'حين يمشي الجبل' لهيثم حسين .. كائنات مضرّجة بروح الكتابة

يوميات كردي في لندن

ميدل أيست/دميل داري:قصص تنبض بواقعية عميقة، تتغلغل في عمق الأشياء مركّزة على مسألة الوطن والغربة، والزمان والمكان ببيان مشرق، ولغة نابعة من القلب للقلب.

ما زال المبدع الكردي العامودي هيثم حسين يسير بنا مع الجبل، وهو ينثر علينا رموزه الدالة على خيال شاسع، أين منه خيال الشعراء الذين يقضمون القلق؟

شابّ وحيد يُهجّر من بلده قسرًا، ويحترق بيته كما احترق جسده من قبل، فإذا بنا أمام روحه المحترقة التي لا تكفّ عن الغناء مع الحجل والجبل الأشمّ الذي غدا أسطورة تمشي على قدمين، فلا شيء في حياة هيثم ساكن جامد، بل كلّ الكائنات لديه مضرّجة بروح الكتابة التي هي حياة عظيمة على النقيض من الحياة الملطّخة بالعبث والقتل والجنون.

الكتابة عنده شوق إلى الأبعاد، يريد اكتشاف قارات جديدة في عالم الكتابة، كيف لا وهو مزوّد بطاقة جبارة على اجتراح الشوق إلى الغد أكثر منه إلى الأمس.

لم يضع هيثم في لندن كما ضاع كولون ويلسون في سوهو، لأنّه أصلًا ولد غريبًا في بلده، وعاش فيها غريبًا، فأيّ غربة أخرى لا تشكّل عليه عبئًا أكثر من غربته الوجودية، فهو بلا وطن، لذلك يشعر أنّ كلّ مكان ليس فيه رائحة بلده النازفة لا يعوّل عليه.

"حين يمشي الجبل " صوت كردي عالٍ يصل إلينا من أبعد المسافات، ويلامس قلوبنا التي تنزف ألمًا وأملًا.

قصص من واقع الحياة، يسكب عليها هيثم من أسلوبه الشاعري الذي يوقظ فينا أفكارًا هاجعة، وأحلامًا متعكّزة على الريح.

قصص تبدأ ولا تنتهي، وكأنّها بحاجة إلى بداية جديدة على غرار ألف ليلة وليلة.

من قصة "شاعر قرّر أن يصمت" إلى قصة "شاعرة تحرق قصائدها" يمشي هيثم مع الجبل محاولًا أن يُخرج الشاعر من صمته المزمن، وإقناع الشاعرة ألّا تحرق قصائدها، وكلّ ذلك يؤكّد على أنّ الشعر يجري في الذات الكردية جريان الروح في الجسد.

قصص تنبض بواقعية عميقة، تتغلغل في عمق الأشياء مركّزة على مسألة الوطن والغربة، والزمان والمكان ببيان مشرق، ولغة نابعة من القلب للقلب.

في الكثير منها تضيع الحدود الفاصلة بين الواقعي والعجائبي، وذلك لأنّ الكثير من محطات الحياة هي أكثر عجائبية من الخيال بكلّ جموحه.

في كلّ قصة شخصيات حيّة وحيوية، نشعر أنّنا نعرفها من زمان، ونسعى إلى معرفة المزيد عنها، لأنّها تشبهنا، وأنّ الأحداث سيرة يومية لكلّ واحد منّا.

لوحاتٍ قصصية لا نملُّ من إعادة قراءتها، ففي كلّ قراءة كشف جديد وفريد، فهي تصور لنا كاريزما الشعب الكردي الذي يولد من موته.

هي يوميات كردي في لندن مدينة الكاتبة الإنكليزية المشهورة أجاثا كريستي، التي طافت في البلدان العربية، ومنها شمال شرق سوريا، وتحديدًا تشاغر بازار التابعة لمدينة عامودا التي ينتمي كاتبنا هيثم إليها، وهكذا التقى الجبلان بعد طول زمان.

قصص المجموعة تشمّ منها رائحة البيئة المحلية التي استطاع هيثم تصويرها بدقة، حتى عندما يكتب قصة (مترجم مانديلا) يذكر رفض مانديلا لجائزة أتاتورك عام 1992 وقوله: "حاول أن تكون كرديًّا ساعة واحدة، ثمّ أخبرني عن شعورك، وستعلم لماذا رفضت جائزة أتاتورك".

إنّ هذا الخلط بين الواقع والخيال يولّد فينا فضولًا للتفكّر في الحدّ الفاصل بينهما، وهذا يذكّرني بقصة "الشاعر النمر" للكاتب الياباني تاكاشيما تون المتوفّى سنة 1942، وهي تعبّر عن التمزقات التي كان يعاني منها المجتمع الياباني فترة الحروب.

هذه التمزّقات تستمرّ في زمن هيثم حيث الحرب والاستبداد وانتهاك الحرية والكرامة، فهي قصص الإنسان الذي "قد يتحطّم، لكنّه لا ينهزم" كما جاء على لسان بطل همنغواي في "الشيخ والبحر".

هيثم يكتب النقد والرواية والمقالة والقصة القصيرة والترجمة، وفي ثنايا كلّ ذلك ألمح فيه روحًا شاعرية ظاهرة ومخفية، كيف لا وإحدى جمله تطنّ في أذني كصور القيامة:

"كانت يداه تفتحان الأفواه لتحرير الكلام الذي بقي محبوسًا فيها، كالحجر العالق في القلب". من قصة بقجة الغجري القرجي ص 146.

هيثم سفيرنا إلى أبعد نجمة كما قال ذات يوم ناظم حكمت: "قلبي ينبض مع أبعد نجم".

ولا أظنّ أنّ هناك أجمل من نجوم عامودا التي كنّا نعدّها في طفولتنا قبل أن ننام، وما زلنا نعدّ نجوم الأمل في حياة حرّة كريمة لكلّ سوريا.

أنا أحلم إذًا أنا موجود، ولن يموت حلم وراءه جبل يمشي، ولا تهزّه ريح الزمن.

هناكَ.. هناكَ

بعيدًا

وراءَ الشّتاتْ

صدايَ يرنُّ

على حجرِ الذّكرياتْ

جميل داري: شاعر كردي سوري، من مواليد 1953 عامودا، سوريا. يحمل إجازة في اللغة العربية من جامعة حلب عام 1979. له في الشعر دواوين عديدة وهي: "السفر إلى عينيك بعد المنفى" 1984؛ "ظلال الكلام" 1995؛ "إن القرى لم تنتظر شهداءها" 1993؛ "حرائق" 2014، وديوان "اشتعالات" 2015. و"لا جناح لي" 2023.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1069 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع