فجعت عائلة ومحبي واصدقاء منذر الاعظمي بخبر وفاته المفاجيء في غربته الثالثة (تونس) يوم الجمعة 11 آذار/مارس.
تحدثت معه قبل اسبوع تقريبا من وفاته، وشعرت بان صوته متعب، حتى ظننت انني قد ايقظته من قيلولة، وابديت له قلقي على صحته، ولكنه اكد لي ضاحكا انه بصحة جيدة، وانه اجرى فحوصات عديدة كانت كلها مطمئنة، وشاركته زوجته الاخت هيفاء زنكنة في التاكيد لي على ذلك. وكنا جميعا نستعد للقاء في مؤتمر عن العراق سيعقد في تونس في شهر ايلول/سبتمبر القادم، ولكن القدر سبقنا وحرمنا من لقائه.
تشرفت بالتعرف على منذر في بداية التسعينيات عن طريق صديقنا المشترك المرحوم الدكتور وميض نظمي، الذي كان يعرفه منذ ايام الدراسة في بريطانيا، وربما قبل ذلك حيث انهما كانا من سكنة مدينة الاعظمية العريقة في بغداد، ومن عوائلها المعروفة. وحصل التعارف على هامش مؤتمر لمركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عن العراق دعى اليه رئيس ومؤسس المركز المرحوم الدكتور خير الدين حسيب، وبعدها تعددت اللقاءات، ثم اصبحنا نلتقي ونتحادث باستمرار عندما انتهى الامر بي الى الغربة المقيتة ايضا.
منذ ان تعرفت عليه شدتني اليه بساطته وطيبته الواضحة ووطنيته وحبه الكبير للعراق وشعبه الذي ظل متجذرا في عقله ونفسه على الرغم من الوقت الطويل الذي قضاه في الغربة، حيث انه غادر بغداد وهو في سن مبكرة، وكبر في نظري اكثر عندما وجدته مندفعا لمساعدة العراقيين الذين اجبروا على اللجوء الى بريطانيا.
منذ سن السابعة عشر بدا منذر يكتب في جريدة (اتحاد الشعب – لسان حال الحزب الشيوعي العراقي)، ويذكر من عاصره انه نشر تقريرا استقصائيا طويلا في الجريدة اثار الاعجاب عن معاناة وهموم عامة الناس في بغداد، ومواضيع اخرى تسببت له بمضايقات كثيرة، مما دفع عائلته للبحث عن طريقة لارساله للخارج للدراسة.
بدا المرحوم منذر غربته الاولى بالسفر الى موسكو عام 1960 في بعثة دراسية للدراسة في مجال الجيوفيزياء. وبعد ان حصل على شهادته الجامعية من هناك، انتقل الى غربته الثانية في انكلترا عام 1967، والتحق بجامعة (درهام) للدراسة العليا. وبعد ان حصل على الماجستير وبدا الاعداد للدكتوراة نشطت عمليات المقاومة الفلسطينية، فترك دراسته والتحق بالمقاومة في لبنان. عاد بعد تجربته تلك الى انكلترا عام 1969 وعمل في التدريس، ثم تخصص في علم الحاسوب (الكومبيوتر) الذي كان حديثا انذاك. ثم تخصص في مجال بحوث ومناهج وتدريس الرياضيات، ثم عمل في جامعة ,King’s College, College of Education المعروفة في لندن، والف كتبا في الرياضيات وتطوير الذكاء، لا تزال تدرس لحد اللحظة على طلبة المرحلة الثانوية، بعد ان اعتُمِدَت رسميا من قبل وزارة التربية البريطانية. كما حرر عدد من الدوريات المهمة عن العراق مثل (النصير) و(الغد) التي تحاكي هموم ومشاكل العراق والامة العربية.
كان رحمه الله مثقفا لا يمل النقاش وشحذ الافكار، ومُطالِبٌ دؤوب من محاوريه بردود مقبولة عقليا وواقعيا، تعجبت في بداية معرفتي به عندما علمت باتجاهاته الفكرية الماركسية-اللينينبة التي اعتنقها في شبابه، حيث اني اعلم ان عائلته كانت من العوائل الدينية المعروفة في بغداد، ولها دورها البارز في ادارة جامع الامام الاعظم ابو حنيفة النعمان، (والتي اشتق اسم الاعظمية من لقبه)، والمدرسة الملحقة به.
على الرغم من رسوخ الافكار اليسارية في ذهنه، واعجابه بكارل ماركس ولينين، هذا الاعجاب الذي كان يعلن عن نفسه في نقاشاته، حيث غالبا ما كان يسوق بعض من مقولاتهما التاريخية. لكن كل ذلك لم يجعل منه متعصبا بصورة عمياء،. على العكس من ذلك فلقد كنت اشعر عندما اتحدث معه، وانا الذي احمل فكرا قوميا عربيا، بتقارب كبير في اغلب الامور التي كنا نناقشها. كما ان تلك الجذور والخلفية لم تجعله يقبل بمواقف الحزب الشيوعي العراقي ومواقف اغلب قياداته المؤيدة لمسالة الحصار الظالم الذي فرض على العراق ولعد ذلك الحرب الوحشية والاحتلال. ووقف مواقف مشرفة في رفض الحصار والاحتلال وكل ما نتج عنهما. وهذه المواقف، التي شاركته فيها زوجته الاخت هيفاء زنكنة، كانت بداية القطيعة مع اغلب معارفهم في لندن وحول العالم من (اليساريين) الذين ايدوا الحصار والاحتلال.
حبه للحوار والنقاش كان يدفعه دائما لترتيب لقاءات دورية لنا نحن مجموعة من اصدقاء، ضمت بالاضافة له ولكاتب السطور الاخوين صباح المختار والدكتور كاظم الموسوي، وكان بنطم لنا الدكتور كمال مجيد في بعض الاحيان. لم تكن اراءنا متطابقة، واختلفنا فيما بيننا حول امور كثيرة، وخاصة بخصوص بعض ما جرى ويجري في سوريا ومصر وتونس والعراق، كانت له رحمه الله رؤية خاصة ناتجة عن تجربة، بعد ان عاش فترة في القاهرة ومن ثم تونس. ظل يبغض الدكتاتورية وينتقدها اين ما كانت. ولم يهادن حول الحقوق الفلسطينية، كان اخر احلامه هو تكوين نواة لمجموعة فكرية عراقية تبدا نهضة جديدة، وانشا لهذا الغرض (الموسسة التعليمية الخيرية / Let’s Think Forum)، لكن هذا الحلم ظل معلقا بسبب الفرقة التي انتشرت بين مكونات الشعب العراقي. في حديثي الاخير معه سالني هل هناك مفكرين عراقيين نستطيع ان نتواصل معهم، ولم يصدقني عندما قلت له مع الاسف لا يوجد وخاصة بين جيل الشباب، وان وجدوا فانهم قلة انغمست في مشاكل الحياة اليومية القاسية او يجري تهميشها بقصد وباساليب مختلفة، وان جيل المثقفين الذين عرفهم العراق بين الثلاثينيات والسبعينيات من القرن الماضي قد انتهى، ومن تبقى شُرِّدَ خارج البلاد، وان الامر يستوجب اعادة بناء النظام التعليمي والمجتمع العراقي من جديد كي تظهر نهضة فكرية بعد كل السنين التي انتشر فيها التخلف والطائفية والشوفينية، والفساد والولاءات للخارج.
كنا نترقب زياراته القصيرة عندما يعود من تونس التي احبها واستقر بها مع الاخت هيفاء، كي ننظم لقاءاتنا الدورية الحوارية واذا بنا نفجع بخبر وفاته.
رحم الله الاخ والصديق والوطني العراقي والانسان الطيب منذر الاعظمي، وغفر له واسكنه فسيح جناته، والعزاء الصادق لعائلته وخاصة رفيقة دربه السيدة هيفاء زنكنه، ولكل محبيه ومعارفه وإنا لله وإنا اليه راجعون.
د.سعد ناجي جواد
1179 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع