يهود العراق – ذكريات وشجون (الحلقة ٣١) (يهودي عراقي في أوروبا)
في أواخر سنة 1961 قال لي البروفيسور دافيد أيلون أستاذ التاريخ الإسلامي والمتخصص في تاريخ المماليك – وهو أبي الروحي في الجامعة العبرية وكان مع البروفيسور دافيد بنيط أستاذ الفلسفة الإسلامية واليهودية والأدب العربي الوسيط والست شولميت ناردي مدرسة اللغة الانكليزية في الجامعة من أساتذتي المفضلين الذين شملوني برعايتهم وتشجيعهم طوال سنوات دراستي:
"من الأفضل أن تنهي دراسة الماجستير بسرعة، فنحن نريد إرسال بعض التلامذة المتفوقين لتوسيع نطاق المواضيع التي تدرّس في معهد الدراسات الشرقية ليصبح معهدا للدراسات الأسيوية والأفريقية. نريد إرسالك للتخصص بالأدب العربي الحديث".
ثم تسلمت منه رسالة بعثها من لندن طالبا أن احصل على توصية ممتازة من الأستاذ بنيط، فقد تحدث مع البروفيسور روبرت سارجنت حول دراستي في معهد الدراسات الأسيوية والافريقية في جامعة لندن واتفق معه على كتابة الأطروحة تحت إشرافه.
طلبت من البروفيسور بنيط توصية إلى جامعة لندن حسب إشارة الاستاذ أيلون. قال لي بنيط: "سأرسلها إليك على جناح السرعة، الوقت ضيق"، عدت في المساء إلى دارنا فإذا بي أجد رسالة التوصية في صندوق البريد. تعجبت من انجاز وعده بهذه السرعة. أستاذ في السبعين من عمره، يكتب رسالة توصية ويأخذ سيارة أجرة ليضع الرسالة في صندوق البريد بنفسه لأقدمها في اليوم التالي للجنة المنح الدراسية للمجلس البريطاني بتوصية الجامعة العبرية، رحم الله هؤلاء الأساتذة الكبار وعطـّّر ذكراهم فقد كانوا يبذلون النفس والنفيس في سبيل طلابهم وتقدمهم في الحياة العلمية، وشعرت بعظم المسئولية تجاههم وتجاه هذه الجامعة التي يمثلونها.
كنت واقفا أمام غرفة البروفيسور أوريئيل هايد رئيس المعهد لأخبره بحصولي على منحة المجلس البريطاني للدراسة في لندن. شاهدني مدرس تاريخ الأدب العربي الحديث السوري الأصل الذي كان يلقي محاضراته باللغة العربية على طريقة أيام العسملي: "ولد الشاعر في سنة ... ومات في سنة" مع قائمة مؤلفاته.
سألني: هل أنت أيضا تريد مقابلة رئيس المعهد؟
قلت نعم
سأل: ولماذا؟
قلت: في أمر يتعلق بدراستي في لندن.
قال بحدة: إذن فسأدخل قبلك لأقول لرئيس المعهد بأن لا يعطيك توصية قبل أن تنهي جميع امتحانات الماجستير! من قال أنك ستنهي الدراسة بتفوق؟"
كان هذا المدرس قد ذاق الأمرين من الطلبة القادمين من العراق وخاصة لاعتدادهم بأنفسهم كأن لهم الوصاية على اللغة العربية، وكلُ واحد منهم يدعي بأنه شاعر أو أديب أو صحفي هزت أقلامه منابر الأدب في العراق مهد العروبة والحضارة، ولتصويبهم له في قواعد اللغة العربية حسب ألفية ابن مالك ولاستخدامهم حرف "قد" في كل جملة وعدم تمييزهم بين حرفي "الضاد والظاء".
أجبته ببرود: حصلت على توصية البروفيسور بنيط بإشارة من البروفيسور أيلون.
أ ُسْقـِط َ في يده وشعر بالحرج وأجاب لتلافي الأمر: "طيب! سأوافق على كتابة توصية لك أسوة بالآخرين".
هالني الفرق بين معاملة هذا المدرس والأساتذة الكبار خريجي الجامعات الألمانية الذي كانوا يرعون العلوم والفنون ويفتشون عن نوابغ الطلية لتهيئتهم للمستقبل بدون تحيّز.
سمع أخي جاكوب بالنبأ السار حول إرسالي في بعثة دراسية إلى لندن، قال بحزم، مثل كثير من الأصدقاء الذين درسوا معي: "أنت تصير دكتور وأنا ما أصير؟ يجب على الوالد دفع تكاليف سفري".
كان أخي يتبوأ منصبا رفيعا في بنك إسرائيل ومشرفا على قسم النقد الأجنبي وله مستقبل باهر: "لا، لازم أصير دكتور، فقد كنت من الأوائل في البكلوريا العراقية!".
تحدثنا مع الوالد الذي كان قد وصل توا إلى إسرائيل بعد أن هرب من "نعيم العراق" بُعـَيـْد أن فرهدوا داره، فعجب لهذه الدولة "المقلوبة" التي ترسل طالبا لدراسة اللغة العربية في لندن ولا ترسل أخاه المتفوق في دراسة الاقتصاد والذي كان يشغل في الأربعينيات من القرن الماضي منصب سكرتير المدير الانكليزي في شركة أندرو واير ومن البارعين بالشورت هاند (الاختزال) والطباعة باللغة الإنكليزية ويصحح أخطاء المدير الانكليزي الذي كان برتبة ميجر في الجيش البريطاني، لدراسة الاقتصاد في لندن.
سافرنا بالباخرة من حيفا إلى ميناء نابولي في إيطاليا لتوفير أجرة السفر بالطائرة، ومن ثَمّ في طريقنا إلى روما التي تشوق أخي فيها الى متاحفها وصالاتها الفنية ومدينة فرنزا حيث درس أخي مراد الفن فيها بمنحة من الحكومة الأمريكية، ومنها الى البندقية التي كنتُ أتلهف إليها والى قنواتها "ليسرى الجندول بنا في عرض القنال"، فينيسيا التي ألهمت الشاعر الكبير علي محمود طه المهندس "البطران على الدنيا"، رائعته "الجندول"، ولأغني في جندولها الذي استأجرناه والذي أمسك بمجذافه ملاح خبير بقنواتها: وهو"يسوي بيد الفتنة شعره" على ألحان الموسيقار محمد عبد الوهاب الخالدة، ونسبح معه على أنغامه الرائعة وأنا أردد بسكرة رحيق الشباب الحلو في التصابي وأشم رواح الجنة في الشباب:
أين من عيني هاتيك المجالي يا عـروس البحـر، يا حـلم الخيال
أيـن عشـاقـك سـمار الليالي أيـن مـن واديـك يـا مهـد الجـمال
موكب الغيد وعيد الكرنفال وسرى الجندول في عرض القنال
فأقول لأخي "أبربك، هاي القصيدة مو أحلى من ألف نظرية بالاقتصاد السياسي؟"، فيرد أخي باستخفاف: "إي والله! من هاي كل الشعراء العرب مشردين وميتين من الجوع!".
ومن فينسيا التي جعلت قصائد المهندس الرائعة تتردد في خيالي وبصوت عبد الوهاب المخملي بلازمة "كيلوباترا" فاتنة الدنيا وحسناء الزمان:
يا حبيبي هذه ليلة حبي آه لو شاركتني أفراح قلبي
ومن فينيسيا الى جنيفا ونوافير بحيرتها وباريس مدينة الأضواء وبرج إيفل والانفاليد ومولان روج وتمثيليات موليير وقوس النصر ولقاء مراد أخي في الأستوديو المتواضع الذي أصبح عشا للمعجبات به وبرسومه ثم الى كاليه ودوفر عبر القنال إلى بيت القصيد، إلى لندن.
أراد جاكوب أخي أن يمتحن مبادئ اللغة الإيطالية التي تعلمها في بغداد وكانت هذه أول مرة نزور فيها أوروبا وهي ما زالت تلعق جراحات الحرب العالمية الثانية وما زالت متغطرسة بنصبها التذكارية الممجدة لحروبها الاستعمارية وقادتها ومتاحفها ومعارضها ومسارحها وبمطاعمها التي يعد فيها لحم الخنزير من أطيب اللحوم والعياذ بالله، وذلك قبل أن يغزوها المسلمون بمساجدهم التي تنافس سرعة تشييد الأوربيين للبنوك.
كنا في بغداد وإسرائيل متعودين على الطعام الكاشير (الحلال)، فالدين لله والوطن للجميع والمسلمون يحترمون شعائر الديانات الأخرى وخاصة أمور الحلال والحرام عند اليهود. وفي عام 1948 أسس بعض اليهود مطعما قريبا من سينما غازي ولتشجيع الزبائن اليهود على ارتياده كتبوا على واجهته كلمة "كاشير" بحروف عربية وعبرية. وصادف أنني اجتزت من أمام الواجهة ذات يوم والحماس للمعارك في فلسطين على أشده، فإذا بثلة من الشباب المتحمس، لعلهم من حزب الاستقلال المعادي لليهود، يحطم الواجهة التي كتب عليها "كاشير" بحروف عبرية ويدخلون المطعم كالفاتحين الأشاوس ويحطمون الموائد والصحون ويضربون النادل والمدير والزبائن وقد صدمتهم المباغة، ثم يخرجون مظفرين مثل خروج صلاح الدين بعد أن فتح بيت القدس ظافرا وحررها من الصليبيين.
أما في إسرائيل فهم مصابون بهوس وبحمى "الكاشير والطاريف" (اللحم الحلال والحرام) والفصل بين الحليب ومشتقاته وبين اللحوم. ولأجل الحصول على شهادة بأن المطعم يقدم لحم الحلال يجب تعيين مشرف على (الكشروث) وبراتب شهري يقصم الظهر ودفع رسوم الشهادة التي يعلقها أصحاب المطاعم على أبوابها بفخر كما يعلق كبار العلماء شهادة نوبل في مكاتبهم. وفي مطابخ العائلات اليهودية المحافظة يوجد قسمان من المغاسل لغسل أدوات الطعام، واحدة لأدوات الحليب والأخرى لأدوات اللحم، وعلى هذا نشأنا و"عادة البدن لا يغيرها سوى الكفن"، وأنا لا أحب تغيير عاداتي. وما أن وضعت قدمي على أرض أوروبا حتى بدأ الصراع المخيف في داخلي بين العادات اليهودية والعادات المسيحية، فهنا لا يفقهون معنى الحلال والحرام، فقد أحلت لهم الطيبات، وكل شيء جائز بتحسين عقولهم وتجاربهم العلمية التي يغيرون نتائجها بين حين وآخر فيسرع الناس إلى تغيير عاداتهم، فالدين الجديد أصبح التجارب العلمية وفقهاؤه هم العلماء في المختبرات، أما رجال الدين فالمنقول عندهم هو أسمى من المعقول.
وفي ميناء نابولي دخلنا مطعما للسباكيتي، فأخي مولع بتدشين الطعام القومي لكل بلد يزوره، أما أنا فمحافظ لا أحب المجازفة بطعام جديد لا أعرف عواقبه على معدتي المدللة. جاءوا بالاسباكيتي باحتفال عظيم مما زاد لهفة أخي إليه وخاصة عندما شاهد بخاره يتصاعد إلى أنوف الايطاليين فيسيل لعابهم. نظرت بشك وخوف إلى الطبق الذي وضعه النادل الايطالي برشاقة وبحركة درامية رائعة زادت من شكوكي. صحن عليه تل ملئ بالسباكيتي الذي يشبه السالبيح (الدود) السابحة في عصير الطماطم الأحمر وفوقه طبقة تشبه "الطين خاوه" العراقي المشهور، تتصاعد منه رائحة لحم لم أعهدها من قبل، متوجة بقمة من المسحوق الأصفر له رائحة شيء "محنن" (عفن) غريبة على أنفي. صحن يبدو كأنه جبل الشيخ (الحرمون) بهامته المكللة بالثلوج في الشتاء. ناديت النادل بحدة، عرف أخي من صوتي بأني مقبل على عركة عراقية شمّ فيها رائحة "العونطة":
- يابا! هذا الطين خاوة فوق هل سلابيح المدممة شنو؟
- سيدي هذا لحم خنزير ممتاز.
كـِدْتُ اسقط من هول "النبأ السار"، والنادل لا يفقه سبب غضبي، وأردفت وأنا أطلب من الله أن يهدئ أعصابي وروعي وأطبقتُ أصابعي بشدة على الشوكة لكي لا أمسك بالسكين. فتناول لحم الخنزير عند اليهود من الكبائر والذي يرى بعض المتشددين أنه من الأولى الاستشهاد ولا تناوله، على الرغم من قدسية الحياة عند اليهود.
- وزين هذا الأصفر مثل خريط الأهوار العراقية شنو؟".
أجاب النادل بأدب:
- هذا جبن أصفر مفروم!
- ولك أحسن لك شيله بالعجل من قدامي، قبل ما أزوع. آني لا طلبت لحم خنزير ولا جبن معفن، ولا يحزنون!
- من أي بلد أنت؟ نحن نقدم صحن السباكيتي هكذا! أنت الذي طلبته!
أحمر وجه أخي وقال وهو يُحَرّق الأ ُرّم:
- سامي، أهدأ! تريد تسويها عركة، ليش أحنا بالبتاويين؟ هذا أكلهم واحنا طلبناه".
- آني طلبت لحم خنزير؟ وفوقها متلل بجبن محنن؟ وآني شايفك أمغول عليه، يا حفيد الحاخام، راح تالي ما تالي تاكل لحم خنزير؟
- لا، راح أشيل اللحم وآكل السباكيتي ويا الجبن. وانت شي يخصك، عيب أقعد لا تبهدلنا قدامهم.
قلت للنادل بحزم:
- شيل صحنك وجيب خبز وبيضة مسلوقة وزيتون وبس!
- وهذا الصحن شنسوي بيه!
- أنطيه للبزون، انطيه لأبوك، بس شيله من قدامي، ترى لعبت نفسي!.
- لازم تدفع!
- وأدفع، ليش ما أدفع؟ بس شيل الصحن الملعون من قدامي.
تنفس أخي الصعداء وحمد الله أن المسألة انتهت بسلام.
لم تنته مشاكلي مع التقاليد الأوربية الغريبة التي أزهقت روحي، والتي لم نعرفها في البلاد العربية، قلت لأخي: والله خلف الله على العرب والإسلام، ما كانوا يسوولنا هيج مشاكل بالأكل.
وصلنا إلى لندن بعد سلسلة طويلة من مثل هذه المفاجآت المقرفة وأخي مسرور بأن الفتيات الأوربيات صرن يبتسمن لنا ويبادرن بالكلام معنا ويستجبن لدعوتنا لتناول الشاي وصحبتنا للتفرج على معالم المدن التي نزورها. وأخيرا بلغنا لندن أم الدنيا، بعد أن تعلمنا أن نسأل فيما إذا كان اللحم الذي يقدمونه هو لحم خروف أو لحم ابن الحرام الذي يتعفف اليهود والمسلمون من ذكر اسمه. وعندما سمع الطلبة المسلمون في أوروبا بأننا نطلب لحم الغنم فقط، قالوا لم نكن نعلم بأنك يمكن أن ترفض اللحم اللعين، وسروا لهذا الاكتشاف ودعوا لنا بطول العمر.
ذهبنا إلى مطعم باكستاني، فعلى الأقل هؤلاء ممن أنعم الله عليهم وهداهم إلى صراطه المستقيم، ويعرفون معني الحلال، فقد أقسم صاحب المطعم بأن اللحم في اللوقانطا (مطعمه) حلال اشتراه من ملحمة إبلوم اليهودي في جولدرز جرين اليهودية فهدأ روعي وحمدت الله أننا نستطيع أن نلوذ من الجوع في حمى الباكستانيين. طلبت شايا بعد تناول الكباب الباكستاني الذي أحرق لساني من كثرة الفلفل. جاء النادل بكأس فيه حليب أكثر مما فيه شاي. قلت له بغضب: لم أطلب حليبا بل شايا. أجاب بالانكليزية بلثغة باكستانية خاصة جعلتني ابتسم وأنسى غضبي:
- سيدي، هذا شاي!.
- لا هذا حليب، أنا ما أشرب الحليب مع اللحم، أنا يهودي.
- ها عمي، افتهمت، في لندن، يجب أن تقول أريد شايا أسودَ (بلاك تي)، أما إذا قلت أريد شاي وبس، فالانكليز يفهمون بأنك تطلبه بالحليب.
شكرته على نصيحته الغالية واستعذت بالله العلي العظيم من تقاليد الأغيار الغريبة.
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/fereboaliraq/37897-2018-11-20-16-54-20.html
793 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع