الأستاذ فؤاد منـّا: نصـف قرن بين عشق الحرف وعشـق الكلمة

  

 الأستاذ فؤاد منـّا: نصـف قرن بين عشق الحرف وعشـق الكلمة

                 

  
 
لم يدر في خلده يوما، بأن دخوله مبنى "جريدة الشعب – لصاحبها يحى قاسم" في بغداد عام 1957 لغرض العمل، سيكون مثل ولوج رائد الفضاء للمجرة، عالم بلا حدود وبلا نهاية. 

لم يتخيل بأن مهنة (الطباعة) ستقوده الى عالم الصحافة، والسياسة، والأنظمة، والتوقيفات، والملاحقة، الى عالم الأدب، والقادة، والأبداع. لم يعلم بأنه سيحملها معه الى بلد المهجر، وأنها ستكون لصيقته، كما العازف مع قيثارته، وكما العاشق مع حبيبته.  لم يحسب بأن يوما ما سيأتي عليه، وسيكون بمواجهة عمر التقاعد والراحة، لكنه يأبى ان يستسلم ، فيشترى ماكنة طباعة أصغر، ويضعها في (قبو) البيت مع كل مستلزمات الطباعة، ليعلن وجهة نظره بكل وضوح، كما في الحكمة التي يقولها: " الحياة اشبه بلعبة الملاكمة، فالمباراة لا تعتبر منتهية حينما يسقط الملاكم على الأرض، بل انها تنتهي حينما يرفض هذا الملاكم النهوض !"، وكما ترى ....فأني واقف على قدماي!! هذا ما يقوله الأستاذ فؤاد منّا، الصحفي المخضرم، حامل تجربة عدة عهود مرّت على العراق، و في المهجر الأمريكي بديترويت.

  

اول عهدي بالحرف
سألت الأستاذ فؤاد منّا عن اولى بداياته في عالم الطباعة، والصحافة فقال: انك تسـحبني الى عالم آخر، عالم صار يبدو امام المشهد الحالي، مثاليا ونموذجيا، عن ايام صرنا نطاردها ونرجوها العودة والبقاء حتى ولو في لأحلام. كان ذلك عام 1957 حينما دخلت عالم المطابع والصحف لأول مرة – عاملا في تنضيد الحروف- وذلك في "جريدة الشعب" وكنت قد انتسبت حينها الى دورة  في العمل على مكائن (انتر تايب)، وكان يوجد منها في كل العراق 5 مكائن فقط، اما ثمنها فكان آنذاك حوالي 20 ألف دينار! تعرفت عن طريق العمل على خيرة الصحفين والأدباء والسياسين، ومن الطريف ان أقول بأن المرحوم الشاعر بدر شاكر السياب كان المسؤول عن الملحق الثقافي الأسبوعي في الجريدة، وأن انامله  لامست قصتي (سحابة من الدموع – قصة واقعية عن باقوفا) فأستحقت الموافقة ونشرت في الملحق قبيل اسبوع من ثورة 14 تموز، ولا انسى انه  كتب لي قائمة بالكتب بغية دعم  مستواي الثقافي والأدبي.

بعد ثورة تموز عام 1958، صدر من "جريدة الشعب" عددان، وفي اليوم الثالث شنت مجموعة من (البعثيين) هجوما عليها وأحتلوها،  فنهبوها، وسرقوا حتى السجادات (الزوالي)،  وأودع صاحبها السيد يحى قاسم السجن. بقينا نحن العمال ثلاثة ايام ولم نغادر البناية. بقوا هناك 6 شهور، وبعد صدور امرا من الزعيم قاسم، جرى ارجاع المطبعة الى صاحبها (يحى قاسم) ، وبالتزامن مع احتلال (جريدة الشعب)  قام (البعثيين) بعد ثلاثة ايام من الثورة بأحتلال (جريدة الأخبار)، وكان صاحبها السيد جبران ملكون، وهو أرمني عراقي، اذ كان قد جلب احدث المكائن، ومنها اول ماكنة (رول)، فيما كانت بناية المطبعة تقع مقابل (القصر الأبيض)، وصدرت عنها آنذاك (جريدة الثورة) وملحق الثورة الأسبوعي.  ومن الطريف ان اذكر، بأن اول عدد من "الثورة" صدر وكانت صفحته الأولى ملونة، ولم تكن مهمة ضبط الألوان بالسهلة، فجاءت الخطوط غير متناسقة، وكانت صورة للزعيم جمال عبد الناصر، وما زلت اذكر  كيف انهالوا بالضرب على الطباع (صباح) لأنه لم يضبط الألوان!
اعيدت المطبعة لصاحبها بعد مدة من الزمن، فعملنا بنصف الراتب لحين تم شراء الجريدة من قبل الشخصية الوطنية كامل الجادرجي، وصدرت جريدة (الأهالي) الناطقة بأسم الحزب الوطني الديمقراطي. استقدم المالك الجديد، محررين جدد، وقد تشجعت لنشر بعض كتاباتي الأدبية في الصفحة الأدبية، وأذكر ان واحدة منها كانت عن الكاتبة اللبنانية (مـّي زيّادة). وبعد تقاعد الأستاذ الجادرجي، استلم الجريدة الأستاذ مظهر العزاوي وأصدر جريدة (البيان).

في فترة صدورها العلني عملت ولفترة قصيرة سوية مع السيد أدور ابونا، والأخوة احمد وضياء عيّاش، وجنان مديادي في جريدة (اتحاد الشعب)،وكنا نهئ  الصفحات الأولى والأخيرة والمحليات، وكانت هناك سيارة تنقلنا من والى المسكن، بسبب ان عملنا ينتهي بعد منتصف الليل، وكانت المواصلات مستحيلة في تلك الساعات، وكانت المؤسسة الوحيدة التي تقدم مثل هذه الخدمات لمنتسبيها. عملت وتنقلت ايضا في (مطبعة فريد الأحمر) حيث كانت تصدر منها معظم الجرائد الأسبوعية ومن ضمنها (الحضارة)، وعملت فترة وجيزة في جريدة (المستقبل) التي توقفت بعد شباط 63.

  

اما عشية الثامن من شباط عام 1963، فقد  كنت حينها اعمل في جريدة (الزمان)، لصاحبها السيد توفيق السمعاني.
و فترة قصيرة ايضا في جريدة (صوت العرب) لصاحبها فوزي عبد الواحد، ثم في (مطبعة الزمان)، وفي مطبعة (الجاحظ) التي كان يملكها السيد رسـمي العامل من حزب الأستقلال . بعد العام 1965 عملت في جريدة (التآخي) ومن ضمن التزاماتي كنت انضد الملحق الأسبوعي 8 صفحات وباللغة الكردية، وكان يرافقني في عملي مترجم، لجهلي باللغة الكردية، وقد كان رئيس تحريرها آنذاك الأستاذ صالح اليوسفي، بقيت حتى انقلاب البعثيين الثاني،  وبعد نجاحه بأيام، استدعي الأستاذ صالح اليوسفي للقصر الجمهوري، وأغلقت الجريدة. ولم يمض كثيرا من الوقت، قررت بعدها مغادرة العراق الى الولايات المتحدة في كانون ثان 1969.

في العالم الجديد
كان ضجيج المكائن، ورائحة الأحبار وفرحة (ولادة) عدد جديد من الجريدة اثناء عمله في بغداد  تحضره ومنذ ان وطئت قداماه العالم الجديد، لكن التزاماته كانت كبيرة تجاه العائلة  ايضا (زوجة وخمسة ابناء صغار). عمل  السيد فؤاد منا  في معمل  - كوكا كولا- الى جانب حوالي 20 عاملا عراقيا تحت سقف تلك الشركة، ويبدو ان تلك البداية عجلت في مشاريعه القادمة. يقول الأستاذ فؤاد منا: لم استطع ان احلق بعيدا عن الصحافة، خاصة بعد ان عرفت عن قرب، واقع الصحافة داخل الجالية العراقية، فقد كانت تصدر في العام 1970، صحيفتان، الأولى هي "المشرق" للأستاذ (حنا يتوما) وكانت تهتم بالأمور الأجتماعية للجالية، وكنت اراسلهم من بغداد وأكتب لهم بعض المواضيع ، اما الثانية فكانت "العالم الجديد" للسيد (يوسف انطون).  تملكتني رغبة جامحة،  من اجل ان اؤسس لجريدة جديدة في المهجر، اكون انا مالكها ورئيس تحريرها، بعيدا عن التأثيرات الخارجية ايا كانت، وفعلا تمت الخطوة بصدور:
**جريدة "الهدف" الأسبوعية في ديترويت في ايلول 1970، وكانت  تهتم بالجوانب الثقافية والأجتماعية والسياسية، صدر منها 8 اعداد طبعت عند السيد محمد خروب الذي كان يملك مطبعة (لاينو تايب)، بعدها عزمت العزم على امتلاك مطبعتي، وكان ذلك في نفس العام، وأشتريت مكائن الطباعة، وبقت المشكلة مع (الحرف العربي)،  وقد حالفني الحظ ان اجد تلك الحروف ( خشن وناعم) في مدينة نيويورك عبر جريدتين، الأصلاح لصاحبها الفونس شوريس، والهدى، ولم تكن تلك الحروف رخيصة، لكنها كانت مهمة لأكمال العمل.
أستمر العمل الأسبوعي في جريدة الهدف  حتى العام 1976.
**في العام 1978 رئيس تحرير جريدة "الرابطة" مع نخبة من مثقفي الجالية، وكانت تصـف نفسها بأنها (جريدة سياسية ثقافية جامعة)، وأستمرت لثمانية اعداد فقط.
** في العام 1980، شاركت كل من الأخوة عادل عقراوي، عامر دادو وصلاح كوري في اصدار (جريدة صوت الأحرار) الناطقة بأسم رابطة التقدميين الديمقراطيين العراقين، وصدر منها 8 اعداد، وكانت مناهضة للبعث وصدام حسينومرتزقتهم في ديترويت.
**في العام 1986 صدرت 4 اعداد  من جريدة (الرواد) بالأشتراك مع الأستاذ يوسف ناظر.
**في العام 1987 عاودت جريدة (الهدف) للصدور، لكن لفترة قصيرة.

                        

**في العام 1994، صدرت مجلة (المنتدى) والتي كانت تعنى بالحقول الأدبية والثقافية والأجتماعية والسياسية، وتشجع الكتاب الجدد ومن كلا الجنسين للمشاركة، وللأمانة اذكر، بأن المرحوم عادل عقراوي لعب دورا مهما في اصدارها، اذ انه موّل من جيبه الخاص الأعداد الثلاث الأولى، كما انه ساهم بدفع الأقساط الأولى من جهاز الكومبيوتر الذي استخدمناه للتنضيد.  أستمرت حتى العام 2009، حيث  توقفت عن الصدور بعد ان  سيطرت القرأة الألكترونية على القرأة المطبوعة.
ولقد التفت الباحث الدكتور فائق بطي الى السيرة الصحفية للأستاذ فؤاد منا في المهجر الأمريكي، فضمنها في كتابه الموسوم (الصحافة العراقية في المنفى، من اصدار دار المدى ، عام 2006)، فأشار الى تجاربه الصحفية وأستعرض العديد من الأعداد، وأشاد بالدور الكبير الذي لعبته هذه الصحافة في نشر الوعي والثقافة، وتشجيع الأقلام الشابة على الكتابة والنشر، وفي تغطية الأحداث المهمة التي تجري في  ديترويت، او وسط الجالية، اضافة الى فضح السياسات الدكتاتورية للنظام البائد عند الجالية العراقية  في المهجر الأمريكي، ويعد هذا الكتاب، ادق مطبوع يتناول بالتأريخ والشرح اسماء وتواريخ ونبذ عن صحافة المهجر، بما فيها المهجر الأمريكي الذي لم يكن احدا قد التفت اليه او عمل لأرشفته بطريقة حيادية اكاديمية.

منتدى ال "المنتدى"
للذي يعرف الأستاذ فؤاد منّا عن قرب، يعرف انه جليس طيب، ومناقش عميق وأنسان اجتماعي ومحب  بشكل لافت، فكيف وازن ما بين العمل والعلاقات العامة، وما حكاية "صالوناته" السياسية – الثقافية التي ارتبطت بعمل المطبعة والجريدة، يقول الأستاذ منّا عن تلك التجربة:
 الأنسان بطبيعته مخلوق اجتماعي، اما حينما تكون لك هوايات مثل القرأة والكتابة والشعر والثقافة بصورة عامة، فأن مجالسة الآخرين تصبح أمرا لامناص منه. ان وجود بناية مستقلة للمطبعة، ووجود الجريدة والكادر الصحفي، والعلاقات الأجتماعية العامة، وفرت الأرضية الخصبة لزيارة العديد من المثقفين وترددهم على بناية المطبعة، ناهيك بأن (مقاهي) الجالية، لم تكن لتوفر مناخا مناسبا للحوارات والأحاديث والمناقشات ، لهذا اصبح هذا المكان بديلا ومركزا للعديد من المثقفين والمهتمين، والحقيقة ان باكورة بداياته كانت مع انطلاقة (مجلة الهدف) عام 1970، اذ بدأنا (كادر المجلة) باللقاء مساء كل سبت للحوار والحديث العام، وأذكر منهم: يوسف ناظر، جميل سولاقا، الشماس يوسف نجار، غازي شفو (ابو شروق)، مؤيد جورج، ولسن كساب ، جورجيت سيسي و رزوق كساب. ويمضي الأستاذ منّا بالحديث:
بالحقيقة كان ومازال طعم تلك الجلسات عالقا في فمي لليوم. ولم يزعجني ابدا ضجيج النقاشات او ارتفاع درجة حدتها، فقد كنت افرح حينما يجتمع خيرة مثقفي الجالية تحت سقف  مجلة "المنتدى"، وللحق اقول، فأن جلسات السبت هذه قد تطورت كثيرا بعد العام 1994، ودخلت عليها السياسة من اوسع ابوابها، وأنفتحت نوافذها  للعديد من الشخصيات العراقية التي كانت تزور ديترويت، اذ كانت (تشرفنا) وتحل ضيوفا اعزاء على لقاءاتنا . وسألته ان يذكر بعض الأسماء فقال:
بما تسعفني الذاكرة، فقد وصل عددهم للعشرات، وقسم منهم اصبح اليوم في الواجهة بالمشهد العراقي ومنهم: د.فالح عبد الجبار، د.فائق بطي، الأستاذ حميد مجيد موسى، د. برهم صالح و الدكتور فؤاد معصوم. ان فكرة لقائنا الأسبوعي في المنتدى ذاع صيتها كثيرا، وقد كانت (الوحيدة والمميزة) من بين كل الفعاليات والنشاطات الكثيرة التي تجري في ديترويت. لقد اجتمع فيها وناقش، حملة الأفكار بكل اتجاهاتها، اصحاب الأختصاصات، الكتاب والفنانين والمثقفين وحتى العاطلين عن العمل. كانت بحق فرصة للكثيرين لتعلم اسلوب الحوار والنقاش (ولو على الطريقة العراقية) لكن ما يميزها، بأن الأخوة كانوا يعودون في السبت القادم للمجئ وفتح الحوارات بروح اخوية من جديد.  كانت الممنوعات عندي اثنتان في هذه الجلسات، ان لا يتم التجاوز الشخصي، وأن تكون النقاشات بأحترام، وأن لا يدخل بابي (بعثي) مهما كانت درجته او امتيازاته، فقد كان محرما بالمرة، اما المسموحات فحدث ولا حرج، ولم اكن اتكاسل بتهيئة المكان  وحتى (الطبخ) لكل هؤلاء الأحبة، مع ما كان العديد منهم يجلبه من البيت من طعام او شراب. كانت الأجواء صداقية وحميمية لدرجة انا صرنا مدمنين عليها، وأذا غاب احدا منهم لأسبوع او اسبوعين، كنا نجهد حتى نعرف الأسباب، فالذي يجمعنا كان كبيرا، وربما يكون حبنا للعراق، للثقافة، للحرية والأبداع، وكرهنا للقيود والدكتاتورية والتخلف، اوسع  ما جمعنا.

                                  

ولقد تأثر السيد ابراهيم الزبيدي بتجربة المنتدى، فذكرها في كتابه الموسوم (بلا مكان،29 سنة خارج العراق، والصادر عن دار نارة للطباعة والنشر في عمان، عام 2006) حينما  أشار في الصفحة111 من الكتاب الى تجربة المنتدى بالقول:
".......الى ان يطرح احدهم قضية للنقاش، فيتم اختيار مديرا للجلسة، وتطول النقاشات وتنتقل بينهم بجدية وصراحة لا تخلو من الحدة والصياح في بعض الأحيان. وطيلة تلك السنين، لم يمنعهم ثلج ولا حر ولا اية ظروف اخرى من مواصلة اللقاء، فيهم الكلداني والآشوري والمسيحي، والمسلم الشيعي والسني، العربي والكردي، المتدين واليساري العلماني، الطبيب والصحفي والعامل والمهندس والتاجر والفقير. يرمي كل منهم خصوصياته خارجا ويدخل بروح نقية بعيدة عن العصبية العنصرية والطائفية والدينية".

علاقتك باليسار واليسارية
اوقفته قليلا لأعرف منه بعض الحقائق، خاصة من خلال الأطلاع على الصحافة التي اشرف على اصدارها، او الحوارات العامة في (المنتدى) ، ونشرته عبر السنين مجلة المنتدى والموقف من النظامين السابق والحالي، وسألته ان كان قد انتمى لليسار يوما،  فأجاب: لقد سمعت باليسار منذ صباي، اذ نشأت في محيط اجتماعي ضم في صفوفه الكثير من المناضلين، منهم من استشهد ومنهم من اعتقل ومنهم من توفى، اما عندما دخلت (عاملا) في عالم الصحافة، فقد قربتني هذه المهنة من خيرة المثقفين، والسياسين، وكنت (وكنا نحن عمال المطابع) في وضع لا نحسد عليه عشية اي تغيير سياسي. هكذا تعرفت على اليسار العراقي، وأقولها بأخلاص، اني اكن لهم احتراما شديدا، فمن هذه الحركة خرج خيرة المناضلين الذين ضحوا من اجل الوطن، وخيرة السياسين والفنانين والأدباء، ومازالت الحالة هكذا لليوم، فأينما تواجد اليسار العراقي، تواجد المثقفون والشعراء والأدباء والسياسيون.
ولأن هذا الجواب كان دبلوماسيا، فأردت ان اعرف المزيد منه فقال: في التصنيف العام، فأني منحاز للفكر اليساري العام، وأعتقد انه خير فكر انتج للبشرية، فهو يدعو على الأقل للمساواة والعدالة الأجتماعية والحرية هذا اولا، اما ثانيا، فهو انحيازي للمثل العظيمة التي اتت بها (ثورة 14 تموز المجيدة)، ناهيك عن الأخطاء التي ارتكبت آنذاك، ونزعة قاسم الأنفرادية والنهاية المأساوية لها، فقد اثبت التأريخ انها انظف ثورة حدثت، وقادتها كانوا من انبل العراقين، ولو اراد العراق يوما ان يسير في ركب البشرية، فعلى قادته الجدد ان يعودوا ويطبقوا  افكار ومفاهيم تلك الثورة المجيدة، فلقد عشت نجاحاتها وأخفاقاتها، بالعمل اليومي الصحفي، ولم تأت مواقفي نتيجة سماعي عنها!

الوضع في العراق
بعد ان طفنا مع عوالم الأستاذ فؤاد منا، وأهتماماته السياسية، كان لابد ان نتوقف قليلا امام ليل العراق، الذي لاتبدو في الأفق ملامح انجلائه قريبا، فقال:
لا اخفي القارئ حجم الفرحة التي انتابتني وأنا اشهد السقوط المريع لأعتى دكاتوريات القرن العشرين، كانت لحظات وساعات لا تنسى والعالم يشهد معنا كيف لاذ البعثيون كالجرذان في جحورهم، وفي حينها أملت النفس، بأن الطريق قد انفتح امام العراق والعراقيين للبناء الديمقراطي والأنطلاق حيث الشعوب المتقدمة، لكن واه حسرتاه على احلامي الوردية، فقد كانت مع الأسف اقرب للخيال مما هي للواقع. انظر ما حصل بعد 11 سنة من التغيير، فالشعب تفتت، والمذابح والتفجيرات مستمرة،  ومن يقود البلاد اليوم (جوكة حرامية) مجموعة من اللصوص وقطاع الطرق، والشعب انقسم على ذاته، وتنتابني  الصدمة وخيبة الآمال حينما لا اجد اي مبررر لصبر الشعب وقبوله هذه الحياة والأوضاع المهينة والمزرية التي يعيشها.  وشـئ آخر اود ان اضيفه، فقد قرأت التأريخ القديم والمعاصر، وكوني من ابناء الشعب الأصيل (الكلداني السرياني الآشوري)، فيحزنني كثيرا ان اكتشف بأن العهود السوداء الذي عاشها هذا المكون على يد العثمانين العنصرين، قد عادت، بقوة وبعنف ودموية اكبر. فلقد اصبح العراق سجنا كبيرا للمخلصين من ابنائه الأصلاء، وصار بعضا من هذا النفر الضال، ينظر اليهم ويعاملهم وكأنهم ليسوا ابناء هذا الوطن، لابل الأنكى من هذا ان العمل جار على قدم وساق لطمس هوية العراق التعددية والثقافية. بالحقيقة اشعر بحزن كبير، لكني مازلت متشبثا بالأمل، الذي لولاه لأنتهت نصف البشرية!  اتوق لليوم الذي يفيق هذا الشعب من سباته ويعرف بأن طريق المستقبل هو بالخلاص من كل هؤلاء الطفيلين والطائفين والسراق وسياسي الصدفة، وأن لا محال من قيام الدولة المدنية والأرتكان الى الفكر الخلاق الذي اتت به ثورة 14 تموز العظيمة، في الحرية والعدالة والأستقلال والمساواة والأبتعاد عن الأحلاف، ووقف تدخل القوى الخارجية  والأنظمة الرجعية، هذا ليس خيال، بل امنية وأمل ، لأنه حقا يعبر عن مدى حبي لهذا الشعب الرائع وطلائعه المثقفة ومبدعيه ومناضليه وكادحيه، لابل حتى عمال المطابع فيه!

  

سيرة ذاتية
من مواليد قرية (باقوفا) التابعة لمحافظة نينوى في العام 1936، يقول الأستاذ فؤاد كرابيت منا. اكملت دراسة الأبتدائية في قرية (تلسقف) لأن قريتنا كانت صغيرة، وكنا نسير حوالي كيلومتر للوصول للمدرسة. وكان المطر عدونا اللدود، فأذا نزل  كان ذلك معناه تحول الطريق الذي نسلكه الى بحيرة، فنحرم من المدرسة، وكان العقاب بأنتظارنا في اليوم اللاحق، حتى حلّت الرحمة بنا بعد ان اقترح المدير على اهالينا، استخدام  (الدواب) لنقل التلاميذ ايام الأمطار! في العام 1951 انتقلت الى بغداد وسكنت في (شارع اصفر) بمنطقة الكرادة، ودرست في متوسطة (المشرق الأهلية)، ثم كلية الموصل للآباء الدومنيكان، بعدها عدت لأعدادية المشرق، وأخترت الفرع الأدبي. تزوجت من السيدة هناء يوسف يتوما،  ورزقنا بخمسة اطفال قبيل ترك العراق اوائل عام 1969  والهجرة للولايات المتحدة، والتي رزقنا فيها ب ثلاثة اولاد، ومنذ هذا التأريخ وانا مقيم مع عائلتي  في هذه المدينة العزيزة.

اهتمامات ومواقف
لا اخفي القارئ يقول السيد ابو جبران، بأن القرأة تمثل الشريان الذي يمدني بالأوكسجين لأدامة الحياة وتطورها  وتحليقها عاليا، كانت منذ صباي، وكبرت معي، وكلما مر الوقت، كلما شعرت بعظمة الفكر والأبداع الأنساني، كلما عرفت ما معنى الثقافة والقرأة، وما معنى محاربة الرجعيين لأنصار الثقافة والمثقفين. وفي هذا الأثناء، تدخل العزيزة "ام جبران" على الخط لتقول: ان ولع  "ابو جبران" بالقرأة والثقافة والشعر والأدب شئ كبير،  وكبير جدا، ولكي ادعم كلامي لك، فقد كنّى اولاده الخمسة الذين ولدو في العراق بأسماء شعراء ومثقفين عرب (جبران، مـيّ، علاء، فينوس وقيس)، فيما كنّى الثلاثة الذين ولدو في الولايات المتحدة بأسماء اروع الناس في التأريخ الأمريكي المعاصر (روبرت، ليلى ومارتن)، ولا يفوتها ان تشير بعين الفخر والأعتزاز الى المنزلة التي وصل اليها الأولاد والبنات، فبعد 55 سنة من الحياة الزوجية، و 26 حفيدا وحفيدة، أشعر بالفرحة وأنا اراهم يتقدمون في هذه الحياة، يخدمون عوائلهم والمجتمع، اما الذي يعرف السيدة سعاد يتوما، فأنه يقّدر منزلتها ان كانت  الأم أوالمرأة، فقد جمعت وبكفأة عالية بين مهمة تربية  ورعاية الأبناء الثمانية، ادارة المنزل، خدمة لمدة تزيد عن 20 عاما بالتدريس في مدارس مدينة اوك بارك، ثم الألتحاق بالجامعة، ضاربة بذلك اروع مثال لأبنائها في مواكبة التعلم عبرالدراسة الجامعية.
 
 اما من الحوادث التي لا ينساها الأستاذ فؤاد منا، فهي قيام بعض (مرتزقة) البعث في ديترويت اوائل السبعينات بالأتصال به وعرض مبلغ من المساعدات المالية لدعم مجلته، مقابل دعمه لسياسة البعث في العراق، فأبى ان يحني رأسه لهم، بل انه عمل عكس ذلك في فضح سياساتهم وعملائهم ودولاراتهم التي كانوا يوزعوها هنا وهناك . وفي هذا المجال يقول: صدقا، لولا وجود "الأتحاد الديمقراطي العراقي" في ديترويت ، وموقفه المشرف اوائل الثمانينات من البعث، وبعد ان لقنه الدروس والهزائم امام الجالية، لكان البعثيون ولليوم وكلاء على جاليتنا العراقية في ديترويت.
وحتى اكون صادقا مع القارئ، ومع نفسي فأني أقول، انا سعيد وفخور بما قدمته (وما قدمه زملائي الأخرون) من عطاء للجالية الكريمة، بما جادت به اقلامنا او صحفنا او منابرنا الثقافية، يقينا كانت تجربة لا ادري ان كانت ستتكرر، لكني مرتاح الضمير، لأن الحياة علمتني على الحركة والعمل ، ولم تعلمني الكسل. اتمنى من الأعماق للجيل القادم ان يرتوي من الثقافة الأنسانية ومن عطاء مبدعيها لما ينير دروبهم ويقربهم من اخوتهم في الأنسانية.

امنيات للعراق
اتمنى ان يعبر العراق خطوط العنصرية والطائفية ويلقيها في سلة المهملات، وأن يكون مصير البلد بيد ابنائه النجباء وليس بيد عملاء امريكا والسعودية وأيران. اتمنى ان ينعم اهله بالأمن والأمان. وألف شكر لكل من يساهم بدعم  الكلمة الحرة وينشرها.

كمال يلدو
آيار 2014


  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1214 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع