قصص عن حياة الروس في ظل الستالينية
ايلاف/حسونة المصباحي:ضمن سلسلة "آفاق عالمية"، صدرت عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآدب مختارات من قصص الكاتب الروسي ميخائيل زوشينكو(1894-1958). وقد قام المصري يوسف نبيل بساليوس بنقل القصص الى العربية باذلا جهدا واضحا لتكون الترجمة عاكسة لروح النص، ولأسلوب الكاتب المفعم بالمرارة والسخرية. ومن خلال هذه المختارات، يمكن للقارئ العربي أن يكتشف كاتبا روسيا كبيرا لا بزال مجهولا في الثقافة العربية ربما لأن أجهزة الدعاية الشيوعية خصوصا في الفترة الستالينية، وحتى بعدها، تعاملت معه بجفاء وقسوة لأنه لم يكن خاضعا ل"الواقعية الإشتراكية"، ولنواميس ما كان يسمى ب"البطل الإيجابي". فكان مصيره الإهمال والملاحقة من قبل أجهزة الرقابة تماما مثلما كان جل الكتاب والشعراء الذين لم يتفاعلوا تفاعلا إيجابيا مع الثورة البلشفية، بل انتقدوها، وفضحوا عيوب زعمائها دافعين الثمن غاليا بسبب ذلك.
وقد عاش ميخائيل زوشينكو طفولة شقية إذ فقد والده وهو لا يزال صبيا. لذلك أصيب مبكرا بحالة من الإكتئاب كانت تخف حينا، ثم لا تلبث أن تعود بأكثر شدة وضراوة لتغرقه من جديد في كوابيس سوداوية. وفي سنوات شبابه، أنتسب إلى مجموعة أدبية أطلقت على نفسها إسم :"الإخوة سيرابيون". وهي مجموعة كانت متأثرة بالكاتب الألماني أ. هوفمان. وكان هدفها ابتكار أساليب واقعية تخضع للتجريب الشكلاني الحديث، وترفض القوالب الإيديولوجية الجامدة، والالتزام السياسي. وفي أواسط الثلاثينات من القرن الماضي، وتحديدا خلال الفترة التي شن فيها ستالين هجومات عنيفة على خصومه داخل الحزب البلشفي، رفضت الرقابة اصدار مجموعة قصصية لزوشينكو بسبب سخريته من مظاهر الحياة اليومية في روسيا في ظل الشيوعية. وخلال الحرب العالمية الثانية، أصدر زوشينكو رواية بعنوان :"قبل شروق الشمس"، وفيها سبح ضد التيار العام، أي ضد تيار الأدب الواقعي الإشتراكي الذي كانت مهمته في تلك الفترة التغني بأمجاد الجيش الأحمر، ورسم صورة مشرقة لبطولاته على مختلف جبهات القتال. وفي روايته المذكورة، يستعيد زوشينكو ذكريات طفولته المعذبة، محاولا أن يرصد الأسباب التي أدت إلى أصابته بالإكتئاب. ونحن نعثر في هذه الرواية على تأثيرا كتاب طلائعيين كبار من غير الروس أمثال مارسيل بروست، وجيمس جويس، وويليام فوكنر. وبعد الحرب العالمية الثانية، عادت أجهزة الرقابة لملاحقة زوشينكو من جديد. وبتأثير منها تمّ فصله من اتحاد الكتاب السوفيات. ولمواجهة الظروف المعيشية الصعبة، كان عليه أن يقوم بترجمة أعمال أجنبية. ورغم أن السلطات الشيوعية أعادت إليه شيئا من الإعتبار بعد ذوبان الجليد الستاليني في نهايات الخمسينات من القرن الماضي، فإن زوشينكو ظل يوجه ظروفا صعبة في الحياة، كما في مساره الأدبي. وفي صيف عام 1958، توفي بسكته قلبية، ورفضت السلطات في مدينة لينيبنجراد (بطرسبورغ راهنا) دفنه في المقبرة المخصصة للكتاب .
وتتميز قصص زوشينكو بتلك السخرية المرة واللاذعة التي تميزت بها قصص غوغول. كما أن صاحبها اختار الدقة والإختصار في سرد الأحداث ووصف الشخصيات مثلما كان حال تشيكوف. وأما أجواء القصص فلا تكاد تختلف عن تلك الأجواء الكابوسية التي رسمها بولغاغوف صاحب رائعة "المعلم ومارغريت" في يومياته التي وصف فيها حياة الروس بعد سقوط النظام القيصري، وصعود البلاشفة إلى السلطة. وقد اختار زوشينكو أن تكون قصصه بسيطة لكنها موحية ومعبرة بشاعرية مؤثرة عن الحياة اليومية في بلد يعيش تحولات خطيرة، وبواجه أهله الجوع، والعنف، والنزاعات الدموية بين البلاشفة والمناشفة. وجميع القصص تفضح أكاذيب البلاشفة، ووعودهم المزيفة. فالمليشيات التي كونوها بهدف حفظ النظام تنهب أرزاق الناس، وتستغل ظروفهم المعيشية الصعبة لتعذيبهم، واذلالهم، واخضاعهم لقوانين أشد اجحافا وقسوة من قوانين الحكم القيصري. وبعد مصادرة أملاك وبيون وقصور المناصرين للنظام القيصري، يجبر الناس على الإقامة في غرف ضيقة، ويتقاسمون مطبخا واحدا، تكثر الخصومات بينهم، وبعضهم يصابون بالإكتئاب أو بالجنون. آخرون يفضلون التسكع في الشوارع في الليالي البارد على العودة إلى تلك الغرف الضيقة والنتنة. حتى المقعدون والمصابون بأمراض مستعصية لم يسلموا من تلك المآسي المسلطة على الناس يوميا. ويمشي أحدهم في الشارع فلا يرى غير وجوه عابسة، وأناس في حالة من التوتر الدائم. كل واحد منهم ينظر إلى الآخر كما لو أنه عدو لدود لن يلبث أن بنقض عليه. ويسخر زوشينكو من انجاز كان يفاخر به البلاشفة، أعني بذلك توفير الكهرباء لجميع المناطق بما في ذلك الأرياف، والقرى النائية. وفي قصة "الفقر"، نحن نعاين أن الروس الفقراء لم يبتهجوا كثيرا بالكهرباء إن أن النور المبهر كششف فقرهم أكثر من ذي قبل. ها هم ينفرون من النظر إلى ملابسهم الوسخة، وإلى أسررتهم المهترئة، وإلى العناكب ،وإلى البق. ل>لك تصرخ سيدة قائلة بأنه لا تريد أن تنير غرفتها حتى لا تتأكد أنها تعيش فقرا مدقعا أشد من كل أشكال الفقر التي عشتها قبل ذلك. وفي قصة "الكلب المدرب"، يكتري أحدهم كلبا لكي يكشف عن اللص الذي سرق معطفه. وفي النهاية يجد نفسه مجبرا على الإعتراف بأنه اختلس المعف ما أخيه. أما المحقق فيجثو على ركبتيه أمام الكلب ويقول : "عضني أيها الكلب... إنني أحصل على ثلاثة قطع من فئة العشر روبلات لأجلب لك طعامك...لكنني أحتفظ باثنين لنفسي"...
864 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع