تحولات الجسد قراءة في قصيدة " موسيقى " للشاعرة بشرى البستاني
د. منال البستاني
النص :
يسقط الثلج في الصالة المقفلةْ .
فجأة تتداعى الغيومُ،
تسدُّ النوافذَ
لحن أخيرٌ يرفّ على الشُرف المطفأةْ
أمدّ ذراعيَ
أمسكُ ما يتناثرُ من ندف النغمِ
الشمسُ تومضُ،
تنفتح النافذةْ ...
فجأةً .
وترفُّ البلابلُ،
يهدرُ موجٌ عصيُّ،
وتهفو الغصونُ
تغادرُ روحيَ قضبانها...
يتداخلُ بحرٌ بأفقٍ،
وأرضٌ بنهرٍ
تدورُ الصحارى،
وأصعدُ
أَصعدُ
حتى التلاشي ...
مخاطبات حواء، بشرى البستاني، القاهرة، دار شمس للطباعة والنشر، 2010 .*
تفتتح الشاعرة ديوانها "مخاطبات حواء" بقصيدة "موسيقى" بتجريديتها، فالعنوانُ هنا بحد ذاته تجريد موسيقي يمتاز بخاصية اللغة وعتمتها . غموض فلسفي يحفُّ بالعنوان. فكلمة "موسيقى" تشكل مزيجاً من غموض الفن والوجود، غموض الجسد وإشاراته التي التحمت بلوحات الشعر وما تفيض به من مكنونات. فالتنكير بالعنوان يستحضر سلطة غير مرئية و هاربة تُحرك النص بموسيقى تنساب بعمق .
تأخذنا الشاعرة إلى الأنوثة التي ترمز إلى الاتساع الكامن في الإنسان فهي التي تهِبُ الضياء والحياة كأنها نفحه سماوية أختصّ الله بها المرأة ودعاها للمكوث في الملكوت ، وجعل من روحها مريم العذراء التي بها يرتقي الحب لتثير في الإنسان هذه الموسيقى التي تطلق ما هو مدّخرٌ في كوامنه من ألوان وثمر. فالأنوثة في هذه القصيدة هي الاتحاد الذي يجذب نحو المركز ، إنها تتنافى مع الذكورة التي هي تفريق وإبعاد عن المركز ، هي السر الذي يخلق فينا الشعور بالحماية و الأمان ، فالرجل إذ يعدو بسرعة جنونية، فأنه يعود إلى حضن الأم والحبيبة كواحة أو ميناء ، فهي الدواء الكوني الذي يُسكن التوترات العصبية ويوازن ضغط الدم الذي ولدّته الظروف السياسية والاجتماعية والحروب ، إنها السلام الذي نتغلغل فيه حين يداهمنا الخوف، ومن حضنها نعود إلى الجنة ، وهي ينبوع الماء المتدفق في صحراء الحياة والأرض التي تحمينا من الغرق حين تجرفنا أعاصير الحياة.. فالأنوثة تحمل في مضامينها سر الفضيلة للروح التي تريد أن تفرَّ من سجن الجسد وفكرة الموت والفناء في صميم المحنة. تحملنا الأنوثة/القصيدة إلى العرش الإلهي.. إلى الإيمان واليقين، إلى السلام الذي يمسُّ الإنسان في مخاطراته مع الضياء.. وفي القصيدة أفول للتسلط الذكوري السلبي المهيمن وإشراق للأنوثة التي تمثل في الحياة الجانب الإيجابي المضيء ، والفن شعراً كان أو موسيقى أو نحتا أو رسما فهو شمس بغيابها تدور الروح في مدارات الألم والظلام.
تدور القصيدة في فضاء فلسفي يسبح في زمن حاضر يُغلّفه ماضِ ترفض الشاعرة أن تعلن عنه أو أن تستقبله ، ماضِ تشتبك فيه عاصفة داخلية تربك سكينتها، حب ضائع! حرمان! محنٌ! قهر وقيود..! يُضفي على القصيدة تلك العتمة التي لا تتبدد كما يقول (Novalis) إلاّ عبر القصيدة.
في النص صمت عميق ، وسرٌّ كتوم ، وحزن حبيس يتجلى في الحاضر ويعصُف فجأة بصورة عاصفة ثلجية :
فجأةً يسقط الثلج في الصالة المقفلة....
الـ أنا غائبة لكنها حاضرة في كينونة الشاعرة التي تُفصح عنها بالأفعال " أُمسكُ " " أمد " " أَصعدُ " ويتكاثف الألم أكثر في شعرية تطفح بالصور والدلالات لتُشكل إنزياحاً تتداخل فيه ظاهرة طبيعية وهي سقوط الثلج مع حالة إنسانية تحتدم بالألم والبرد ، فـ الصالة المقفلة كناية عن الجسد في حالة تحول- جمود وانصهار وتطهُر- إن الفعل يسقط هنا له تأثيره ليس فقط على المستوى النفسي بل الأخلاقي لأنه يرتبط بالجحيم والخطيئة وبروح تحمل عفة ووقار وبهذه اللغة الثرية يقول الشعر أنا شعر إذ يدفعنا التأمل إلى تساؤلات تثير الدهشة والحيرة، ما سرُّ الصالة المقفلة ؟!! أهي صالة رقص ؟ أم صالة درس ؟ أم صالة مخاض ؟ أم صالة جنائزية ؟ .
في القصيدة تجليات خفية لمزاج أسود وانكفاء ، فرح أومض وانطفأ ، فعلى الصعيد النفسي تبدو الروح رافضة للواقع ولعبودية الجسد والغريزة بالرغم من أن هذه الغريزة تلعب دوراً عميقاً في التفتح والازدهار الإنساني ، فصوت الشاعرة يدعو إلى قمع رغبة الجسد حين لا تنزع إلى الخير وتوظيفها بحيوية ديناميكية ينتصر فيها الروحي على المادي.. ثم تتشكل صورة للتداعيات النفسية والحرمان يتكاثف فيها الظلام وتغيب الرؤيا:
فجأةً تتداعى الغيومُ،
تسدُّ النوافذَ
ترسم الصورة الانفتاح على تجربة غيبية روحية غامضة بعد حزن اكتملت دائرته يُغلفه لون أسود مكنون شعريا فـ " الشرف المطفأة " ذات دلالات كثيفة في معانيها التي تفوح برائحة الماضي الذي تضوع بعطره الألحان ، لحن أخير تكاثفت فيه المحن لكنّ الأزمة تبدأ بالانفراج شيئا فشيئا بحضور الفعل " يرفُّ " الذي يُعبّر عن خِفة الروح وتحررها من الجسد بموسيقى تنساب حزنا :
لحن أخير يرفُّ على الشُرف المطفأة
ثم تومض الـ أنا وتتألق في أفعال حركية تعبر عن إرادة قوية كانت متعلقة بالمادة المُرهِقة والمُلِحة لتتحول إلى إرادة مُرهفة قادرة على الانعتاق من آنية اللحظة الهاربة إلى ديمومة الزمن الإبداعي حين تمتزج الموسيقى بالثلج وما يتطاير من طَلْع الشجر . ترمز الشاعرة بمفردات هاربة لا يمكن الإمساك بها في الواقع " ندف النغم " فالذراع جاءت رمزا للإرادة والفكرة الفاعلة في امتدادها الكوني ، "أمدّ ذراعي" تعني البداية والرغبة في الإمساك بالقيم الضائعة في عصر يفتقر فيه الإنسان إلى التماسك الروحي .. فالشاعرة تكشف عن تجربتها الإبداعية بهذا الامتزاج المتناغم بمشهد سماوي يعكس الجلال الإلهي ويوقظ فيها الأمل المتناثر بصورة الثلج الذي يهطل بأسى يكمن في داخلها ويُمهد لها العبور إلى العالم الآخر، إلى عالمٍ أسمى فـ " أمسك ما يتناثر من ندف النغم " تجسيد للبحث عن المثال الأصيل المفقود على الأرض ، تبكي الشاعرة في منفى لا يُضيئه إلاّ الإبداع :
الشمسُ تومض،
الشمس لا تومض لان الوميض خاصة من خصائص البرق لكن الشاعرة أضفت على الإبداع سمة الأنوثة بالفعل " تومض " إذ ربطته بالشمس للتعبير عن نار الإلهام التي لها فاعلية الحب واللذة الجسدية والتخصيب الذي رمزت إليه رمزا مكنونا بالبرق. فلذة الجسد ارتبطت بفاعلية البرق ذي الومضة السريعة الخاطفة في حين أنها وسّمت الإبداع بطابع الخلود وأعطته ضوء الشمس وزاوجت الحب بالإبداع الذي يشعُ ضياء مُستديماً .
تبحث الشاعرة عن زمن تشيدّه في العلو المطلق ، زمن مبني على القيم ويتألق فيها الطموح إلى بلوغ المثال واللذة السرمدية .. لكن هذا التحول لا يتحقق إلا بالممارسات الروحية ليعود الجسد بعدها إلى جوهره النقي على مستوى المُثل ومنظوماتها النفسية والاجتماعية والأخلاقية . تقدم القصيدة بديلاً عن العالم الحسي وعن الواقع عالماً ايجابياً يُركّز على الروح وعلى عالم ما بعد التحولات بنعيمه الدائم المطلق بلغة إنسانية تحقق جمالاً مؤيّداً في التعبير عن محنة الإنسان وحيرته بين الرغبة في الحياة والتعلق بالدنيا، والتجرد من الدنيا والتحرر منها، وهذا التحرر لا يتم إلا بمحو الذات ونداءات الجسد من أجل الإقبال على النفيس .عبّرت الشاعرة عن مرثاة ذاتية واغتراب بلغة رمزية تنفتح على سمات الحلم والأمل والتحليق .
إن هذا الاغتراب الذي يتحول إلى وجود في حضن اللغة ليس إلا موتاً لذيذاً وديمومة لأنه يتمخض عن القصيدة ويطفئ رغبة الجسد التي تُهيج الغرائز ، مادية، سياسية، اقتصادية ومنظومات اجتماعية لا إنسانية. إن الإبداع الذي هو جنين في رحم الشعر، ينحبس في سموم الألم وفضاء الخيال لا يولد إلا بعد تمزق نفسي ومخاض تنتصر فيه الروح على كل الحواجز و الأغيار والمادة .
تنفتح النافذة ...
فجأة ..
" فجأة " تشكل انقلاباً جوهرياً في تحولات الروح والتجربة الداخلية وتلفت النظر لأنها لا تشكل حالة عامة بل حالة خاصة، وعلامة لها وعلامة عليها، علامة تناقض حالة السقوط والبلبلة ويتجلى الإبداع كأنه ضوء يتألق ويتنافى مع بيولوجية الجسد المعتم:
وترف البلابل،
تتذبذب الصورة الشعرية مابين عتمة وضياء وقلق وبلبلة وغرق وموت تصور لنا فيها الشاعرة الزبد الذي تغمرنا به المادة والانتهاكات التي عصفت بالإنسان المعاصر وقست عليه :
يهدر موج عصيُّ
ثم يدور النص في مدارات ومنعطفات صعبة وخطيرة تتجلى فيها صورة الموت المداهم لكنه يشكل في نفس الوقت انتقالا مفاجئا من عالم مُنتهَك إلى عالم غير منتهك يتحول فيه الحزن إلى موسيقى وترانيم تأتي من عالم علوي :
تهفو الغصونُ
الغصون هنا موسيقى كونية يمتزج فيها الضياء والمعرفة وعطر الخلود، موسيقى تصدح من أثير علوي تجسد خصوبة الفعل الإلهي وثمرة التحرر من ألم صاحب انغماس العقل في الشهوات ثم عاد إليه بالتطهير. إذ تنفتح أبواب السجن ، وتنساب موسيقى سماوية كأنّ روح الشاعرة تجول في معبد مقدس.. وإذ تغادر جسدها فأنها تسمو إلى الحكمة والقوة وتكون في ضيافة الله. فالإبداع الشعري يشعرها بالفرح الدائم المتجدد.. وهو الطريق الذي تسلكه لبلوغ الحكمة والاحتراس والحصافة.. فالشعر سيد الأسرار، يعمل في الخفاء من أجل مستقبل يسوده العدل والنظام، وهي إذ تتحرر من سُخام الواقع فأنها تتحرر من وجعها الداخلي ، فالشعر يشكل لها هذا الفيلسوف الكتيم الذي له علاقاته الرمزية مع الله الذي يلقن الأنقياء.. فالأساس الذي ترفضه الشاعرة هو الفساد الروحي الذي يسود واقعنا وتعكسه القصيدة في صورة الإنسان الساكن أبدياً في عذاباته في " الصالة المقفلة " ، الإنسان الذي أردته الحضارة المعاصرة قتيل صراعاتها وشهواتها غير المشروعة.
تغادرُ روحيَ قضبانها
تصوّر هذه السطور تحرر الروح من الواقع وعبودية الجسد من أجل الوصول إلى نُظم فلسفية وسياسية تحمي الإنسان ، فالروح هنا في حالة تجرد من الحياة.. حالة شفاء بعد بحث ومخاطرات عميقة في فكرة الثراء المعرفي ، لكنها أيضاً فكرة للخروج من الحدود الكونية بحثاً عن الأبد و الخلود.
يُشكل الشعر بالنسبة لبشرى البستاني بحثا عن القيّم الجمالية التي تمنحها الشعور بالسكينة حين يتحول إلى أحضان أم حنون تهدهدها مثل الماء – تناغيها بلغة صافية من الكدر والعقبات ، ملاذها الشعر إذ تنغمر فيه وتركض إلى الأم ، تركض إلى البحر..والورد والشجر ، تركض إلى الله.. فالشعر حياة وموت ووجود يصوّر لنا رحلة الشاعرة إلى العالم الآخر، أمل الفنون المنشود والحرية .
تعبر الشاعرة عن انتصار الروح على الواقع والمادة .. بعد صراع داخلي محتدم تؤكد لنا أن الإنسان هو القوة الفائقة ذات القيمة التي ترتقي بالوجود إلى كل ما هو رفيع وتستهجن كلَّ ما يعيق حرية الفكر والخيال والفن..والجمال، ولأن الشعر يشكل بالنسبة لها فعلاً وصوتاً مندمجاً مع الذات الإلهية ، فهي تغني بإيقاع رحلتها إلى العالم الآخر التي يتحول فيها الحزن إلى فرح بغياب كل خطر يترصدها.
إن التجربة الشعرية ليست إلا حياة تُحقق لها الانسجام مع الذات ومع الآخر، لأن الشعر لا يخضع لقوانين الطبيعة بل يجسِّد فيها الفعل الإلهي والنقاء ، وهو الأنثى / القصيدة ، أمواج الطاقة الإبداعية التي تتدفق من علو.. وهو الموسيقى التي تُشكل عندها فعلاً متسعاً تسعى به إلى خلق صورة الإنسان المثال.. فالشعر والموسيقى يزيحان الحدود بيننا وبين الله.. وإذ تتمُّ عملية التحول من الحياة إلى الفناء في طقوس موسيقية تخففُ من ثقل التجربة وفي حدة هذا الانسجام تفارق الروح الجسد :
يهدرُ موجٌ عصيٌّ
لحظة هدير الموج العصي لحظةٌ كونية تفتح الأبواب الموصدة كلها فيتلاحم كل شيء بكل شيء وتتداخل الصورة الأفقية بالصورة العمودية لتشكل انعطافات متلاحمة تمتد من النهائي إلى اللانهائي ، من الفضاء المحدود إلى المطلق:
يتداخلُ بحرٌ بأفقٍ
وأرض بنهر
إن الذات الشعرية لا تُعد المادة هي الواقع الوحيد، بل تؤمن بوجود الروح والعالم الآخر والله لذا فهي تهجر الملذات الجسدية ولا تجد في الموت النهاية المطلقة بل تجد فيه الحياة وتعطيه القيمة النفسية لأنه يحررها من القوى السلبية حين تتلاشى المادة وتنكشف أمامها أروقة النور:
تدور الصحارى
ويدور الكون دورة الحياة حينما تغادر الصحارى، تُصور لنا الشاعرة ممارسة النشوة المقدسة في رقصة صوفية مولوية في دورانها ، حين تدير ظهرها لامتداد الواقع الصحراوي العقيم الذي هو بالنسبة لها منفى. إن هذا البحث عن الجوهر ليس إلا بحثاً عن فردوس مفقود من حولها وبحث عن الله الذي يتجلى في هذا الامتداد الشاسع الذي لا بداية له ولا نهاية. فالصحراء هنا هي صورة القلب في محنته ، وهي المكان الذي يعيش فيه الزاهدون في الحياة فالشاعرة لا تجد الحياة إلا وهماً.. وفي هذا التيه التأملي تجد الله:
وأصعدُ،
أصعدُ...
حتى التلاشي
يجسد تكرار الفعل " أصعد " حالة من الحلم والخيال تسبح فيه الروح بانفصالها عن العالم الحسي نحو العالم العلوي بحثا عن جزئها المفقود في التوحد مع الذات العلية التي تجد فيها الجوهر الثابت والقيم الأصيلة التي لا تتغير، تجد كل ما تنشد في التجربة الشعرية التي تناديها نحو الصعود.. وبروح جسورةٍ تخترق عالما لا يشبه عالمنا يجذبها نحو المطلق باعثاً فيها نشوةً غيبية كأنها في عيد صعود يجذبها نحو عالمٌ أثيريّ مهدئ ومسكن يصعدُ بها إلى أروقة الضياء ، هرباً من عالم مادي سكوني بثقله، تمد يدها نحو السماء ، مجسدة صورة الإنسان الإيجابي في ارتقاء روحي يسمو بها على كلِّ يباس وحرمان، و يحررها من الاغتراب الدنيوي في حالة من التجلي تتفجر فيها كل غرائز الحياة التي تطمح إلى رمي ازدواجية الزمن، حالة بلا نهاية من التحويم والدوران يتم فيها الانتقال من الفناء إلى الخلود، ، حالة عشق و نشوة، ووجد، وذهول وخطف وشطح، وتصدح موسيقى فرحة و يتحقق لها كل ما تعيقه الحياة المادية والرغبات الجسدية ، إنه بحث عن الحريز، عن المنيع المتعذر بلوغه إلا بشفافية الجسد والتلاشي بالذات الإلهية فيزول العطش الذي لا يرويه إلاّ الشعر والتوحد مع الله ، إنها تحولات جسدية لكنها أيضاً تناقضات وجدانية تفتتحها الشاعرة بموسيقى تُنادي بالارتقاء الروحي . هذه التجربة الرمزية للتسامي والنقاء لا يمكن نكرانها لأنها تعبر عن معناها الأعمق بقدر ما يرافقها من طقوس صوفية للروح التي تريد أن تفلت من الجسد محلقة نحو السماء ، عائدة إلى جوهرها بعد تطهرها .
تسبح القصيدة في أثير اللغة الكونية التي تخاطب الإنسان و تعطي للشعر صوته الغنائي القوي - لغة الجمال الذي يتجلى بالجسد الأنثوي وبشعرية الأنوثة ، شعرية البوح الأنثوي التي تفتح لنا كوناً من الكلمات وتأخذنا إلى البؤرة العميقة التي تكشف السرَّ الخفي الذي يبوح به الشعر حين تصمت الشاعرة في محنتها الوجودية.
في القصيدة أزمنة امتزجت بالخضرة والخصوبة والألم وبأعياد ليلية مَلغية في حياتها تلقي ظلالاً من الشعور بالاغتراب النفسي الذي يؤدي إلى الموت في عصر هيمنت عليه الحروب والفكر الاقتصادي المادي ، ترسم الشاعرة بالكلمات صوراً اجتماعية وكونية تتراسل مع الإنسان في محنته . نلمس في مخاطراتها الشعرية جرأة روحية متغلغلة في الجمال الإلهي والسرمدية .تأخذنا إلى الصوت الخلاّق، صوت الفعل، صوت الله الذي ينبثق من المركز الأصلي للضياء ، إرادة وتجدد ، هناك حيث تتلاشى الحدود وتُشرق الحرية .
الـ (أنا) في شعرها تنصهر بالإنسان وهي السهم الذي ينطلق إلى الهدف و البذرة التي تخلق المستقبل الوضّاء. تركض الكلمة إلى الكلمات- البداية ألم - النهاية فرح سرمديٌّ يمتصُّ الألم والعجز ، تلك الصورة التي يجب أن نتأملها لنرتقي من الصورة الشكلية التي لا تشكل إلا وهماً يغمرنا ، وحضارة مادية تغتالنا ، لنرتقي إلى الفضاءات الملكوتية والإشراقات الجمعية.
تأخذنا بشرى البستاني في شعرها إلى عصر الفروسية و القيم التي يتجسد بها الإيمان والالتزام الذي يجب أن تخضع له كل حياة. فالقصيدة تعبر عن رفض الفساد المحيط بنا ، وهنا تتجلى القيمة التي تتشبع بها لغتها بما تحتويه من استشهاد روحي تشرق فيه لوحات صوفية تصارع قوى الشر الهادمة ، تجذبنا نحو الأعلى حين تغني في القصيدة أغاني الصعود الذي لا يتوقف إلا أمام العرش ، تحررها من القلق الغيبي بالعودة إلى الله.
تلعب الصورة في شعرها دوراً جوهرياً تنتصر فيه الروح على العناصر المادية، إذ تبقى متحررة من الإطار الذي يسجنها معبرة عن الأشياء الهاربة. لغتها لغة الضياء ، لغة الموسيقى.. في شعرها تتشكل اللغة صوراً بصرية تتمركز في " سقوط الثلج " " والصالة المقفلة " " تُسدُّ النوافذ "، " الشرف المطفأة " " الذراع الممدودة " " ندف الثلج " " الشمس التي تومض " " النافذة المفتوحة " " الأمواج " " الغصون " "ا لقضبان " " البلابل " " البحر والأفق " " الأرض والنهر" " الصحارى " ثم تندمج هذه الصور البصرية مع الصور السمعية إلى حد أن السمعي يغدو جزءاً ينبض في صميم البصري: " ندف النغم " " هدير الموج " " لحن أخير" " ترف البلابل " " تهفو الغصون " لغة الموسيقى والغيوم والثلج المنساب المفارق لجموده، لغة الأمواج والمياه، لغة تتلاشى فيها المادة الكثيفة لتضفي على الواقع لغة المثال الذي يسبح في أثير نقي .. وتبقى الصورة عندها هذا الإعصار المنتظر الذي يجتاح الفكر الساكن لتحوله إلى خاصية الفكر الفعّال . تنتشل الصورة السلبية من العدم وتحولها إلى حقيقة مطلقة ، إذ تتشكل صوراً بهيّة يتداخل فيها البحر بالأفق، الأرض بالسماء، القبح بالجمال، الأسود بالأبيض في تناغم يخاطب العصب الدقيق في الإنسان الذي يبقى في شعرها معجزة المعجزات كما جعلهHeidegger في فلسفته ، إذ قال أن الإنسان هو معجزة المعجزات:
L' homme est la merveille de toutes les merveilles
وإذ يرى Bernard Andrieu أن الجسد هو هذا الشكل الجذاب، الأنيق والمستغرق في الوجود، وهو الوسيلة الوحيدة للحياة ، أو كما يراه Chirbaz François علامة من علامات الحضور، ينتمي إلينا وننتمي إليه بلا مسافات، بلا اختلافات ، وأن الجسد هو إشارة الإشارات، وأن الزمن والجسد هما نسيج حياتنا، وأن الجسد هو إيقاع الحياة ، فالشاعرة ترى في الجسد وخاصة في الجسد الأنثوي هذه الفاعلية الممتدة التي تبثُّ في الكون والإنسان الدلالات الحية التي تتجلى فيها معاني السمو، فهو النعمة والاستقبال والديمومة، وبحضور هذا الجسد النبيل يغادر عالمنا القهر والعنف ليسوده السلام بصورة متسعة.
إن قصيدة " موسيقى " لبشرى البستاني تبدأ بالتعبير عن ألم الروح وتجمد الجسد والرغبات والإرادات غير المشروعة وتنتهي بالصعود إلى حد التماهي بالذات الإلهية ، وهي هنا تتنافى مع قصيدة الشاعر الفرنسي بودلير" الموسيقى " التي تبدأ بالصعود نحو الفضاءات الأثيرية العلوية وتنتهي بالسقوط في هاوية العدم واليأس .
إن هذا التميز في شعرها تتجلى فيه الأنوثة في همس صوفي يبجّلُ جسد المرأة ويكثّف فيه الكون ثم يعود ليبثّ إشارات هذا الجسد في عنفوان الوجود ليمثل الشجر والأنهار والبحار والغابات بنشوة إلهية متعالية على المادة .
بشرى البستاني شاعرة تهزم اللذة الحسية باللذة الروحية فتخلق بهجة جديدة هي بهجة انتصار الروح الممتزجة الطافحة بنشوة الحرية والمعرفة والدهشة ، وبذلك تحوّلُ الجسد الأنثوي إلى شجرة للحياة وارفة، وتسمو بفاعليته الجنسية من خلال الترميز إلى تجريد يحرره من اللحظوية الزائلة متساميا به نحو الضياء.
1395 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع