بقلم : صباح هاشم الراوي
في محاضرة ألقيت في طرابلس عاصمة ليبيا حضرتها مع جمع من المثقفين الليبين وعدد من شعراء شمال افريقيا عام ١٩٩٩ حول حركة الشعر الحر التي إثراها شعر السياب المنضبط وفق أسس ومعايير بعيدة عن النثر .
وكانت مداخلتي على ما اذكر بقولي بان السياب كان متمكنا من اللغة وكان قادرًا على نظم القصيدة العمودية الا انه أراد ان يتوسع في تعبيره متحررا من القيود الكلاسيكية التي قد لا تساعده عن التعبير عن ما تكنه نفسه بالصورة التي يشعر بها . وقد ضربت مثلا قصيدته العمودية اللتي كان مطلعها .
مرت فلامس شعرها شعري فإذا ألهوا بجوانحي يسري
مرت ولم ارها سوى نبأ عذب البشائر ذاع في صدري
القلب يعرفها بمشيتها بالظل بالانفاس بالعطر
يا ليت شعرينا اذا اعتنقا. عقد فما انفرطا مدى الدهر
بل ليت مسرعة الخطى وقفت. ووقفت حتى ساعة الحشر
ولعل السياب قد تاثر بالشعراء الإنكليز الذي درس أدبهم ووجد في بعظهم حالة التحرر . وقد انتهت المحاضرة باعتبار الشاعر بدر شاكر السياب هو رائد حركة الشعر الحر في العالم العربي . وقد مرت المحاضرة مرورا عابرا ( بعلي احمد با كثير ) باعتباره اول من كتب الشعر الحر . كذلك تطرق بعض المحاضرين الى لويس عِوَض ودرويش ومظفر النواب .
يرجعني هذا الموضوع الى نهاية العام ١٩٧١ حينما التحق بِنَا في السفارة العراقية في الهند ملحقا صحفيا مثقفا وذكيا هو الاستاذ الشاعر كاظم جواد . كان هذا الرجل ذو سعة في الاطلاع الأدبي والثقافي والسياسي . حدثني كثيرا عن بدر شاكر السياب رفيقه في النضال وزميله في الدراسة على الرغم من اختلاف اختصاصها . اذكر انه قال لي بان هنالك فرق زمني يبلغ عشرة أشهر وثمانية وعشرين يوما بين تاريخ قصيدة السياب ( هل كان حبا) وتاريخ قصيدة نازك الملائكة الاولى ( الكوليرا ) وهذا يعني ان بدر قد كتب هذه القصيدة قبل صدور ترجمة با كثير لمسرحية شكسبير وقبل صدور مجموعة الدكتور لويس عِوَض. ومن المعروف انه قد خاض غمار هذا الاتجاه في الشعر الكثير من أمثال المرحومة نازك الملائكه وَعَبَد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور وكاظم جواد الا ان بدرا قد اثرى فيه لذلك اصبح رائدا بامتياز .
*ولد في قرية جيكور المجاورة لابي الخصيب سنة ١٩٢٦ . حرم حنان الأمومة طفلا وذاق مرارة العوز والحاجة لكنه واصل دراسته الثانوية في البصرة والعالية في بغداد. وقد وفد السياب الى بغداد سنة ١٩٤٣ ودخل دار المعلمين العالية فرع اللغة الانكليزية وفي نفس البناية التي درست فيها عام ١٩٦٣ بعد ان أصبحت تسمى كلية التربية . اذكر ان المدرج في الطابق الثاني في قسم اللغة الانكليزية والذي يقود الى الرجل الذي ( يخدر ) الشاي للطلبة والأساتذة أني وجدت كتابة بخط شاعرنا السياب وباللغة الانكليزية (Badir . S . Al- Sayyab department for forgone languages -1944) وفي الفترة ما بين ١٩٤٣ و ١٩٤٨ سنة تخرجه ارتاد ندوات الأدب ونضم الشعر . بعد تخرجه عين مدرسا في الرمادي . اصبح بدر شاكر السياب عضوا في الحزب الشيوعي هو وعمه الأصغر عبد المجيد وخلال الحرب العالمية الثانية كان يقوم بالدعاية للشيوعية (١) والنازية (٢) . اما سبب دعايته للنازية فلأنها كانت تقف ضد الصهيونية والاستعمار الإنكليزي الذي بسط نفوذه على العراق حاله حال كثير من العراقيين اللذين كأنو يهللون لانتصارات الألمان على الحلفاء بغضا للإنكليز خلال الحرب العالمية الثانية . وعلى ما يبدو فان الشاعر كان قد انتظم في صفوف الحزب الشيوعي حال دخوله الجامعة ويذكر ان دار المعلمين العالية كانت حاضنة للشيوعيين الى زماننا . اذكر ان تنظيماتهم كانت مسيطرة على الكلية بين عامي (١٩٦٣ ولغاية تخرجي منها ١٩٦٨) . والسبب في ذلك يعود الى ان معظم طلبتها ياتون من الجنوب ومن عوائل فقيره بسبب وجود أقسام داخلية خاصة بهذه الكلية ورواتب للطلبة بالاضافة الى ضمانة التعيين بعد التخرج . كان بدر ناشطا معروفا ضمن الحركات السياسية الوطنية ففصل من الكلية وسجن . ولما اطلق سراحه عضه الفقر بنابه فعمل مترجما ومحررا في صحف بغداد وتشبث بإشغال احرى سدا لرمقه . كلفت هذه التجربة بدرا معاناة مادية ونفسية ولكنها عادت بالفائده له فهي حولت احساسه الفردي بالفاجعة الى احساس عام . كان الموت فيما مضى موت أمه اما الان فقد اصبح موت الآخرين . كان في الماضي يبحث عن خلاصه وحده اما الان فقد اصبح يبحث عن خلاصه وخلاص الآخرين . ادرك ان فاجعته الخاصة تحولت الى فاجعة شعبه المكبل باتفاقيات استعمارية جثمت على صدره عقودا من الزمن . ونستطيع ان نتبين موقفه هذا من خلال قصائده : ( فجر السلام، حفار القبور ، الأسلحة والأطفال ، المومس العمياء.
(١) وهي مذهب اقتصادي اجتماعي سياسي يهدف الى جعل وسائل الانتاج مشتركة . كما يهدف الى توزيع الممتلكات والمنتجات بحيث يصيب كل شخص حاجته منها وانطلاقا من المبدء الأساسي لهذا المذهب ( كل بقدر قوته والكل بقدر حاجته ) ومن اهم مبادئه القضاء على الطبقية مع تكليف كل فرد القيام بعمل حسب طاقته
(٢) وهي اختصار لعبارة ( الحزب الاشتراكي الوطني الألماني ) اللذي تولى الحكم في ألمانيا ما بين عامي (١٩٣٣- ١٩٤٥) . وقد أسس هذا الحزب الزعيم الألماني أدولف هتلر. يقوم مذهب الاشتراكية القومية او النازية على العنصرية المبالغ فيها حيث انه اعتبر التاريخ ساحة صراع بين السلالات والطبقات العليا والسفلى . ويرى ان تسلط اليهود اللذين يعملون على هدم قوة الامم عن طريق أفكار هدامة كالماسونية هي أساليب قذرة
1195 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع