عبدالحسين شعبان و زيد الحلي
فصل ساخن من فصول الحركة الشيوعية في العراق ..
عامر عبد الله ... النار ومرارة الأمل !
بقلم:زيد الحلي
كتب الكثير عن عامر عبد الله ، القائد الشيوعي العراقي الكبير، والسياسي اللامع ، والوزير المتمكن .. وربما هو ابرز من اثير حوله غبار التساؤلات ، وهي تساولات مشروعة في احايين كثيرة ، لكن في احايين اخرى تغلفها ستائر النميمة والحقد والحسد !!
صحيح جدا ، ان شخصية مهمة مثل عامر عبد الله ، لابد ان تحيطها الأسئلة ، ومحاولات الغور في استفهامات عديدة ، فهو شخصية عامة ، تأثرت بالمجتمع العراقي ، وأثرت فيه ، وأستمر اسمه بالتردد منذ ان شاع صيته كشخصية شيوعية مثقفة ، متوازنة الطروحات والرؤى وحتى فجيعة وفاته في ظروف يسودها الغموض في غربته اللندنية ..
وقد تسنى لي الإلمام بجوانب عديدة من هذه الشخصية ، لكني اعترف انني ، لم ارس على شاطئ امين بصدده ، حيث كانت الآراء فيه متباينة ، بل متنافرة الى حد عجيب ، وتلك في رأيي حالة عراقية بأمتياز، مع الاسف !! .. فما حدثني عنه الاستاذ ( ماجد عبد الرضا ) يختلف تماما عما ذكره لي الاستاذ حسن العلوي ، وما فاض به قي جلسة ( عمارتلية ) ودودة قبل ثلاثة عقود الاستاذ همام عبد الغني المراني ، يناقض ما كلمني الاستاذ عبد الحميد الصافي ، ويستمر الحال مع الاستاذ يوسف متي ومالك منصوروالشاعر عبد الرزاق عبد الواحد وغيرهم .. وخلال عملي الصحفي التقيت مرة واحدة بالاستاذ عامر عبد الله ، حيث اجريت معه لقاءا مطولاً نشرته في جريدة " الثورة " منتصف سبعينيات القرن المنصرم ، وهذا اللقاء اليتيم لم يرسم صورة ، لأتمكن من خلالها اعطاء رأي قاطع بهذا الرجل الذي قرأت عنه الكثير ..
سدادة الرأي
واظن ان المفكر الكبير ، صديقي د. عبد الحسين شعبان ، شعر بحدسه المعروف ، مدى شغفي بشخصية عامر عبد الله ، فأخذ يحدثني في معظم لقاءآتنا ، وهي كثيرة ، عن صديقه عامر ، كاشفاً صفحات غير معروفة ، بعقلية راقية ، يرافقها الاتزان دائما ، فالعقل عند د. شعبان ، بمثابة حارس الذات الذي يصوّب خياراتها، يضبط ايقاعها، يكبح جماحها ويقوِّم مسارها ليبقى حراكها في دائرة المنطق والاحساس الواقعي... وإذا كان الإحساس عنده لغة الروح ، واذا كان المنطق لغة العقل، فالحديث عن شخصية هامة ومهمة كشخصية عامر عبد الله يستوجب اتقان اللغتين وإلا سوف لن نفهم الحياة وشخصياتها ولن تفهمنا... لذلك اشعر بالاطمئنان وانا استمع الى حديث ابا ياسر د. شعبان.
ووفق ذلك ، ليس غريبا على د. شعبان ان تحتفظ ذاكرته بمعلومات دقيقة ، غير مسبوقة عن شخصية عامر عبد الله ، لاسيما انه ارتبط معه بصداقة عائلية ، وذكريات نضالية اتاحت له ، ان يحتك بأدق الامور وتفاصيلها ما يجعله ، اهم مصدر يمكن الاعتداد به في الحديث عن عامر عبد الله ... انسانا ومناضلا ومفكرا..
يقول د. عبد الحسين شعبان : يُعد عامر عبد الله من أهم الشخصيات الشيوعية العراقية ، والعربية ، ليس بحكم المواقع التي تولاّها وهي كثيرة بل لما تركته من تأثيرات فكرية وسياسية على مجمل الحركة الشيوعية بشكل خاص والحركة الوطنية بشكل عام ، فهو لم يكن شيوعيا " مسلكيا متقوقعا " في منصبه الحزبي ، بل كان سياسيا بارعا وصاحب نظرية ثاقبة ، جمع بين الصلابة الفكرية والمرونة التكتيكية ، وتمكّن من فن الحوار والسجال والجدل ، وامتلك قدرة كبيرة على الاقناع ، وكانت صفاته القيادية تتجلى في معرفته ومبادراته..
النار ومرارة الأمل
وحين صدركتاب ( عامر عبد الله / النار ومرارة الأمل ) الذي يتحدث عن فصل ساخن من فصول الحركة الشيوعية من خلال القائد الشيوعي ، وبدء توزيعه في بغداد ( دار"ميزو بوتاميا" بشارع المتنبي ) كنتً اول المقتنين .. قرأتً الكتاب بصفحاته 336 من القطع الكبير، واطلعت على وثائق وصور غير منشورة ... جهد كبير من مفكردؤوب ، اغنى المكتبة العربية ، بعشرات الدراسات والكتب ..
الكتاب مزيج من الانطباعات والذكريات والحوارات والقراءات والنقد التاريخي ، اراد الباحث د. شعبان ، من خلاله رسم صورة شخصية لعامر عبد الله في ديناميكيته وأهميته الجوهرية في الحركة الوطنية والشيوعية والعربية .. مع حرص واضح على التمييز بين التأييد والتنديد وبين النقد الموضوعي والانحياز العاطفي ، ولعل المتبحر في قراءة ما بين سطور الكتاب يكتشف دون معاناة ، خشية الكاتب من ضياع حقائق داخلية وانطماس دورها ومنجزها التاريخي في خضم صراعات وخصومات وادعاءات ، وما ينجم عن ذلك من آراء متضاربة تستبد بها النوازع الذاتية والدوافع المصلحية والانحيازات الخاصة ..!
وجميل ، ان يشير د. شعبان ، الى جزئية مهمه ، بالقول انه لم تكن العلاقة الشخصية والصداقة والرفقة وحدها ، وراء دوافع الكتابة عن عامر عبد الله ، بل " انه يستحق ذلك ، فهو واحد من المثقفين الماركسيين العرب الذين امتلكوا فكرا جوّالاً عميقاً ، وخصوبة معرفية وثقافية واسعة ، ولولا استغراقه في العمل السياسي والحزبي اليومي ، لكنّا كسبنا مفكرا او اديباً اضاف إلى المكتبة العربية بشكل عام والماركسية بشكل خاص ، رفوفاً من الكتب الرصينة "
اذاً ، هذا رأي الباحث د. شعبان ، في عامر عبد الله وهو رأي شديد الخصوبة بهذا المناضل الممتلئ طموحاً ، وكان هذا " الطموح " ظل ، ملازما له ، ولربما لايتقدم عليه اي شئ آخر ، فلم يكن يرتضي المواقع الدنيا او الثانوية ، فقد كان يشعر أنه ينبغي ان يكون في الصدارة وفي المواقع الاولى ، وإذا كان لايميل لأحتلال الاول ، إلاّ انه كان يسعى ليكون " أصحاب المواقع الاولى " تحت تأثيره ، او في الأقل لايقفون حائلاً امام طموحه ، وهكذا كانت علاقته مع سلام عادل ، فترة توافق وانسجام كبيرين ، برز فيها عامر عبد الله مفكرا ومجتهدا ومبادرا وسياسيا لامعا ، ولكن في فترات الاختلاف والصراع ، انطفأ عامر عبد الله ولحقته التهم والاشاعات التي وصلت حدّ الشكوك !
تناقض في الرؤى !
وفي قول ، يصل مرحلة الجزم ، يؤكد د. شعبان ان فترة استيزار ومن ثم استقالته او تنحيته ، جمعت تناقضا حادا في النظر اليه ، ومنذ العام 1972 وحتى العام1978 كان عامر عبد يمثل " ثقل الحزب" المحاور مع سلطة البعث ، صاحب الحظوة والكلمة المسموعة لدى الرئيس احمد حسن البكر ونائبه صدام حسين ، المفاوض بأسم العراق مع السوفيت ولاسيّما في صفقات الاسلحة ، والموفد الرسمي الى اليمن لحل الخلافات بين شماله وجنوبه ، والمفوّض الرسمي مع السوريين بخصوص نهر الفرات ، والمبادر بتقديم مقترحات للقيادة البعثية بخصوص حرب تشرين 1973 والضاغط بإتجاه المشاركة العراقية فيها ، ولحماية دمشق ، ولم يكتف بذلك بل ذهب بعدها الى الجبهة المصرية للاطلاع على خط بارليف و(ثغرة الدفرسوار)
على هذا المستوى كان عامر عبد الله ، خلال تلك السنوات التي تدفقت فيها مواهبه وقابليته كرجل دولة ، وكان الشيوعيون ينظرون اليه بإعجاب ، على الرغم من الكثير من الحسد والغيرة التي كانت تعتري الكثير من ادارات الحزب المقرّبة او من القشرة الفوقية في المواقع العليا او المواقع الأدنى من تلك التي كانت تنتهز الفرصة للانقضاض على مواقع الحزب العليا ، ولكن حين شنت قيادة "البعث" الحرب على الحزب الشيوعي العراقي ، وحدّدت العام 1980 تاريخا نهائيا لتصفيته ، واضطرّت إدارات الحزب الى التراجع غير المنظم ، بعد ان أحرقت جميع سفنها ، بل ومراكبها الصغيرة أيضاً ، كان اول من وصلهم اللوم والتنديد هو عامر عبد الله ، وجرى التذكير بـ ( يمينيته واندفاعه في الخط العروبي متواطئاً مع البعث تارة ، إضافة الى مواقفه في الترويج لخط آب تارة اخرى ، وبعضهم كان يغمز إلى ابعد من ذلك ، ولربما يصل الأمر إلى تقرير العام 1956 وهو التقرير الذي يعتزبه عامر عبد الله كثيرا ) !
تساءلت وانا اقرأ هذا الكتاب : ماهو هدف الصديق د. شعبان من كتابه ؟
لقد وجدتُ اجابة عن هذا التساؤل في مكان ما من الكتاب ، حيث قال د. شعبان " ليس هدفي من هذه القراءة تدوين تاريخ الحركة الشيوعية العراقية او حتى جزءّا منه ، فمهمة المؤرخ لها حقل آخر، اضافة الى ضرورة التوقف والتدقيق للعديد من الوثائق ، ليس من اليسير توفيرها او الحصول عليها في الوقت الحاضر ، تلك التي تخص السياق التاريخي لما قبله وما بعده .. كما ان مهمتي ككاتب وناقد ليست الدفاع عن عامر عبد الله بحكم الصداقة والرفقة ، على الرغم من انني لم أخف محاولتي إضاءة الجوانب المشرقة والمضيئة في شخصية عامر عبد الله ، وازالة الكثير من الالتباسات ومحاولات التشويه التي تعرّض لها ، لاسيما من " ذوي القربى " الذين كان ظلمهم اشد مضاضة من وقع الحسام المهّند ، وفي الوقت نفسه ، نقد الجوانب السلبية وبعض نقاط الضعف لدى عامر عبد الله وخصوصا في مرحلته اللندنية .. ان هدفي في هذه الكتابة ، هو اجلاء بعض الحقائق وازالة الكثير من الغبار الذي علق بشخصية عامر عبد الله وإعادة الاعتبار للجدل والنقد العلميين ازاء واحدة من الشخصيات الشيوعية المؤثرة والتي تركت بصماتها اينما حلت ، لاسيما في تاريخ الحركة الشيوعية العراقية والعربية ، ليس هذا فحسب بل على التاريخ العراقي وربما العربي ككل ".
اذاً ، عامر عبد الله ، لم يكن شخصاً عابراً او أصبح مسؤولاً او عضوا في اللجنة المركزية والمكتب السياسي حسب ، بل هو الذي كان قد ملأ هذه المواقع وأعطاها معنى ، في حين ظلت فارغة حتى بمن شغلها لسنوات ولفترات اطول ، لدرجة تعتّق فيها او اصبح الناس لا يعرفونه إلاّ بصفته تلك دون سواها ، وبفقدانها يطويه النسيان أحيانا ، ولذلك ترى التشبث بالمواقع لدرجة الاستقتال ، ولا غرو أن الاحزاب الشيوعية ، وجميع الاحزاب الشمولية لم تعرف إلاّ نادرا ثقافة الاستقالة وجميعها شهدت مؤامرات وحيكت فيها دسائس وصلت احيانا الى درجة الجريمة بسبب الصراع على المواقع والسلطة الحزبية ، سواء في ظروف العمل السري او في ظل إدارات الدولة عند الوصول الى الحكم !!
جامع الصفات وتناقضاتها ..
ويتبين ، لقارئ كتاب الباحث القديرد. عبد الحسين شعبان ، مدى مساهمة المناضل الشيوعي عامر عبد الله ، في تشكيل وعي نحو جيلين من الشيوعيين ، وصارع وجادل واتفق ونجح وأخطأ وأصاب وأخفق ، وتحدّى وساوم ، وتقدم وتراجع وتشخصن وتفانى وجلب من المريدين والخصوم ومن الاحبة والاعداء ، بل الأخوة الأعداء الكثيرون.. كان الكثيرون يتمنّون ان يقترن أسمهم بأسم عامر عبد الله ، حتى من باب النقد او الشتيمة ، لكنهم في لحظة معينة كانوا يتمنون ايضا لو لم يكن عامر عبد الله موجودا او حاضراً ، لأن وجوده وحضوره سيغطّي عليهم ، بل على جمهرة منهم ، ولهذا كان عامر عبد الله يسبب لهم غصة كبيرة ، حتى وإن كان فردا واحداً وهم حتى لو أجتمعوا بالجملة ، فكفته قد تكون الأرجح ، ولاسيما لدى أوساط غير حزبية ، وجهات عربية كثيرة ..
اعجبني كثيرا تواضع د. شعبان ، حين قال في مقدمته ، انه لايقدم الوقائع والاحداث في كتابه كمسلمات غير قابلة للنقض او للإضافة او الحذف او التعليق او التعديل او التصحيح ، فقد تكون هناك تقديرات وتصوّرات اخرى مغايرة نقدرها ، ولهذا ( يقول د. شعبان ) فأن هدفي هو دفع القارئ والمعني بشكل خاص إلى التفكير والتأمل في وجاهة ماهو معروض من افكار عامر عبد الله ، وتقليب وجوه الرأي بالمقارنة والنقد ، فالمسألة لا تمس من يؤيد او يخالف ، ففي الاولى قد تكون محاباة ، وفي الثانية قد تكون تحاملاً !
طموح بلا حدود
وحال الانتهاء من قراءة الكتاب ، يخرج المرء بأنطباع مفاده ، ان عامر عبد الله لم يأخذ حقه ، ولم يقّيم التقييم الصحيح ، بل تعرّض خلال حياته الحزبية والسياسية إلى الكثير من الإساءات والتشويهات ، دون ان يعني ذلك أنه لم يرتكب العديد من الاخطاء ، لاسيّما طموحه الذي لاتحده حدود ، وكان من ابرز ما تعرّض له حملتان ظالمتان كبيرتان الاولى ، العام 1959 وما بعده وصولاً إلى تنحيته من إدارة الحزب ، والثانية بعد انهيار التحالف مع حزب البعث في إطار الجبهة الوطنية والقومية التقدمية في العام 1979 وما بعدها والتي كانت كان احد أكباش الفداء فيها حيث تمت تنحيته وتعرّض لأتهامات وضغوط كثيرة ..
اخيرا ...
الكتاب قدم مشهدا عاما للحركة الشيوعية من خلال عامر عبد الله ، لجيل نهض بالمهمة النبيلة ، تابع الكاتب فصولها في لقاءات واحاديث خاصة ، وجال مع عامر في منابره ، وما ساهم به من كتابات وآراء ، واستقصى تفوهاته النقدية لما يُقال او لايقال ، واستجلى حساسيته ومواقفه المعلنة وغير المعلنة ، لاسيّما لأبرز مظاهر التحول فيها دون ان يغفل متابعة ما أعقبها من تطورات وتغييرات ، بعضها دراماتيكية ، واضعا ذلك في مشغل خاص ، لفلترة ما هو مناسب منها ومفيد للجيل الحالي وللأجيال القادمة.. وبالخصوص خلاصات تجربة كردستان والكفاح المسلح بما لها وما عليها ، وكذلك تجارب المنافي القاسية خلال ربع قرن ، وقد استوجب الامر من د.شعبان الإشارة الى عشرات الاسماء والى التوقف عند بعضها بالارتباط مع عامر عبد الله ، وكذلك إجراء مقارنات مع جهات سياسية اخرى ، عزفت على الوتر ذاته في الصراعات الحزبية والسياسية ، سواء كانت في السلطة او خارجها ، وكبرت في حجمها اوصغرت ..
كتاب من المهم قراءته..بانوراما لتاريخ عراقي معاصر ..
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
444 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع