نوري باشا الأسطوري
صادق الطائي*:ما أن يقال نوري باشا، وفي بعض الاحيان يذكر اللقب مجردا، فيرد بصيغة (الباشا) حتى يذهب ذهن المتلقي العراقي إلى شخصية رئيس وزراء العراق العتيد في العهد الملكي، الرجل الذي ترأس أربع عشرة حكومة بين عامي 1930 و1958 من عمر المملكة العراقية، حتى بات العراق يوصف في ذلك العهد في العديد من الكتابات الصحافية بـ»عراق نوري السعيد». أما صفة الأسطوري، فهي ليست مدحا أو قدحا بحد ذاتها، إنما هي توصيف يقترب في مدلوله من «المتخيل أو غير الحقيقي»، بمعنى إنها صورة تم تناقلها شفاها في سرديات عراقية موازية للتاريخ الحقيقي لهذا الرجل. وسأحاول في هذا المقال تناول بعض الجوانب من شخصية نوري السعيد «الأسطورية» بعيدا عن المدونات الرسمية والتاريخ الحقيقي، وسأعتمد على ما تم تناقله شفاها، ثم تم تدوينه مؤخرا في عصر الفضاء المفتوح على التقنيات الحديثة.
شخصية نوري السعيد التي تم ترويجها في المخيال الشعبي تقترب في الكثير من صفاتها من شخصيات الأبطال الشعبيين، التي ترد في السير والحكايات الشهيرة، إذ يتم تناول صفاته الحسنة من جهة، كما يتم التغافل عن صفاته السيئة من جانب آخر، لذلك يمكننا أن نرى ونسمع سردية تتحدث عن كونه ابن بلد ووطني، عفيفا لم يتلوث بالفساد، بغدادي الهوى في المأكل والمشرب والعادات اليومية، ذكيا ولماحا، متفهما ومتسامحا، يغضب أحيانا في بعض الحكايات، ويكون ذلك لأسباب وطنية غالبا، لكنه سرعان ما يتحول إلى شخصية الأب الرحيم الذي يطبطب على من غضب منه.
شخصية نوري السعيد التي تم ترويجها في المخيال الشعبي تقترب في الكثير من صفاتها من شخصيات الأبطال الشعبيين، التي ترد في السير والحكايات ولنأخذ بعض الأمثلة على الحكايات التي نقلها صحافيون وكتاب وإذاعيون، طبعا دون ذكر مصدر أو مرجع للحوادث، إنما كانت هذه الحكايات تروى على إنها نقلت على ألسنة شهود عيان:
مثال ذلك ما رواه الكاتب الصحافي العراقي خالد القشطيني في أحد مقالاته واصفا نوري السعيد بقوله:» مما يجهله الكثيرون، أن نوري السعيد، رحمه الله، تميز من بين كل من تولوا رئاسة الحكومة العراقية في الثلاثينيات بتعلقه الشديد بالتراث العراقي، وكل ما هو بغدادي وعراقي أصيل.
أحب الأكلات البغدادية من الدولمة إلى الشيخ محشي والتشريب والباجة. وطبعاً لا ننسى التمن والباميا بالثوم.
وفي إطار ذلك أحب الموسيقى والأغاني العراقية. كلا لم ترهف أذناه قط لأغاني محمد عبد الوهاب، وأم كلثوم، وفريد الأطرش التي شاعت عندئذ في سائر العالم العربي وتعلق بها الجيل الجديد من الشباب العراقي». وربما كانت أهم مقولة يتم تتداولها وتنسب للسعيد هي قوله: «إن جلوسه على كرسي رئاسة الحكومة أشبه بجلوسه على غطاء بالوعة، فإذا ما أطيح به، فإن القاذروات ستطفح وتغرق العراق». ويذكر هذه الحادثة الكثير من العراقيين بصفتها دليلا على بعد نظر تميز به نوري باشا، والدليل ما آل إليه حال البلد بعد أن أطيح بالنظام الملكي. بعض الكتاب المتأخرين أصّل الحادثة وذكر لها شهودا وأسبابا، إذ كُتبت بصيغة: يقال إن» الباشا نوري السعيد الذي كان رئيساً للوزراء قذف هذه المقولة في وجه الشيخ محمد رضا الشبيبي، عندما تلاسن الاثنان داخل مجلس الأمة. إذ نقل عن الشيخ الشبيبـي أنه في أحد الأيام صرخ بوجه نوري السعيد في المجلس وقال له، أنت ديكتاتور.
فرد عليه الباشا؛ إذا أنا ذهبت وجاءت من بعدي حكومة أخرى، ستعرف من هو الديكتاتور.
ثم قال الباشا محذراً الشبيبي: اسمع يا شيخنا «حچايتي هذي»، أي اسمع ما سأقوله لك. .أني يا شيخ ما گاعد على كرسي رئاسة الوزراء.. أنا گاعد على (سبتتنك)، أي أنا جالس على غطاء بالوعة كبيرة. وإن ذهبت وجاء من هو بعدي ستعرف من أنا».
ومما يذكر عن نوري سعيد في المخيال الشعبي طرافته وتعامله بحلم مع من يسيء إليه، وفي هذا المجال تذكر عدة حكايات ربما كان أشهرها الحادثة التي تستند إلى حملة صحف المعارضة في مهاجمة نوري السعيد في مطلع الخمسينيات، عندما عاد من خارج العراق عقب إحدى سفرات عمله وكان قد جلب معه معطف فرو لزوجة ابنه صباح، واعتمادا أو بناءً على هذه الحادثة نسجت حكاية لقاء الباشا بالمذيعة الشهيرة صبيحة المدرس، إذ تروى الحكاية كما يلي: «في أحد أيام الشتاء في الخمسينيات وكان الجو بارداً جداً، وأثناء عبور نوري باشا بسيارته الحكومية على جسر الأحرار من جانب الرصافة متجهاً نحو الصالحية بالكرخ، وفي منتصف الجسر شاهد الباشا المذيعة الشهيرة صبيحة المدرس وهي تعبر الجسر مشيا، وكان يعرفها، ففتح زجاج السيارة وناداها باسمها طالبا منها الصعود معه في السيارة لإيصالها للإذاعة، وجرت محاورة بين الاثنين. إذ قال لها رئيس الوزراء:
إلى أين ذاهبة؟.
أجابته: إلى دار الإذاعة، نوبتي ستبدأ بعد قليل.
فبادرها بالقول: ملابسك لا تتلاءم مع الجو البارد، وألاحظ اكتفاءك بارتداء (بلوزة) فوق ملابسك فقط، وهذا لا يتلائم مع طبيعة الجو البارد الذي يفترض التحسب له.
فعقبت على ملاحظته قائلة: (قابل عندي معطف فرو حتى ألبسه؟!). فهم الباشا المغزى من تعليقها ودمدم (يامنعولة الوالدين!). أوصلها إلى مقر عملها بالاذاعة، ومضى.
وفي اليوم التالي اتصل مدير الدعاية العام خليل إبراهيم، بمدير الإذاعة مدحت الجادر، وسلمه مبلغ خمسة وعشرين دينارا لإيصالها إلى صبيحة المدرس، هدية من رئيس الوزراء، لغرض شراء معطف لها».
كذلك يروي الصحافي العراقي شاكر التكريتي الكثير من النوادر والطرف التي تنسب لنوري السعيد بحكم عمل التكريتي في رقابة الصحف وقربه من رجال الحكومة، ومن تلك الحوادث يروى إحداها عن حُلم الباشا تجاه من يشتمه، فيقول إنه كان جالسا عند نوري باشا في البيت،
وجاء أحمد مختار بابان للتوسط لشاب من معارفه تم اعتقاله في مظاهرة، وأوضح أن مستقبل الشاب سوف يدمر لأنه مرشح لبعثة دراسية خارج العراق، بينما هو في المعتقل نتيجة طيشه.
تم جلب الشاب من موقفه وفقا لأوامر الباشا، وطلب منه السعيد أمام ضيفيه أن يصعد على الطاولة قائلا له: "يلا هوس نفس الهوسة اللي جنت تهوسها من لزمتك الشرطة".
توقف الشاب مذهولا فصرخ فيه السعيد (هوس) لو أرجعك للأمن! فبدا الشاب مضطرا، نكس رأسه وبدأ يردد (نوري سعيد القندرة وصالح جبر قيطانها) وكان السعيد يضحك، ثم طلب من الشاب أن ينزل، فاقترب منه وأمسك بإذنه وقال له: لك ابني روح كمل دراستك وخذ الشهادة وبعدين تعال اشتمني اني وصالح جبر. وكتب ورقة صغيرة سلمها للشرطي يأمر فيها بإطلاق سراح الشاب واتمام معاملة بعثته» .
كما يروي شاكر التكريتي من ذكرياته عن نوري باشا قوله: كان رسام الكاريكاتير الشهير غازي الذي يرسم أغلفة مجلة «قرندل» الساخرة قد رسم كاريكاتيرا لنوري باشا يظهره قصيرا جدا بشكل قزم وهو يرتدي السدارة البغدادية وكرشه يتدلى أمامه من قميص تفتحت أزراره، وقد نشر الكاريكاتير غلافا للمجلة، إذ ظهر فيه الباشا وهو يحاور فاضل الجمالي الذي اعتنى غازي كثيرا برسمه وإظهار أناقته وصادف أن كنت مدعوا في حفل دبلوماسي لإحدى السفارات، وجاء الباشا وشاهدني ومعي ناصر جرجيس محاسب مجلة «قرندل» فناداني :
ابو جعفر اشلونك؟
ورددت له التحية؛ الحمد لله باشا .
أبو جعفر شنو القصة، يبين أخونا غازي ما لاكي أحد يشتغل بي غيري؟ وضحك، واستطرد، كله يتوصى بيه مثل مامتوصي بمعالي فاضل الجمالي ترة اني هم حلو.
ولا تكتفي السردية الشفاهية للمخيال العراقي على سرد حوادث عراقية بطلها الباشا، بل تتعدى ذلك إلى حوادث عربية، ربما كان أطرفها ما يروى عن لقاء نوري السعيد بالرئيس جمال عبد الناصر قبيل توتر العلاقات بين الاثنين نهاية الخمسينيات، وتذكر الحكاية إن: «سامي شرف سكرتيرالرئيس الراحل جمال عبد الناصر وصف زيارة نوري السعيد لمصر، فقال في صبيحة يوم اللقاء بالرئيس المصري وكان الجو حارا، نزل الباشا من سيارته فتطايرت سترته لنسمة هواء هبت فظهر مسدسه الذي حمله في حزامه.
يقول شرف فاستجمعت أخلاقي الدبلوماسية حتى أقول للباشا أن حمل السلاح غير مسموح، ولكن بطريقة دبلوماسية غير محرجة، فقلت له:
يظهر أن الباشا قد تعب بالأمس لدرجة إنه عندما جاء لمقابلة السيد الرئيس نسي أن يترك مسدسه في الفندق!.
فأجابه الباشا: «دمشي زوج». وكلمة زوج باللهجه العراقيه تعني (الأهبل أو الغبي أو المستغفل).
ويعلق سامي شرف: والله حتى كتابة هذه الحادثة لم أعلم كيف عرف نوري السعيد أنني متزوج، مع العلم إني لم أكن أضع حلقة الزواج في اصبعي!!».
في كل الحكايات التي وردت، وغيرها الكثير الكثير، تسرد سيرة نوري باشا السعيد بصيغة البطل الشعبي، وهذا لا يعني، أو لا يدل على مصادقية ما ورد في الحكايات، إنما هي سيرة مصنوعة تبناها المخيال العراقي، وهي حالة ليست غريبة أو فريدة، بل يمكننا تلمسها في مختلف دول العالم في تناول العديد من الشخصيات التاريخية التي تؤسطرهم سرديات وحكايات شعوبهم.
*كاتب عراقي
3179 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع