يهود العراق، ذكريات وشجون (٢٨) أحلى مساح في العراق-٢
جاء أبو علوان يوم الجمعة ليأخذني للمقابلة مع رئيس لجنة اختيار المساحين الجدد. كرر الوالد تفاصيل التمثيلية:
أبو علوان، لما يصيحولك للمقابلة ألزم إيد سامي وادخل كأنه ابنك، ولا تنسى تلبسه السيدارة گبل ما ادّخلون على المدير، ولا ترجع بلا ما تسجله.
أجاب أبو علون: على عيني وعلى راسي إبراهيم أفندي يا ابو يعگوب.
دخلنا غرفة المقابلة وقد جلس أعضاء لجنة الترشيح الموقرة بسحنهم الجادة وقد بقي بعضهم محافظا على شاربه الهتلري الذي كان ما يزال بالموده، وسأل المدير:
- إبني اشگد عمرك؟
- ايداعش سنة.
- مخلص ابتدائية؟ وين شهادك؟ سررت لهذا السؤال الذي قد يكون سبب خلاصي من أن أصبح أحلى مساح في العراق.
- لا، آني مخلص صف خامس ابتدائي بس.
بادر أبو علوان بتصحيح الأمر:
عمي ميخالف، هضا ابني شاطر، على سنة وحدة، السادس، ميخالف مشيها، عمي، سويها الخاطري .
ضحك المدير وقال لأبي علوان": أنمشيها انمشيها، لكن الجهاز مال الدربين خاطر يقيس المساحة يطلع أطول من هل ولد، هاي اشلون نمشيها يابا. المسألة متصير!
غمرتني فرحة عارمة، لا مساح ولا تياه بالجوال مال العراق بين الاقطاعيين ورؤساء العشائر والفلاليح المظلومين وقطاع الطرق والكلاب الضالة.
- عمي والله الولد شاطر، سجله الخاطر الله !
- روح عمي روح، خلف الله عليك، أخذ الولد وروح، هذا وين، والجهاز مال المساحين وين؟
حاول أبو علوان الاعتراض، كيف يرجع إلى والدي "بايد من ورا وايد من جدام، وماسح ايده بالحايط؟" حسب تعبـيره.
- لكن عمي، هذا ولد شاطر، راح يكبر ويطول…
- ولك لطولها، گلتك أخذ هل الجاهل وروح يلله، الله وياكم! ما عندي وكت أضيعا وياك. جايبلي جاهل ابنص الجهاز ما يطلع.
لكن تعال جاي، انت شسمك؟
-أبو علوان البستنچي.
بدت الحيرة على وجه المدير، وسأله بتعجب: زين، أوين صار سامي إبراهيم معلم، إنت أبوه؟
لم يجب أبو علوان على هذا السؤال المحرج.
- لك أبو علوان، آني الشي المحيرني هو، هسه ليش ملبسينه الهل جاهل سيدارة بهل عمر؟
ثم صاح كما صاح ارخميدس: ,Heureka Heureka (وجدتها، وجدتها = عرفت)، عندما اكتشف قانون السوائل، أن الجسم المغمور بالماء يفقد من وزنه بقدر وزن الماء المزاح:
-ها إعرفت، ها اعرفت، والله إعرفت، هذوله يهود سختجية، أمبـيين خاطر نشوفه ال هل جاهل أكبر من عمره ملبسينه بهل سيدارة المخيطيها من ورا ودازينه ويا فلاح. وانفجر ضاحكا مع باقي أعضاء اللجنة المحترمة: والله خوش دالغة، خوش بسته من هل اليهود.
لم يجد أبو علوان بدا من الانسحاب حفاظا على شرفه وكرامته، وأنا أكاد أطير من الفرح لفشل هذه المقابلة.
قال الوالد لأبي علوان عندما عدت فرحا إلى بيتنا، وأنا أتأبط بفخر السيدارة المخيطة من ورا .
- ها أبو علوان، انشا الله خير؟
- گالوا هذا جاهل والعدة مال المساحة تطلع أطول منه. ميكدر ياخذ دربين على الجول (الصحراء، أو البرية).
- يعني ولو أطول منه؟ يعني ميگدر ياخذ سطل ويگلبه ويوگف عليه وياخذ دربين على الجول؟.
حمدت الله على أن أبا علوان والمدير وأعضاء اللجنة لم يكن لهم مثل عبقرية الوالد في حل جميع المشاكل في العالم. ضحك أبو علوان وقال:
- عمي يعني هم يشيل العدة والأدارة مال الدربين وهم يشيل السطل وياه وين ميروح بالجوال؟ گالوا متصير!
أخذ الوالد يشتم هؤلاء "الدماغ سززية" الذين لا يحسنون حل مثل هذه المشكلة البسيطة بقلب السطل لأقف عليه لضرب الدربين مال المساحة. لو يستطيعون حل المشاكل مثله بالبديهية، لصارت العراق أحسن من إنگلترا.
وقف أبو علوان وقد طارت النشعة من رأسه، فقد علم علم اليقين بأن نص البخشيش راح عليه.
ولم أنل من كل هذه البهدلة من هذه التمثيلية سوى أن أخي جاكوب أضاف صيتين إلى قائمة أصيات الشرف التي منحها لي، وهما بعد "أبو عيون العغبي" و"الميت عاش" (لإصابتي بذات الرئة <سطل جنب>حتى كدت أموت): "أبو السيدارة المخيطة" والثاني: المساح أغا.
لم يفت من عضد الوالد حرماني من أن أكون أحلى مساح في العراق بسبب أعضاء لجنة المساحين "الدماغ سززّية" الذين لم يستطيعوا أن يحلوا مشكلة صغيرة مع آلة الدربين الطويلة. فهدته عبقريته إلى حلّ أفضل. كانت له تجربة ناجحة في بناء قسم خاص له في دار والده الواسعة، من مهر الوالدة بأربع غرف بعد زواجه، ولما تسلم تعويضا عن هدم البيت بسبب شق شارع غازي الجديد، قمنا بإنزال أسلاك الكهرباء، فخر الدار، التي ركبت حديثا، قام ببناء دارنا في بستان مامو. لماذا لا يقوم بإقناع أقرباء العائلة ببناء دور لهم في محلة البتاويين قرب دارنا التي خططها وبناها، ويكون هو المقاول والمشرف على البناء ويحصل على المال بهذه الطريقة المشرفة بدلا من الاشتغال بالتجارة ومنافسة خال الوالدة في التجارة؟ رسم لأخوالي ساسون وحاييم خريطة البيتين التي أعجبت خاطرهم بعد أن ضاقوا ذرعا بالسكنى في بيت والدتهم في حنون صغير ولاحتكاك الكنات والقال والقيل بينهن، وإرشادات الحماة أم والدتي التي لا تغيب عنها شاردة وواردة، وهوسات الجيل الجديد في ألعابه في البيت الكبير ذي السرداب والبئر لطهارة النساء. اخذ الخريطة ودفع لمهندس البلدية هدية لتأشيرها والموافقة عليها. وعرض المشروع على خالي حاييم وعلى خالي ساسون بعد أن وجد قطعتي أرض متجاورتين قرب بيتنا وليكونا قرب أختهما التي كانت تقرر لزوجتيهما ماذا تلبسان، وأي اسم فرنساوي يطلقنه على الأولاد والبنات والى أية مدرسة يرسلون، وما هي آخر مودة التي يجب عليهن لبسها. فهي مدرسة الفرنساوي في مدرسة الأليانس التي تفهم في كل شئ، غير أن القدر أعطاها زوج يندعي أنه اشطر منها، ويقول إنها لا تفهم شيئا من أمور الدنيا الواسعة سوى في أمور النسوان.
فرحت الوالدة بهذا الخبر السار، فستكون قرب أخويها العزيزين وتستطيع بث همومها من الأطفال والزوج وتكون لها الكلمة النهائية في أمور عائلة أخويها.
وبعد أن بدأ الوالد ببناء بيوت للأقرباء تحسنت حالتنا المالية ولم تعد حاجة إلى إرسالنا للتصييف مع شلاتيه من محلتي أبو سيفين وأبو شبل أو التيه والتعرض للخطر في قياس أراضي الدولة العراقية بالدربين ومنازعات القبائل والإقطاعيين والفلاحين حول ملكية الأراضي. وقد قيل "الإنسان في التدبير والله في التقدير"، ورحم الله أيام زمان.
وبعد بناء الوالد عدة بيوت، اشترى لنا سكيتنج (عجلات التزلج) وبايسكل (دراجة) مستعمل عانى منها الأخ جاكوب الأمرين بسبب ندرة الإطارات المطاطية والبناجر فيها، واشتريت كفوف (قفازات) الملاكمة ومضرب التنس، وأخذنا نتعلم ركوب الخيل والسباحة، وترأست فرقة كرة القدم التي شارك فيها أحد الأصدقاء من بستان الخس ولم يكن رياضيا مثلنا، وكان يخشى منازلتنا في الملاكمة والمصارعة، ولكنه كان يحسن صياغة الكلام فقط، ويعزو نجاح الآخرين إلى فضل نصائحه التي يسديها مجانا ولوجه الله، فالنصائح التي يسديها للآخرين هي السبب في نجاحهم، وكثيرا ما يفلح في اظهار كل أمر يقوم به بأنه فتح مبين، وما زال إلى اليوم يلومني على عدم محاولتي إظهار ما أقوم به من الأعمال والكتب التي أنشرها بمظهر الفتوحات العظيمة في مجال الأبحاث ويقول "والله لو ترجمتْ أبحاثي إلى اللغات الأخرى مثلك "كان هوستو بيها أكبر هوسات". ويعرض في المقابلات التلفزيونية صوره مع كبار الكتاب العرب بفخر كفتح مجيد، وكنا في البتاويين ننظر إلى سكان بستان الخس اليهود باستخفاف، فهم من القاطنين الجدد ولم يتمرسوا مثلنا في الصراع مع أبناء الطبقة الحاكمة والحماميل كما تمرسنا نحن في بستان مامو ولم يكونوا يحسنون الكلام باللهجة الإسلامية مثلنا، ويخشون منازلتنا في الملاكمة والمصارعة، وكنا نسميهم بـ"ـ المخانيث" لأنهم لم يجسروا على المشاركة معنا في العراك والمكاسرة بالحجارة ضد المحلات الأخرى.
وفي مجال الاعتداد بقوتنا، كنا الى جانب ألعاب الجنباز والكرة الطائرة في المدرسة في ساحة مناحيم صالح دانيال قرب دارنا نتبارى في تمرينات قبضة اليد، وكنت كلما وفرت بعض النقود أذهب مع ريمون وفودي (فؤاد شماش) ويعقوب حاي لمحل لبيع السيفون والسجائر في الزاوية التي تقع بين شارع الرشيد وجسر الملك فيصل حيث وقعت الوثبة عام 1948 وسقط فيها الشباب المسلم واليهودي والمسيحي، منهم الشهيدين جعفر أخو محمد مهدي الجواهري وشاؤل طويق الذي كان من زعماء الحزب الشيوعي العراقي والذي يقال إن أحد أفراد الشرطة السرية أعطاه الراية العراقية ليستطيع رماة الشرطة السرية التعرف عليه وقتله ومن هناك أيضا كانت المظاهرات لنصرة فلسطين تنطلق منها مرددة "عاشت فلسطين عربية، حرة مستقلة" و"فلسطينُ، فلسطينُ، من الشرق إلى الغرب تحييك الملايينُ".
كان في هذا المحل آلة لقياس قوة الكفين بالضغط على عتلتين ومحاولة التقريب بينهما. وكان على من يرغب في قياس قوة كفيه أن يضع قطعة نقدية من ذات العانة (4 فلوس) ويبدأ بحصر العتلتين في قبضته ويحاول تقريبهما الواحدة من الأخرى. ففي البداية عندما كان عقرب المؤشر يدور يضيء مصباحا صغيرا بلون أبيض، وكلما نجح اللاعب في الضغط وتقريب العتلتين أكثر تتوالى ألوان المصابيح الصغيرة من أصفر الى أخضر الى أزرق وآخرها الضوء الأحمر وعند ذلك فقط يرن الجرس معلنا عن فوزك الباهر.
ومع التمرين والوقت أصبحت أستطيع الوصول بدون جهد كبير إلى إضاءة المصباح الأحمر ورن الجرس، فيصفق لي الأصدقاء معجبين بقوة يدي.
وقف ثلاثة من الشبان الذين يبدو من عضلاتهم انهم يعملون في تصليح السيارات وفي كراجات البناجر، قال زعيمهم وهو يرى كيف استطعت الوصول إلى الضوء الأحمر بدون جهد كبير، لصديقيه باستخفاف:
"هاي هم مراجل، والله هسا اطكها، أشو محمود جيب عانة!" (هل هذه بطولة، والله سأكسر هذه الآلة بسهولة، محمود ناولني 4 فلوس)، ناوله صديقه العانة عن طيب خاطر لكي يظهروا لهؤلاء الزعاطيط الذين يرطنون بلهجة أهل البتاويين بطولة الشباب الباسل من محلة الفضل الإسلامية. وضع محمود العانة في الشق الخاص بها بصورة احتفالية وهو ينظر إلينا باستخفاف، "راح أوري هذوله الزعاطيط اشلون أطكها".
بدأ صاحبنا يضغط على العتلتين، وتحرك العقرب ببطء عنين شديد، وبالكاد استطاع إنارة المصباح الأبيض، صار يعصر بكل قوته وقد احمر وجهه ثم أخذ جسده وذراعيه ترتعد وأنوار المصابيح لا تستجيب كأنها تسخر منه و"على عناده". كتمنا ضحكاتنا لكي لا نغضبه، فقال له صديقاه:
ها محمود! أشو جعّصِت؟ .
وتوقف محمود عن محاولته وجبينه يتصبب عرقا وقد احمر وجهه. ولكن العراقي الأصلي لا يعلن فشله بسرعة، وعليه إيجاد سبب وجيه لعدم انجاز وعده، وكثيرا ما يجد العراقي جوابا مفحما يتهم فيه الآخرين بفشله تعويضا عن إخفاقه.
تراجع محمود خطوتين، وتفل على اللآلة وقال: "تف! أنعل ابوج حسنة، هاي كلها من النييـ..." ونظر إلينا معتـزا بإفراطه في ممارسته الجنس مع النساء الساقطات من "الميدان" حيث المبغى العام واللواتي اضعفن قوته الجسدية، ولذلك لم يستطع مباراة من أسماهم بالزعاطيط في مثل هذه الهواية البسيطة. كتمنا ضحكنا وأسرعنا في مغادرة المكان، فنحن في نظره ما زلنا زعاطيط ولم تستنزف المرأة قوانا ونقودنا بعد، وعجبنا للبديهية التي اشتهر بها العراقيون في إيجاد أعذار لفشلهم!.
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/fereboaliraq/35251-2018-05-01-17-23-40.html
1133 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع