رواية - حفل رئاسي - ليلة في باريس
فندق الكونكورد وسط باريس، العاصمة الممتدة واسعة على ضفتي نهر السين، يتربع على شارع يؤمه العرب صيفاً، يتخيل الماشي على أرصفته، شارعاً عربياً يتجول بين محاله سائحون فرنسيون وأجانب. حجز فيه حليم الغرفة الممهورة بالرقم (302) بصالة لـها، وحجز حـامد مع عائلته الغرفتين المجاورتين.
كان صيف باريس جميلاً، هواءه منعش فيه قدر من الرطوبة، زخات مطر عبرت بسرعة، زادت من شدة رطوبته، وأعطته نكهة خاصة.
نزل حليم بعد أخذه استراحة بسيطة الى الكافتيريا الموجودة في الطابق الأرضي للفندق، بإطلالتها الفسيحة على الشارع الجانبي، جاء من بعده حامد. جلسا ينتظران معاً مجيء العميد عامر مفوضاً من قبلهم، باختيار المكان الذي اليه سيذهبون، يقضون السهرة في ليلتهم الأخيرة، قبل التوجه الى بغداد، تنفيذا لأمر الاستدعاء.
لقد اختار العميد عامر المكان مطعماً في أعلى برج إيفل على نهر السين، قال أن رواده من الميسورين والسواح، فيه أماكن يستطيع الجالس حول طاولاته الانيقة، أن يتمتع بخصوصية غير موجودة، في المطاعم الأخرى. خيارٌ وافق عليه الضيفان بسرعة، لأنهما يريدان مكاناً يستطيعون في فضاءاته، التكلم بحرية بعيداً عن الأنظار. لكن حليم المعروف ببعض مداخلاته الساخرة، علق على الاقتراح بالقول، لكننا لسنا من الميسورين، وأضاف وهو يهم بالجلوس، حول الطاولة المحجوزة في الركن الغربي من المطعم، لا بأس دعونا نتخيل أنفسنا ميسورين.
يعودون الى الحديث عن موضوع الساعة، فيعود حامد في تصدره النقاش، ويعود أيضاً الى موقفه السابق، بعدم الاتفاق مع الشكوك التي أثارها حليم، حول عملية تنازل الرئيس البكر لنائبه صدام، مؤكداً في كلامه، أني أثق بالسيد النائب، كما أني أعرف الرئيس البكر عن قرب، لقد عملت معه مرافقاً، لفترة من الزمن كافية لتقديم الرأي، والتأكيد على إنه حريص جداً، وعصبي جداً وقد تكون هاتان الصفتان قد دفعتاه الى وضع صحي ألزمه التنازل بالفعل، وأكمل حديثه بالقول الانسان كما تعلمون، معرض للمرض، والبكر انسان قبل أن يكون رئيس، ومادام مرض فالتنازل عن الرئاسة أمر وارد.
لكننا حزب يؤمن بالديمقراطية، وبالانتخاب وسيلة لشغل المناصب الحزبية الشاغرة، والتنازل أسلوب طارئ على الحزب، يثير كثير من علامات الاستفهام، رأي عبر عنه حليم، قبل استعراض الأسماء التي وردت في الاعلام، للقادة والوزراء، كمشاركين في المؤامرة، وأكمل رايه، سأترك لكم كل شيء، سوف لن أثير شكوكاً عن محمد عايش كبير المتآمرين كما يقولون، فهو جريء ولا يقبل التجاوز على النظام الداخلي للحزب. لنفترض أنه سعى الى التآمر بقصد التصحيح، لكن الذي لا أستطيع تصديقه مطلقاً اتهام عدنان الحمداني، وعبد الخالق السامرائي بالتآمر.
فالأول صديق الرئيس، مقرب منه عائلياً، والرئيس معجب بكفاءته في التخطيط، يفترض أن يجعله رئيس وزرائه، فور استلامه رئاسة الجمهورية.
والثاني مسجون في زنزانة سجناً انفرادياً منذ سنوات، بقيّ وحيداً، منعت عنه المواجهة طوال فترة سجنه، كيف دخل له المتآمرون؟.
كيف انفرد بأحدهم ليناقشوا سبل التآمر ووسائله؟.
السامرائي كما هو معروف عنه فيلسوف الحزب، يجادل حتى اثبات الرأي، لا يقتنع الا بدليل منطقي.
كان عامر بطبعه حذراً، تعليقاته قليلة، الا ما يتعلق بعمله الدبلوماسي العسكري في الساحة الفرنسية، قدم بعض الإيضاحات عن استدعاءه الى وزارة الدفاع الفرنسية هذا اليوم، وعن الحاح الوزير تقديم تفصيلات عن المؤامرة.
يجلب حامد الانتباه اليه بتناول قدح النبيذ الأحمر، عندما أفرغه مرة واحده في جوف كان يحتاج المزيد، ولما أعاد وضعه على الطاولة، لإملائه من قبل النادل، قال بصوت فيه حشرجة واضحة، الله يكون في العون، ثم أشار الى ضرورة التهيؤ الى المغادرة، فالساعة قد بلغت الثانية عشر ليلاً بتوقيت باريس، وقد ترك العائلة وحدها في الفندق.
كانت السهرة جميلة، ومع هذا أضافت هموماً، على الهموم التي كانت موجودة من قبل، وفتحت كذلك منافذ قلق جديدة يصعب غلقها، أراد عامر بلباقته التخفيف من وقعها، اذ وبعد إيصالهم الى الفندق، نزل معهم حتى المصعد، ختم توديعه لهم بالقول، لا تعيرون للأمر أي اهتمام، فالجماعة هنا يتمنون للعراق الاستقرار، والتمتع بالثروة وهم في تمنيهم صادقون.
سأنتظركم هنا في باريس عند العودة، وسنقضي سهرة أجمل في مكان آخر، فيه عروض مسرحية تستحق المشاهدة.
ابرقوا لي قبل المجيء، ليتسنى لي انتظاركم في المطار.
تحياتي الى كافة الاخوان في بغداد.
رد حليم على توديعه بالقول، هذا إذا ما بقيّ منهم أحد في مكانه صامداً بوجه الريح.
.......................
تتقدم الطائرة ببطء لتأخذ مكاناً لها على أرض المطار. تحركَ الركاب في أماكنهم وقوفاً، لتناول حقائب يد، حشروها في الرفوف العلوية، لم يمتثلوا الى نداء طالبهم قبل لحظات، بضرورة البقاء فيها حتى توقف الطائرة نهائيا، وإطفاء محاركها الاربعة.
حمداً لله على السلامة، قالها حامد لصديقه حليم، وكذلك لزوجته التي تجلس الى جانبه، فَرَدّا على تحميله السلامة بمثلها، ثم خص حليم بالقول، نلتقي غداً في الوزارة، بحدود الساعة الثامنة صباحاً.
لم يعطِ المضيّف الأقدم إشارة النزول الى ركاب الدرجة الأولى التي تعطى في المعتاد، كمن ينتظر شيئا غير مألوفاً. لكن غير المألوف، هو الدخول المفاجئ لشخص بلباس مدني أنيق، من باب الطائرة الذي أنفتح تواً، يتبعه شخصان، يظهر سلاحهما الخاص من فتحة السترة عند المشي. اتجه مباشرة الى حليم، وكأنه يعرف الشكل جيداً، طلب مصاحبته، ثم التفت صوب حامد قائلاً وأنت أيضاً. رد حامد منزعجاً، لماذا تكلمني هكذا وأنا سفير؟. فطلب منه أمام ركاب الدرجة الأولى، وعائلته أن يحترم نفسه، يأتي معه دون التكلم، ولو بكلمة واحدة، ثم زمجرَ قائلاً، أنت لم تعد سفيراً من هذه اللحظة.
نظر حامد الى زوجته باستحياء، كمن تعمد مسح الإهانة، التي وجهت اليه في موقف بات فيه ضعيفاً، أو أراد القول همساً بالنظرات، التي شعر بعدم امتلاكه سواها، من أنه لا يقبل الإهانة في هذه اللحظة، التي أدرك بحسه الأمني، أنها تمثل نهايته المحتومة... لحظة حرجة، تجمعت خلال أجزاء منها، في خلايا العقل المشحون بالغضب، عشرات الرغبات والأفكار، بينها ضربهما أمام الزوجة التي شعرت بالانكسار، لكن الشابان المسلحان، اللذان يتبعانه أفسد قربهما منه فكرة الضرب، التي استبدلت لا إرادياً بالذهول المغموس بالامتعاض، وإقناع الذات الممزقة أن صاحبها قد أحتج على التصرفات الرعناء، لهذا الانسان غير المؤدب أمام الزوجة، وباقي الركاب الذين وقفوا يسمعون ما يجري، وكأنهم يحيطون خشبة مسرح يمثل عليها شاب متغطرس بلباس السلطة الممنوحة من الدولة الجديدة، وسفير فقد صفته الدبلوماسية تواً، وتحول الى متهم مطلوب تسليمه الى هذه السلطة الجديدة، ومطلوب إثبات وقائع جرمه المشاركة بهذه المؤامرة. ومع هذا فإن القلق الذي هاجمه سريعاً، بات يشده.
لم يعطه فرصة لأن يفعل شيئاً سوى الاستسلام.
حاولت زوجته، وهي في الطريق حاملة ويلات الخيبة، التقدم خطوة من أجل التهدئة، فحصلت على إشارة حازمة بالجلوس، واصطحاب الأولاد الى البيت، وعدم التكلم عن الموضوع مع أي أحد، فاستسلمت مكسورة، كأنها لا تقف على مادة صلبة، وكأن الارض قد هربت من تحت قدميها الراجفتان، قواها الخائرة في داخلها، أعادتها الى مكانها متوسدة الكرسي ذاته.
يخرج السفيران المعتقلان من باب الطائرة، وسط رتل مسير، في مقدمته ذلك الشاب الخشن، وخلفه المسلحان بمسدسات براوننك، يتجه الى سيارة تشبه سيارات الإسعاف، تقف عند سلمها المتحرك، يدُفعون الى داخلها دفعاً، صوب هاوية، كأنها تحت جوف الأرض، وقد انسدت فيها مسامات الحياة. غلقوا أبوابها بزعيق مسموع من ركاب الطائرة، المستمرين بمتابعة المشهد الغريب، ثم انطلقوا بسرعة وطريقة، تشبه تلك التي تحصل عادة في عمليات الخطف، أو في أفلام هوليود متقنة الاخراج.
أخي قال حامد، موجهاً كلامه الى الشاب صاحب البدلة الزرقاء، ممكن أعرف لِمَ هذا الاجراء، ونحن سفيران حضرا الى بغداد بناءً على استدعاء الخارجية.
رد عليه بعنف أخرق، أي واحد منكم يحاول الكلام، كلمة واحدة فقط، سيتلقى ضربة على فمه العفن، قال الشاب الجالس بمواجهة حامد، وقد أستثار انفعالاً بما يكفي لبدء جولة ضرب فعلية، بدأها بعقب مسدس استله سريعاً من بين حزامه، ألقاه بقوة على رأس حامد، فتح به جرحاً عميقاً، تدفق من بين أوردته الممزقة دماً قاتماً، ممزوجاً بمركبات حنق أسود، انساب سريعاً على وجهه المتحفز، ثم نزل كذلك سريعاً الى البدلة الرصاصية، التي اصطبغت باللون الأحمر، أحس بسببه ألماً، لم يحسه طوال حياته، وشعوراً بالمقت لم يشعره من قبل.
يعم الصمت بعد أول جولة ترويع، أصابتهما معاً، كادت تعطل في داخلهما سير التفكير، لكن حامد المعروف بجرأته وجسارته، لم يخضع الى أساليب الترويع هذه بسهولة، كما يعتقد الضابط الشباب، فحاول مداراة قلقه، وبؤسه الناتج عن هذا الموقف المفاجئ، فلم يجد سوى عبارة قالها، والشك يملئ مخارج حروف، لم تعد تخرج من الفم المليء بالدم بالشكل المعتاد:
هل تذهبون بنا الى المخابرات؟. وهل للسيد أبو محمد علم بما يجري؟.
أسئلة غير مترابطة، كأنه أراد من توجيهها، تذكير هذا الشاب الذي خمن أنه ضابط في جهاز المخابرات، بأصوله الحزبية، وبقربه من المسؤولين، وفي حقيقة الأمر، كانت محاولة لا ارادية لتذكير النفس بالماضي، أملاً في تخفيف القلق البائن على قسمات الوجه الحنطي... محاولة لم تجدي نفعاً مع ضابط مخول باستخدام القسوة بداية المشوار، فكانت ردة فعله صفعة على الوجه، أوقعت نظاراته الطبية بين ارجله المتهالكة، وأسكتته في الحال، وكأن صخرة هوت على رأسه الحاسر، عززت في داخله الرأي بأنهما يتوجهان الى مصير مجهول.
تستمر السيارة في انطلاقها مسرعة على شارع المطار، أعطى الشاب إشارة الى مساعديه لعصب عينيهما، بقطعتي قماش أسود مخصصة لهذا الغرض، عندها أدركا كل على انفراد أن تصورهم عن الاستدعاء كان خطأ، والخوف من الغدر، كان هو الصحيح، فاستسلما لأفكار أخرى، تتعلق بالتهمة التي تنتظرهم جاهزة مثل غيرهم من الرفاق.
حاول حليم استجماع قواه لاستيضاح الموضوع من داخله، بعد أن يأس من الحصول، ولو على إشارات بسيطة من الضابط الشرس. لكنه وبعد جولة سريعة في الماضي، واستذكار خدمته العسكرية في الحرس الجمهوري قريباً من البكر، وقيادته لواء مدرع في حرب تشرين، ووجود تيار عسكري يريد ازاحته من الساحة، تيقن بعدم الحاجة الى التأمل أو التفكير، وآمن بوضوح الصورة التي تتمثل بحشره، وبعض الزملاء في الصف المعادي للحزب والثورة، قال عنها في داخله الموجوع، انها النهاية التي لم أكن أتوقعها، عندما انتظمت في صفوف الحزب عام 1957، وانقطعت عنه، ومن ثم عدت الى صفوفه بعد عام 1968، والى حد استلامي منصب سفير قبل حوالي سنة من الآن.
أي نهاية تعيسة هذه يا الهي على يد الرفاق؟.
قطعت السيارة المسافة من المطار الى المبنى التابع للحاكمية الخاصة بالمخابرات في أقل من ساعة، مرت وكأنها عام طويل من الحزن، حتى لم يحس حامد بركلة تلقاها، مع دفعه الى الزنزانة الانفرادية التي أعدت على عجل.
وقف وسطها متفحصاً ذلك الحائط الكونكريتي المدهون باللون الأحمر.
أتم الفحص، جلس متكئاً على حافته الرطبة، وجهه الحنطي بقيّ مكفهراً أصبح لونه داكناً كلون الرمل الآتي من شواطئ دجلة.
تذكر تاريخه الطويل، حاول الندم، فمنعتهُ فكرة جاءت من أعماق الذاكرة، تحوم حول ورود الحشر وهماً، أو نكاية من أحد المغرضين، إذ لم يعرف حقاً أي شيء عن الموضوع، حصل عندها على ومضة راحة، كأنها نسمة هواء بارد ظهر يوم قائظ، لم تدم طويلا، فهواء الغرفة الساخن، نقله الى موجة حزن أخرى، باتت تعصره حد الهذيان.
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/36574-2018-08-15-16-37-14.html
3452 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع