كنت في بـَـغــْـداد / الحلقة الثانية
ظاهرة (عربانات الدفع والحمالين) في بغداد
ظاهرة (عربات الدفع) ظاهرة عامة منتشرة بشكل مكثف وملفت للنظر في بغداد التي زرتها مؤخرا ، تراها في جميع اسواق المواد الغذائية .. شارع الرشيد وعلى جسري (الشهداء والأحرار) - و(عربانة الدفع) كما نعرف عربة خشبية كبيرة بثلاثة عجلات تدفع بواسطة الشخص الذي يسمونه الحمال.
ومما جلب انتباهي ان هؤلاء الذين نسميهم الحمالين من مختلف الأعمار، فهناك الأطفال الصغار الذين يتطاولون ليمسكوا بمقبض العربة فتتشنج ايديهم الصغيرة وتتقلص اقدامهم المتعبة في احذيتهم الممزقة لدفع ذلك الحمل الثقيل ، وعيونهم الحزينه تنظر بانكسار الطفولة البريئة الى المجهول الغامض ..
وهناك الشيخ الذي يحاول جاهدا ان يحصل على بضعة دنانير ليعود بها الى احفاد أضاع الطغاة وسراق الوطن والدهم ، أو سفكت دماؤهم في حروب عبثية وتفجيرات غاشمة و.... (تعددت الأسباب والموت واحد)-
شريحة اخرى من الشباب المنكسرين الذين اضطروا الى مصاحبة هذه العربة الخشبية بعد ان اصبحت الوظائف تباع بالدولار وبأسعار باهضة الثمن فهناك جدول ثابت ، والدفع بالدولار يبدأ من 1000 دولار لوظيفة عامل ويتدرج ليصل الى ملايين الدنانير .. محافظ ، مديرعام ، وزير، وهكذا في دولة العراق السعيد وشعبها الساكت العريق.
وترى هذه (العربانة المقدسة) منتشرة في كل مكان وخاصة في شارع الرشيد وعلى الجسور.. محملة ببضائع مختلفة .. مواد غذائية ، ملابس قديمة ، وغيرها مما استطاع هذا الإنسان البائس تحميله ليساعده ان يعود مساء بفتات الطعام الى أفواه جائعة عيونها شاخصة الى الباب وقلوبهم تدعو ان يعود معيلهم سالما ، اذ اعتاد هؤلاء المجرمون تفجير الفقراء والمساكين ، والذين يمشون على (ارض النفط) ويأكلون العلقم والموت.
ذهبت ذلك اليوم الى سوق المواد الغذائية والخضار في منطقة الأرضرملي في الكرخ ويسمونه (سوگ الزرملي) اسعدني تواجدي في هذه المنطقة الشعبية وافرحني التجول بين هؤلاء الناس الطيبين بوجوههم الوديعة وابتساماتهم المشرقة التي تجعلك تشعرانك تعرفهم منذ الأزل
اعادتني هذه الوجوه الحميمة الى ايام طفولتي حينما كنا نركض في ازقة بغداد وحاراتها الجميلةايام كان الجميع عائلة واحدة ونحن اطفال الأرضروملي اخوة نمرح ونلعب سوية في كل الأوقات... وكل نساء المنطقة امهاتنا ورجالها آباء لنا.
عدت الى نفسي على صوت يسألني ان كنت اريد (عربانة) كان شابا في نهاية العشرينيات من العمر، فاصطحبته لنكمل مشوار التسوق....
السوق عامر بكل المواد الغذائية من أجبان (الجبن الأبيض المزرف وطاسات الروبه ام الگشوه والگيمر العراقي حلم المغتربين) لحوم ، فواكه ، خضروات معروضة ومرتبة بشكل جميل ، خضروات ورقية ( رشاد ، كراث ، فجل ، معدنوس ، ريحان ) كانت تتجسم في ذاكرتي احيانا في غربتي .. كم تمنيت ( لفة خضره وخبز) انها اطيب من كل موائد الطعام ، ارهاصات لا يفهمها الا من ذاق لوعة الشوق الى الوطن .
وكعراقية تغربت عقودا متلهفة لفواكه وخضروات العراق وارضه الطيبة (وريحة الخيارة لما تكسرها توصل للجيران) سألت البائع (هل هذا الخيار والطماطة عراقية) كان الجواب (لا عمي هذي ايرانية) وهكذا باقي الفواكه والخضار، وكذا في كل السوق ، احسست بالدوار .. ترى اين مزروعاتنا اين برتقال بعقوبه ؟ اين رمان شهربان ؟ اين خيار الشواطي اين الباميه البتره (حتى الرگي اتغير شكله وصار كروي وين رگية قبل التي كان وزنها 15كيلو ونشتري مـَـنّ مـِن الرقي ونضعه تحت الدرج) اين أين..؟ (خصم الحچي) تحولت بغداد الى سوق لتصريف البضاعة الإيرانية .. حتى العصائر والألبان وهلم جلرا...
نعود الى (عربانة الدفع) بعد أن اكملنا التسوق والشاب يدفع العربة وصلنا الى الشارع اردت ان اصوره مع العربة قبل ان اغادر في التكسي الذي اوقفه لي لكنه وقف جانبا وقال لي ( لا .. لا .. لا ما آخذ صورة ويـّه العربانه ) ورأيت دمعة متحجرة في عينيه المتعبتين ، لقد كان هذا الشاب خريج كلية .. تعذرعليه الحصول على وظيفة ولم يجد أمامه .....
الا (عربانة الدفع) والمهنة التي اسمها حمال .
--------------------
آب / 2017
ســــتوكهولم
للراغبين الأطلاع على الحلقة الأولى:
http://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/qosqsah/31548-2017-08-21-15-56-58.html
730 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع