سليم البصري شارلي شابلن العراق الذي أفرح القلوب بضحكته
في كل ما قدمه سليم البصري من مسلسلات تلفزيونية وأفلام ومسرحيات كانت بغداد حاضرة بأناقة لغتها وحيائها وبصيرتها وقدرتها على التعبير عن نفسها.
العرب فاروق يوسف:لو أنه لم يقدم للدراما التلفزيونية العراقية إلا مسلسله الشهير “تحت موسى الحلاق” فإن التاريخ الفني سيضعه في المرتبة الأولى من قائمة المبدعين في العراق، مؤلف دراما ذا نزعة إنسانية لافتة وممثلا من طراز نادر. الرجل الذي لم يدرس التمثيل ومارسه شغفا وهواية استطاع في وقت مبكر من حياته أن يكون سيد الشاشة الصغيرة ليغزو عقول العراقيين وقلوبهم بأفكار تبدو للوهلة الأولى متداولة لبساطتها، غير أنها صارت تكتسب مع الوقت قوة الحجة الفلسفية السابقة لعصرها.
الحاج راضي
لقد اخترع سليم البصري الذي ولد في العام 1926 وتوفي في العام 1997 شخصية “الحاج راضي” الذي يعمل حلاقا في إحدى المحلات الشعبية ليلقي به في الوجدان العراقي مثل جرس إنذار، حيث تحولت جمل قالها ذلك الحلاق إلى نوع من لازمة الحديث لدى أجيال متعاقبة من المشاهدين سحرتها تلقائية التمثيل وعفوية المواقف وعمق ما تنطوي عليه تلك المواقف من حكمة أخلاقية، بالرغم من أن البصري حرص على أن يغلف أفكاره الرصينة بطابع كوميدي، كان بمثابة صلة الوصل بين المواطن العادي والرسالة الأخلاقية التي انطوى عليها ذلك الجهد الإبداعي الخلاق.
ما مرره البصري من قيم أخلاقية خلال الضحك البريء يجعله شديد الشبه بشارلي شابلن ملك الكوميديا الهادفة. كان لدى البصري شعور عميق بما تنطوي عليه الحقبة التي كتب فيها مسلسله من تحولات جذرية، يمكنها أن تمحو الكثير من التقاليد والعادات الشعبية التي كانت تجسيدا لقيم مجتمع متضامن ومتكافل على أساس أخلاقي. وهو ما دفعه إلى التنقيب عميقا في الجوانب الإيجابية للشخصية العراقية، فكان داعية حب وتسامح وخير وسلام.
الهاوي الذي غلب المحترفين
في عامه السادس عشر التحق البصري بأول فرقة للتمثيل. حدث ذلك عام 1942، حينها لم تكن هناك مسارح في بغداد تتسع لجميع فرق التمثيل، فكان أن اتخذت الفرقة التي التحق بها البصري من مقام ولي صالح في ساحة الرصافي بشارع الرشيد مقرا لها. غير أنه بعد سنتين من التمثيل انقطع عنه ليعود بعد أربع سنوات ليقدم مسرحية كان عنوانها لافتا بما يشير إلى استشعاره بمصيره الذي صار مرتبطا بالتمثيل.
بالرغم من أن البصري حرص على تغليف أفكاره الرصينة بطابع كوميدي، إلا أنه كان صلة الوصل بين المواطن العادي والرسالة الأخلاقية التي انطوى عليها ذلك الجهد الإبداعي الخلاق
عام 1948 قدم مسرحية (سليم البصري في ساحة التدريب) وهو ما يشير إلى رغبته في الوقوف إلى جانب كوميديي عصره من المشاهير الذين كانت أسماؤهم الحقيقية تشكل الجزء البارز من عناوين أعمالهم الفنية بغية جذب الجمهور. كل هذا لم يشكل حافزا بالنسبة إلى البصري في تغيير مساره الدراسي، فكان أن انتسب عام 1950 إلى كلية الآداب والعلوم الإنسانية ليدرس في قسم اللغة العربية.
وهكذا غلّب البصري الهواية على الاحتراف في مختلف مراحل حياته. فحتى مطلع سبعينات القرن الماضي كان البصري موظفا في المصرف الزراعي. لم يكن التمثيل يومها يشكل مصدر رزق ثابت.
أما حين انتقل البصري إلى العمل في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون فقد كان له الاسم اللامع والحضور المرموق. وهو ما دفعه إلى تقديم الجزء الثاني من مسلسله الشهير لكن عن طريق التسجيل بتقنية الفيديو، حيث بدأت مرحلة التلفزيون الملون، وهي مرحلة حافظ فيها البصري على بداهته ممثلا متمكنا عبّر الكثير من الممثلين العراقيين الكبار عن عجزهم على مجاراته في تلقائيته.
يقول راسم الجميلي وهو أحد ممثلي الفكاهة الكبار: “غالبا ما كنت أقع تحت سحر شخصية الحلاق الشعبي الذي كان يقف أمامي. لم يكن الرجل يمثل”، وهو ما قاله إبراهيم عبدالجليل، المخرج المصري الذي أخرج مسلسل “النسر وعيون المدينة” الذي كان البصري أحد أبطاله الرئيسيين.
بغداديته التي كانت بمثابة ناموس
كان سليم البصري بغداديا بعمق. لا لأنه ولد في الهيتاويين قرب باب الشيخ في جانب الرصافة، وهي المحلة البغدادية التي يشير اسمها إلى بلدة هيت غرب العراق والتي يحتلها تنظيم داعش الآن ولا لأنه تعلّم في مدرسة العوينة التي تقع في منطقة اشتهرت بسبب فريق كرة القدم الذي كان يمثلها في الدوري العراقي، بل لأنه استطاع أن يحنو برقة على الشخصية البغدادية ليلتقط عناصر بنيتها ومقوماتها التي كانت بمثابة خيط حرير قوي حرص البغداديون على التمسك به باعتباره ناموسا.
صار الحاج راضي رمزا لحملة التنوير ولم يكن أمام سليم البصري سوى أن ينحني لكي يمر الحاج راضي. فانتصر الأخير على مبدعه فكان هو الأهم في السباق، وهو ما كان يحلم به سليم البصري
ما فعله البصري لم يتخط العودة إلى دستور حياة البغداديين، ليطل من خلاله على رفعتهم ونبلهم وكرمهم. في كل ما قدمه البصري من مسلسلات تلفزيونية وأفلام ومسرحيات كانت بغداد حاضرة بأناقة لغتها وحيائها وبصيرتها وقدرتها على التعبير عن نفسها.
كان يومها فنانا واقعيا، غير أن من يرى أعماله اليوم لا بد أن ينسبه إلى رسل الخيال. كم كانت بغداد قريبة يومها من القلب ومن العقل معا؟ لقد ظهر البصري كما لو أنه الأيقونة التي تذكّر ببغداد خالدة، بغداد كما يعرفها أبناؤها الذين صاروا موضوعا لغزو تقاليد وعادات جديدة.
الحاج راضي الذي هو أشهر منه
في كل ما قدمه سليم البصري من أدوار فنية كان ساحرا، غير أن “الحاج راضي” وهو الدور الذي أداه في مسلسله “تحت موسى الحلاق” كان شيئا آخر. يومها اختلط الأمر على الناس ما بين البصري والحاج راضي. فمَن من بينهما يمثل الآخر ومَن يمحو الآخر؟ وكما أرى اليوم بعد أن هزتني تلك الشخصية في طفولتي أن البصري أثناء كتابته لمسلسله عام 1961 كان قد تماهى مع شخصيته الرئيسية “الحاج راضي” حيث صار نوعا منها، وهو ما جعله يقبل على تمثيلها عام 1964 كما لو أنه يستجيب إلى نداء القدر.
كان الحاج راضي قدره الذي سيبقيه حيا في ذاكرة العراقيين. لقد اكتسب الحاج راضي شهرة لم ينلها سليم البصري نفسه. كانت هناك مشاهد من ذلك المسلسل يحفظها العراقيون عن ظهر قلب كما لو أنها جزء من الدرس المدرسي. يتذكرون الرسالة التي قرأها الحاج راضي بطريقته في حلقة كانت مخصصة لمحو الأمية.
كان لدى البصري شعور عميق بما تنطوي عليه الحقبة التي كتب فيها مسلسله من تحولات جذرية، يمكنها أن تمحو الكثير من التقاليد والعادات الشعبية التي كانت تجسيدا لقيم مجتمع متضامن ومتكافل على أساس أخلاقي
بقدر ما جلبت تلك الطريقة التي لم تخن الحقيقة الضحك بقدر ما حرضت على ضرورة التعلم. كان هناك الكثير من الكلام التبشيري. لقد بشر البصري بالقراءة والكتابة، ولكنه لم يكن سوى الحاج راضي، الحلاق البسيط في تلك المحلة البغدادية الذي رضي أن ينتقل الدرس إلى دكانه ليكون صبيه “عبوسي” معلما يلقن الحاضرين في ذلك الدرس نشيدا يقول “جوزي أزوج عليا وأنا لسه الحنة بإيديا” لم يكن الحاج راضي سيد الموقف يومها غير أنه كان حاضرا بتوتر الممثل الذي كان سليم البصري يمثله.
يومها أنهى البصري جزءا من الملهاة بصرامته، غير أن لفتته العبقرية كانت بمثابة انطلاقة لمحو الأمية التي بدأت باعتبارها برنامجا حكوميا لتنتهي إلى حاضنتها الاجتماعية باعتبارها نوعا من الالتزام الأخلاقي.
لقد صار الحاج راضي رمزا لحملة التنوير. لم يكن أمام سليم البصري سوى أن ينحني لكي يمر الحاج راضي. لقد انتصر الحاج راضي على مبدعه فكان هو الأهم في السباق، وهو ما كان يحلم به سليم البصري.
أيقونته وزمانه
الآن وقد انتهى زمن الحاج راضي ما الذي تبقى من سليم البصري، سيكون علينا أن نعترف أن البصري كان قد سبق عصره. كان نبوءة لزمن لم يقدّر الكثيرون خساراته غير أن البصري وحده كان يقدّر أنه سيخرج من ذلك الزمن رابحا. وهو ما فعله وما أنهى إليه حقا.لا يزال صوته مسموعا ولا تزال صورته بغداديا تعيدنا إلى الجذر.
هذا رجل صنع معجزته من مفردات بسيطة. هي مفردات رسالته التي أضاءت الدروب أمام حشد هائل من البشر. سليم البصري هو الأيقونة الأكبر في حياة العراقيين.
الگاردينيا:أعدنا المادة اعلاه بمناسبة ذكرى وفاة / سليم البصري ..
680 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع