذا الاستجواب ) خلال هذا الكلام دخل شخصين وجلسا غير بعيدين عني وكان وجههما عبوسا ! وبعد عدة اسئلة بدأ يسأل عن المجلس التحقيقي الخاص بالطيار صاحب الحادثة المعنية . فاخبرته بتفاصيل معرفتي بالحادث وكيفية وسبب تكليفي برآسة المجلس بعد نقل رئيس المجلس التحقيقي السابق دون ذكر تفاصيل الحديث مع امر الجناح .
ومن خلال النقاش او الاستفسار تبين لي بان من يتكلم معي هو مدير الامن العام شخصيا ( فاضل البراك) وهو برتبة لواء( وكان مسؤلا حينها عن تصفية الاحزاب الاسلامية وجرت الاعدامات حتى في القواعد الجوية لمنتسبين لهم علاقة بالاحزاب الاسلامية ومن ضمنهم احد الطيارين من منتسبي سربنا وعدد من المراتب واطلق سراح البعض الاخر ممن لم تثبت عليهم التهم ) .
وبمناسبة الحديث عن الاحزاب الدينية فقبل الحرب تم توقيف عدد من مراتب السرب واطلق سراح اثنين منهم احدهم كان مقاتلا جويا تكون علاقة الطيار مع المقاتل الجوي متينه بسبب كونهم طاقم طائرة واحدة ففي احدى الواجبات وخلال التنقل سألته عما تعرض له خلال التحقيق فنفى ان يكون قد تعرض لاي نوع من التعذيب او الضرب وبعد الالحاح عليه صارحني بانه تعرض الى العديد من اساليب التعذيب والضرب والاهانه ولكن قبل الافراج عنه تم تحذيره بعدم البوح بما جرى له ( ولثقته بي صارحني بذلك ) بعد بدأ الحرب تم توقيفه مرة ثانية واعدم مع من تم اعدامهم اما الثاني فقد افرج عنه ونقل معي الى السرب الجديد وتزوج من شقيقة سائق العجلة العسكرية التي خصصت لي في السرب الجديد وكنا نلقبه الزعيم ( اسمه رئيس عرفاء كريم قاسم ) رحمه الله تعالى فقد كان من خيرة من عملنا سوية وبقينا على اتصال بعد التقاعد لحين وفاته قبل سنوات ، اعود لموضوع المجلس التحقيقي :
هنا تبدلت طريقة الاجابة التي كنت اجيب بها بكل ( رهاوة ) الى الصيغة العسكرية المصاحبة لكلمة ( سيدي ) عند الاجاية ، ودون اي تصيبني الرهبة من الموقف ، بعد الانتهاء سلمني اوراق مدونة بها الاسئلة التي ناقشني بها وطلب مني العودة الى الغرفة الاولى للاجابة على الاسئلة بشكل تحريري وان ابعث الضابط الثاني الذي يليني في القدم للصعود لمقابلته . اديت التحية العسكرية واخليت الغرفة وبلّغت الضابط الثاني بالصعود واشعاره بان المتواجد في الغرفة العليا هو مدير الامن العام.
بعد ان قرأت الاسئلة تيقنت بانه مجلس تحقيقي بحقنا بسبب الحادثة ، اخذت ادون اجاباتي على الاسئلة ، خلالها عاد الضابط من البرج مصطحبا الاوراق وباشر بالاجابة عليها مشيرا الى الضابط الثالث بالصعود ، وتكرر الامر مع ضابط الامن ، كل هذا والصعلوك يراقبنا كي لا نتبادل المعلومات ، عاد ضابط الامن من الاستجواب واخبرنا بانه لا علاقة له بالموضوع وبذلك سيغادرنا ويعود الى كركوك ( محل سكناه ) .
استدعيت مرة اخرى الى الغرفة العليا وبدأ الاستجواب الجدي والشديد حيث بادرني مدير الامن لماذا قررت ان تكون الادانة بهذه المادة رغم خطورة الحادث والخطورة الامنية التي يمكن ان تشكلها الحادثة ؟ ، كانت اجابتي بان هذه المادة تنطبق على الفعل فهو تغيير للامر المكلف به الطيار فسألني عن الجانب الامني اجبته لا علاقة للتكليف باي جانب امني المجلس التحقيقي ينص ( كيفية هبوط الطائرة قرب القرية قبل هبوطها في منطقة التزود بالوقود ) ، قال ولكنه هبط وتكلم مع شخص معادي للحزب والثورة مما يجب ان يجلب الشك لدى المجلس التحقيقي ! اجبته بان هذا الضابط ( حمار ) فنظر الي بغضب مستنكرا ما قلته ، اوردت له سيرته وحادثة نقل الطائرات التي وردت سابقا وانه لو كانت لديه نية التآمر لما ذهب بطائرته ويهبط بشكل علني وانما لاستقل سيارة تكسي وبالملابس المدنية ويجتمع بالشيخ العاصي . سألني كان هناك امر من مدير طيران الجيش بادانة الضابط وفق مادة عقوبتها الاعدام لماذا لم تمتثل للامر ؟ اجبته بان مدير طيران الجيش تجاوز القوانيين فلا يحق له التدخل في مجريات اي تحقيق ، وان كانت توصية او توجيه فهذه وجهة نظره لا يحق له فرضها على المجلس التحقيقي ويمكن للمجلس الاخذ بها او تركها حسب سير التحقيق والمبررات وتسلسل الحدث . قال لي بانهم قد توصلوا الى معلومات تدينه بالاشتراك في التآمر على الحزب والثورة . كان ردي انكم مختصين ولكم وسائلكم وصلاحياتكم ( اقصد التعذيب لانتزاع الاعترافات ) اما نحن فمجرد طيارين لا نمتلك وسائلكم واساسا لا علاقة لنا بالجانب الامني فالتحقيق منصب على مخالفة طيران ليس الا، وبعد عدة اسألة واستجواب سلمني اوراق بها الاسئلة ، ولم يتدخل اي من الشخصين المتواجدين في الاستجواب ولكنهم كانوا يراقبون سير التحقيق ، تكررت الحالة مع الضباط الاخرين حيث يعودون لكتابة الاجوبة على الاسئلة المكتوبة والتي تضمنها الاستجواب .
صعدت للمرة الثالثة الى الاستجواب وبعد ان سأل مدير الامن العام اسئلة متفرقة ولكنها لم تستغرق طويلا كما في المرتين السابقتين قال لي بخشونة كيف تنكر الجانب الامني في التحقيق وهناك في سير التحقيق اسئلة واضحة تمس الجانب الامني ؟ اجبته بان هذه الاسئلة كانت من اختصاص ضابط الاستخبارات الذي حضر التحقيق ! استغرب من هذه الاجابة وسأل اين هو ضابط الاستخبارات لا يوجد ما يشير الى كونه عضوا في المجلس التحقيقي ولا اية اشارة اليه ؟ اجبته بطلبي اشراف ضابط استخبارت على التحقيق ليتخذ الاجراءات في حالة وجود عوامل امنية في الموضوع واخبرته عن اسم ورتبة ضابط الاستخبارات (وهو من دورتي في الكلية العسكرية) وكيفية وصوله واسماء الطيارين الذين اعادوه من بغداد الى كركوك ونوع الطائرة والسرب الذي نفذ منه الواجب ، وهنا بادر وقال انتظر لا علم لي بهذه المعلومة ويجب ان لا تتحمل المسؤلية وحدك فلكل شخص مسؤوليته ، رفع سماعة الهاتف بقربه واتصل مباشرة بمديرية الاستخبارات واستفسر عن اسم ضابط الاستخبارات الذي اخبرته به وهل هو منتسب لكم فكانت الاجابة بالايجاب وطلب ارساله الى مديرية الامن . وهنا طلب مني مغادرة الغرفة مع الاوراق التي بها الاسئلة واضاف اليها السؤال الاخير حول وجود ضابط الاستخبارات و الذي لم يكون مدرج في الورقة وعدت الى الغرفة لاواجه هذا الشخص الصعلوك وتكرر استجواب الضابطين الاخرين وكالسابق وعند الانتهاء من آخر ضابط ونزوله وكتابته الاجوبة على الاسئلة بقينا ننتظر لدقائق . ثم سمعنا أمر مدير الامن لهذا الصعلوك الجالس معنا بان يقدم لنا العصير لنشربه .وفعلا قدم لنا العصير وباشارة مني فهم الضابطين بعدم تناوله فنفذا الطلب بدون كلام احتقارا لمن قدمه لنا .
وبعد مدة قليلة استدعينا ثلاثتنا للصعود سوية الى برج مدير الامن العام بعد ان تعودنا على المسلك وخلال الصعود اوصيت من معي بعدم المناقشة بتاتا وترك الامر لي في حالة الاجابة على اي استفسار وان لا يستفزكم اي كلام فكل كلمة تخرج منا قد تؤدي الى ما لا يحمد عقباه .
دخلنا الغرفة فوجدنا الثلاثة فاضل البراك والاخرين يجلسون على شرفة من الزجاج تشرف على ابنية الامن لم نلاحظها خلال فترة الاستجواب ودعانا الى الجلوس معهم على طاولة مستديرة ، قدم لنا الشخصين الذين كانا معه بانهم عضوين في المكتب العسكري وعضوين في المجلس التحقيقي الذي انتهوا منه توا ، وبعد ان تمت استضافتنا من قبله باقداح من العصير بدأ يتكلم بانه حصل له الشرف بان يتعرف على هكذا ضباط طيارين شجعان مخلصين مضحين للوطن ( سيرنا وتقاريرنا الامنية كانت مرافقة للمجلس التحقيقي وهي تؤكد ما قاله من خلال عملنا خلال سنوات الخدمة مما انعكست ايجاباً كما يبدو على قرار المجلس ) لكنه اضاف باننا فاتتنا فرصة مشرفة لنا بالكشف عن شبكة معادية للحزب والثورة من خلال عدم التعمق بالجانب الامني في التحقيق مع الطيار المعني بالامر ، لم اعلق على هذه الملاحظات سلبا او ايجابا وبعد عدة كلمات مجاملة لطيفة قال لنا الان تعودون الى اسرابكم وتستمرون بنفس الروح الوطنية والاقدام الموصوفين به ولا تؤثر عليكم احداث هذا اليوم وهذا عهدنا بكم وقد خصصنا لكم سيارات توصلكم الى اي مكان تريدونه وتبلغون سلامنا على اقرانكم في القاعدة التي تنتمون اليها. شكرناه فقد كانت معنا سياراتنا ونحن من محافظات مختلفة بغداد / النجف / الحلة .
ودعنا السيد فاضل البراك ( رحمه الله تعالى ) وعضوي المكتب العسكري متمنين لنا السلامة ، نزلنا الى الغرفة التي يوجد بها ذلك الصعلوك الذي تنازل او ( تلقى الامر ) بان يبتسم ويودعنا ، كنت قد اوصيت رفيقي بان يكون وجههم عبوس ولا يردون عليه ولا يودعوه وهذا ما فعلناه وتركناه باستخفاف وغادرنا مديرية الامن العامة كل الى عمله او مبتغاه .
دارت الايام والاحداث ونسينا الموضوع ، وبعد عودتي من دورة في اسبانيا (سيأتي الحديث عنها) وفي نهاية شهر آذار 1982 اثناء حضوري الى مديرية طيران الجيش لاكمال معاملة العودة والالتحاق الى السرب في كركوك اخبرني ضابط امن المديرية بان عقوبة قد صدرت بحقي نتيجة المجلس التحقيقي وهي ( قطع راتب لمدة 3 الى 10 ايام ) بايعاز من وزير الدفاع الى مدير طيران الجيش ليصدرها ( بموقف نبيل من الشهيد عدنان خير الله ) لكون العقوبة اذا كانت من وزير الدفاع تكون عقوبتها التبعية تاخير الترفيع الى رتبة اعلى لمدة 6 شهور اما عقوبة مدير طيران الجيش لا تؤخر الترفيع . وان امر العقوبة كان قبل الايفاد بايام ولم يبلغني بها كي لا اتأثر وانزعج ( موقف نبيل اخر من قبل ضابط الامن .. وهذه كانت علاقاتنا الحميمة بين اغلب منتسبي طيران الجيش ) ، شملتني العقوبة فقط دون عضوي المجلس ( حمدت الله تعالى على عدم شمولهم بالعقوبة ) لكوني انا الذي اخترتهم كأعضاء في المجلس التحقيقي وبذلك ستكون عقوبتهم بسببي ( فانا من ورطهم بهذه القضية )!وكان سبب العقوبة التي قررها المجلس التحقيقي في المكتب العسكري للحزب هي ( النقابية في التحقيق وتضليل ضابط الاستخبارات ) وللامانة فانه صحيح واقر بالنقابية بل وافخر بها ومارستها في مناسبات عدة تحملت المسؤلية لانقاذ طيارين من عقوبات سيأتي ذكرها لاحقا ( لم تردعني هذه الحادثة عن طبيعتي) وشملت العقوبة ضابط الاستخبارات بنقله خارج مديرية الاستخبارات . وتم تعميم العقوبة عسكريا وحزبيا على كافة الوحدات العسكرية والجهاز الحزبي العسكري والمدني .
تمت العقوبة ب10 ايام قطع راتب ، وهو موقف يبين مدى الرعب الذي ينتاب بعض الامرين وعدم تحملهم للمسؤلية علما بان علاقتي مع مدير طيران الجيش المرحوم العميد الطيار الركن خالد نصيف والذي استلم المنصب بعد احالة المدير الاسبق العميد الطيار فاروق فرج على التقاعد واستشهاد المدير الذي تلاه الشهيد العميد الركن سمير احمد ايوب كانت جيدة من خلال تنفيذ الواجبات عندما كان بمنصب امر الجحفل الجوي في الفيلق الاول في كركوك قبل الحرب ، وقد وضعته في موقف محرج مع قائد الفيلق الاول اللواء الركن اسماعيل تايه النعيمي نتيجة كتابتي لاحد تقارير المهمة وبينت رأيي بصدق وصراحة ازعجت الكثيرين ولم يستطيعوا رد ما ذكرته في توصيات تقرير المهمة حينها !!.فقد اتخذ قرار الحد الاقصى من العقوبة بحقي ولو كنت مكانه لنفذت الامر بالحد الادنى او اكثر بقليل كي ابين عدم قناعتي بالعقوبة والتي كانت هي قناعة وزير الدفاع ( ولكن الامر كان خارج ارادته كما اعتقد ) .
في شهر مايس (مايو) 1982 احيل الضابط الطيار المتقاعد صاحب القضية الملازم الاول الطيار ( ع . ع . ) والذي بقي محجوزا في مديرية الامن العامة ، الى محكمة الثورة ، واصدرت حكما ببرائته من التهمة التي احيل بها واطلق سراحه! وبذلك انتهت وقائع احداث شغلتنا كثيرا وخسرنا بها طيارا صرفت عليه الدولة اموالا طائلة وزمن كبير ليتمكن من اكتساب خبرة كان الوطن يحتاجها لمجابهة الهجمة من الشرق . حيث لم يعاد الى الخدمة في الجيش بعد ان افرج عنه .
بعد صدور امر البراءة طلب مني ان اقدم طلب لاعفائي من العقوبة التي اصابتني لانها باطلة لكون القضية اغلقت بعد براءة الطيار الذي كان سبب العقوبة . رفضت تقديم الطلب فحينها كان العراق يمر باحداث جسام في الشوش والمحمرة وغيرها . لذلك كانت مظلوميتي لا شيء مقارنة بما يمر به الوطن ( وهذا ما قلته صراحة يومها ولم اكن اخاتل او اجامل بل كنت صادقا مؤمنا بما اقوله )
اما باقي الضباط فان رئيس المجلس التحقيقي الاول الرائد الطيار ( ر . ك . ع ) وهو من خيرة معلمي الطيران فقد احيل الى وظيفة مدنية لاسباب امنية !!وحاليا يدير مشتل زراعي يمارس به هوايته ودائم الاتصال معه ، عضوي المجلس الذين شاركوني احدهم رافقني الى دورة اسبانيا وهو نفسه الذي استدعي للاستخبارات كما جاء في المقال السابق وهو الذي انزل العلم الايراني من الميناء العميق وكاد ان يعدم في حادثة الفوج المحاصر ( كما ورد في مقال سابق ايضا ) وحاليا يشغل منصبا كبيرا في احدى المؤسسات مما سبب ابتعادي عنه ! ، اما العضو الاخر فقد انقطعت اخباره عني . واما الطيار المتهم ( ابو الدكايك ) فهو يعيش حاليا في كركوك واسمع اخباره من اصدقاءه.
هذه حادثة كدت ان احكم بالاعدام نتيجة الاتهامات الباطلة التي اصابتنا ولولا ان تذكرت وجود ضابط الاستخبارات في الدقائق الاخيرة من التحقيق لكان قرار الاعدام جاهز بحقي وينفذ الحكم قبل ان تظهر براءة الضابط المعني ثم اكون شهيدا ولكن بعد ماذا ؟؟! والمهم هنا كم من الابرياء المخلصين فقدوا حياتهم نتيجة التسرع والشك ( ثم تعاد لهم حقوقهم ) ؟ ،ولكنها ظروف اكبر من تقييمنا يمكن ان تتخذها القيادة لمعالجة مواقف نكون نحن ضحاياها .
كنت اريد ان يكون المقال يشمل النصف الثاني من عام 1981 ولم اتصور ان تأخذ الاحداث وسردها هذه المساحة لذلك سأكمل احداث 1981 في مقال قادم ان شاء الله تعالى.
1188 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع