مثلت فترة الثمانينات من القرن الماضي في العراق مرحلة مفصلية في تاريخ الشعر العراقي، هذا البلد الذي انخرط في دوامة من الحروب وبدأت حينها ملامحه في التغير، ما فرض على الشعر نفسه أن يواكب بيئته التي بدأت في التفتت والتآكل، فانعتقت النصوص الشعرية من سطوة الآخر سواء كان قارئا أم ناقدا، وكتب شعراء هذا الجيل قصائد بأشكال وأساليب وتجارب جديدة مبتكرة غير مسبوقة، متجهين أكثر إلى فضاء النص المفتوح علهم يدركون الخراب الذي راح يتسع، محاولين تمزيق قيود الكبت والقمع التي كانت تقيّد الحياة من حولهم.
لكن هذه التجارب باء أغلبها بالإحباط والعزلة، كما هو شأن الشاعر العراقي خالد جابر يوسف، الذي وافته المنية في عزلته بسكتة قلبية، فجر الاثنين 30 نوفمبر، وهو الذي لم يتخلّ قطّ عن قصيدته أو ترجماته للأدب العالمي، رغم ابتعاده عن بهرج التظاهرات الأدبية وساحاتها المتداخلة.
العرب محمد ناصر المولهي:توفي يوم 30 نوفمبر المنقضي الشاعر والمترجم العراقي خالد جابر يوسف، عن عمر 52 عاما، إثر تعرضه إلى أزمة قلبية بالعاصمة العراقية بغداد.
رحل الشاعر الذي لم يكن يطلب من الحياة غير الجمال، وهو الذي خير العزلة منذ أواخر التسعينات لما آل إليه حال العراق بعد سنوات من الحرب والحصار، وصولا إلى الاحتلال والفوضى التي تنهشه منذ أكثر من عشر سنوات.
آخر ما كتبه الشاعر خالد جابر يوسف، يوما قبل وفاته، كلمات معبرة يقول فيها: الحياة جميلة. ربما لم أعش جمالها كما ينبغي، لكنني شاهدته وتأملته وشعرت به، لا يضيرني بعد ذلك أن أموت. أناس جدد ينتظرون أن يعيشوا هذا الجمال، ربما بشكل أفضل. شكرا يا رب.
الإبداع والحياة
نعى بيت الشعر العراقي الشاعر خالد جابر يوسف في بيان له قال فيه: إن شعراء العراق وكتابه فقدوا، في 30 من تشرين الثاني الماضي، شاعرا ومترجما كانت له إسهامات وحضور طيب، برغم ما مرّ به من محن ومصاعب أبعدته لسنوات عن الكتابة وترسيخ اسمه في المشهد الإبداعي.
وأضاف البيان: نخسر في أواخر العام 2015 خالد جابر يوسف الذي سحقت التسعينات أحلامه، وأخذته مرارة العيش إلى متاهات عزلة اضطرته إلى التنازل المؤقت عن تطلعاته الأدبية، لمواجهة قسوة الحصار وتدبر حاجات أسرته.
وتابع البيان: بيت الشعر العراقي ينعى خالد جابر يوسف مشروعا موؤودا، وشاعرا مظلوما، وإنسانا مسحوقا في بلد قاس اسمه العراق.
ولد الشاعر والمترجم العراقي خالد جابر يوسف في بغداد عام 1963، وبدأ بطرح مشروعه الشعري عام 1981 في مجلة فنون، ومن ثم في مجلة الطليعة الأدبية، ثم قدم نماذج وصفها بعض النقاد بأنها مختلفة في قصيدة النثر، ما جعله يتبوّأ مكانة مرموقة، ناحتا صوته الخاص بين أقرانه من الجيل الثمانيني، ليعزز من حضوره في الوسط الأدبي.
الشاعر كان له وعي شعري مميز، يشير إلى تجربة إبداعية راكمتها التجربة الحياتية، وشحذتها أدوات النص وموجهاته المعرفية
وقد أسهم فوزه بجائزتين، إحداهما عربية والأخرى عراقية، بتوجيه الأضواء إليه أكثر. لقد أصدر الشاعر مجموعة شعرية بعنوان “بحثا عن المهب” عام 1988 وفازت بجائزة يوسف الخال للشعر العربي، وأخرى بعنوان “الجهات التي هي من شأني” عام 1993 وفازت بجائزة دار الشؤون الثقافية التي صدرت عنها، كما صدرت له الأعمال الشعرية 1982- 2001، في عام 2012 عن دار الشؤون الثقافية ببغداد.
ضم كتاب الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر خالد جابر يوسف ثلاث مجموعات شعرية هي “بحثا عن المهب”، الفائزة بجائزة يوسف الخال للشعر العربي بلندن سنة 1988، والتي صدرت عن دار رياض الريس للكتب والنشر بلندن، و”الجهات التي هي من شأني”، الفائزة بجائزة الشؤون الثقافية للأدباء الشباب في العراق ببغداد 1992، والتي صدرت عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد، سنة 1993، ومجموعة من القصائد التي لم تنشر سابقا في كتاب مفرد عنوانها “بلاغات”.
قسوة الانسحاب
وقد كتب الشاعر نوفل أبورغيف عن تجربة خالد جابر يوسف في أعماله الكاملة، كاشفا أن الأعمال عبارة عن ديوان يضمّ أعمال الشاعر خالد جابر يوسف للمدة الممتدة بين 1982 و2001، والتي تميزت بوعي جمالي لافت وحضور إبداعي راسخ، فالشاعر يمتلك من الخبرة والمهارة في مجال الإبداع الشعري ما يجعل قراءته باعثا لتحقيق متعة جمالية حقة وتأمل حرّ. إذ تنطوي لغة الشاعر على وعي شعري مميز يشير إلى تجربة إبداعية راكمتها التجربة الحياتية، وشحذتها أدوات النص وموجهاته المعرفية والجمالية.
وتقول الكاتبة شدوان مهدي يوسف عن الشاعر الراحل في حوار سابق لها معه: خالد جابر يوسف صوت شعري عدّه الكثير من النقاد متميزا وذا خصوصية بين أقرانه من الجيل الثمانيني، ذلك الجيل الذي كثر الحديث والجدل في شأنه لما أنتجه شعراؤه من تجارب شعرية اتسمت بالتجريب والخروج عن السائد والمألوف، وما رآه البعض غموضا وتعمية.
سماه بعض زملائه صياد الجوائز، لفوزه بجائزتين شعريتين إحداهما عربية والأخرى محلية عن مجموعتين شعريتين: الأولى “بحثا عن المهب”، والثانية “الجهات التي هي من شأني”. ولديه مجموعة شعرية ثالثة عنوانها “بلاغات”.
وإضافة إلى كونه شاعرا ومترجما ينشر ترجمات منذ عام 1990 بعدة منابر عربية، فجابر يوسف ناقد متميز وجاد، وعلى الرغم من قلة دراساته النقدية المنشورة، فإن ما كتبه من مقالات كان لافتا للانتباه ومثيرا للاهتمام.
كان الشاعر خالد جابر يوسف عصامي التكوين، كافح من أجل الشعر، ومن أجل الحياة، ومن أجل أسرته بمرارة، حتى اشتدّ به الأمر وآثر العزلة على إثر ما حاق بوطنه العراق، وما طرأ عليه من صعوبات معيشية لإعالة أسرته. كانت تجربته التي بدأها بكتابته للشعر العمودي، ثم ينتقل إلى قصيدة التفعيلة ومنها إلى فضاء قصيدة النثر، شحيحة بعض الشيء.
لذلك لم يكن نتاجه غزيرا إذ أعاقته ظروفه الحياتية وعنايته بأسرته ووضع البلد المأزوم، ما ساهم في تعثر مشروعه الشعري، لكنه رغم كل ذلك، ورغم مغادرته أو انسحابه من المشهد الثقافي العراقي والعربي، تمسك بالشعر، ربما خبا اسمه وخفتت الأضواء التي سلطت عليه في فترة ما، لكنه ظل إلى آخر حياته مؤمنا بقصيدته كطريق للخلاص إلى جمال ممكن رغم الخراب.
1165 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع