هبة شريف تؤكد أن رواية "جندي السلحفاة" للكاتبة السويسرية مليندا نادج ابونجي رواية بديعة، حيث تعرض طريقة إستقبال مختلفة للعالم وحروبه وجيوشه.
مليندا أبونچي تحكي عن الخيال الذي يقاوم بنعومة قيود النظام الذي لا يعرف سوى الأوامر والطاعة والخضوع
الرواية تحكي من منظورين: منظور الشخصية الرئيسية الأولى، زولي، ومنظور ابنة خالته: هانا، التي تحاول أن تستعيد سيرة زولي
أكدت الكاتبة والأكاديمية المتخصصة في الأدب المقارن، والأدب الناطق بالألمانية د.هبة شريف أن "جندي السلحفاة" للكاتبة السويسرية مليندا نادج ابونجي رواية بديعة، حيث تعرض طريقة إستقبال مختلفة للعالم وحروبه وجيوشه من وجهة نظر شاب مختلف التفكير عن محيطه يجعلنا نعيد النظر في مفهوم الإعاقة الذهنية.
وقالت إن مليندا أبونچي تحكي عن الخيال الذي يقاوم بنعومة قيود النظام الذي لا يعرف سوى الأوامر والطاعة والخضوع. وتعرض كل ذلك في لغة موسيقية ذات رنين، مستخدمة صوراً تلح علينا وتوقظ أفكاراً غير مألوفة وفوضوية.
"جندي السلحفاة" التي ترجمتها شريف وصدرت أخيرا عن دار تنمية تكشف أن الرواية تعكس منطق العنف الذي يسكن نظام العالم، وكيف تعتمد حكومات الشعوب على العنف في سياساتها، وكيف تكرس هذا العنف عن طريق تربية الناس على الطاعة في جميع مؤسسات المجتمع بدءاً من الأسرة ومروراً بالكنيسة وحتى باقي مؤسسات الدولة الإعلامية والسياسية. تقنع الحكومات شعوبها بالعنف عن طريق إيهامهم بأن الحرب ضرورة لتحقيق السلام، في حين تكون هي البادئة بالحروب.
ورأت شريف أن الروائية السويسرية مليندا أبونجي استطاعت أن تنتقد منطق سياسة العنف من خلال تصويرها لفترة تاريخية في بلدها الأصلي يوغوسلافيا أثناء الحروب الأهلية وقبل تقسيمها. وقالت "لا تعرض الكاتبة آراءها بشكل مباشر ولا دعائي، وإنما تستخدم لغة موسيقية شاعرية تصف بها العنف الذي غلّف حياة الأشخاص في تلك الفترة في تاريخ البلد الذي كان اسمه يوغوسلافيا، ومن هنا كانت المفارقة التي لا تجعل القارئ ينفر من متابعة القراءة".
وأضافت أن الرواية تحكي من منظورين: منظور الشخصية الرئيسية الأولى، زولي، والذي تمثل مسيرة حياته التي تعرض فيها لعنف المجتمع من جميع مؤسساته وأفراده، ثم منظور ابنة خالته: هانا، التي تحاول أن تستعيد سيرة زولي، وتستعيد معها هذه الفترة من تاريخ يوغوسلافيا لتحاول أن تفهم سبب كل هذا العنف في الحروب الأهلية.
تدور الرواية حول الشاب "زولتان كيرتيز"، أبوه "نصف غجري" وأمه عاملة باليومية ولها عشاق يتغيرون باستمرار. يعيش في قرية صغيرة في صربيا غير مندمج في المجتمع. في طفولته وقع من فوق الدراجة النارية التي كان يقودها أبوه بسرعة عالية. ثم ضربه الخباز ضرباً شديداً فوق رأسه لأنه لم يكن ينقل جوالات الدقيق في المخبز بسرعة كافية. منذ هذا الوقت بدأ زولتان يعاني من "رفة في رأسه"، ثم بدأ يفضل البقاء وحده في مخزن الغلال يحل الكلمات المتقاطعة. وعندما اندلعت الحرب في يوغوسلافيا في عام 1991، فكر أهله أن الحرب قد تكون فرصة لابنهما: ففي الجيش الشعبي في تسريانين يمكن أن يتحول "الأبله" "عديم النفع" إلى جندي ثم إلى بطل. ولكن زولتان لم يناسبه نظام الحياة العسكرية، فكان يطرح أسئلة في غير محلها، وفوق ذلك كان يتلعثم وهو يطرحها. سقط صديقه الوحيد في الجيش يينو ميتاً أثناء أحد التدريبات الفارغة من المعنى والتي يقال عنها إنها تصقل الرجال، منذ تلك اللحظة رفض زولتان الخضوع لأي نظام يسمح باستغلال من هو أقوى للسلطة.
وقد خصتنا د.هبة شريف بمقال ترجمته للناقد والصحفية الألمانية كريستينا مايت - تسينكه حول الروائية مليندا أبونچي وروايتها "جندي السلحفاة" التي نشرة في برلين 2017 عن دار نشر زوركامب، قالت كريستينا في مقالها المعنون بـ "شاعرية المقاومة الناعمة":
(في عام 2011 مُنحت جائزة الكتاب الألمانية لأول مرة لكاتبة سويسرية هي مليندا نادي أبونچي. ولدت أبونچي في عام 1968 في منطقة تتبع حالياً صربيا وكانت من الأقلية المجرية التي تعيش هناك. عندما بلغت الخامسة من عمرها، هاجرت مع أبويها إلى زيوريخ في سويسرا. كانت قد نالت الجائزة عن روايتها "الحمام يحلق بعيداً" التي تقص فيها عن المكان الذي قضت فيه طفولتها والذي تشعر بالحنين إليه. كما تقص أيضاً عن مشاكل الاندماج في المجتمع السويسري التي عانت منها عائلتها. هربت عائلتها من الحرب في يوغوسلافيا إلى سويسرا، هذا البلد الاتحادي الذي يحتفظ الناس بصور شاعرية عنه وعن نظافته. خصصت أبونچي عملها القصصي الجديد "جندي السلحفاة" لتحكي عن بطل – أو بالأحرى بطل ضد - سوف يذكره تاريخ الأدب بوصفه شخصية أدبية لا تُنسى، إن لم يصبح شخصية أدبية خالدة".
وعن الرواية أضافت كريستينا "تدور أحداث هذه الرواية أيضاً في المكان الذي نشأت فيه مليندا نادي أبونچي في مقاطعة فويفودينا. تعود بداية الأحداث إلى عام 1991 عندما اندلعت الحرب. زولتان كيرتيز، ويطلقون عليه زولي، أبوه نصف غجري وأمه عاملة باليومية - ولد ونشأ في الريف في ظروف فقيرة. يعتبر الناس نموه العقلي متأخراً، ولكنه في الحقيقة شخص شديد الحساسية وغير مندمج في المجتمع. إنه شخص حالم يملك موهبة الخيال ولا تناسبه بيئة القرية بفجاجتها، كما لا يناسبه بيت أهله المليء بالحزن والذي دمره إدمان الكحول والشعور بانعدام الفرص في المستقبل.
وأوضحت "أكثر مكان يحب زولي التواجد فيه هو الحديقة، حيث يتحدث مع الأشجار والأزهار، ومع كلبه تانجو. يخترع زولي كلمات متقاطعة يفكك معها الكلمات إلى أجزاء، وهكذا يحاول أن يضفي على العالم الصعب الإدراك بالنسبة له شيئاً من التنظيم. يرتبط زولي بصداقة رقيقة مع ابنة العمة هانا التي هاجرت إلى سويسرا والتي نتعرف فيها على الصديقة المقربة للكاتبة. بعد أن مات زولي في شبابه تسافر هانا إلى صربيا وتحاول فهم خلفية موته المحزنة. صوت هانا هو ما يقص الرواية من وجهة نظرها ويعكس في نفس الوقت صوت بطل الحكاية الواعي تماماً بإعاقته واختلافه عن الآخرين، فيحكي عن حياته في لغة شاعرية خاصة به وحده تتلامس في كثير من الأحيان مع السوريالية).
ولفتت كريستينا إلى أن زولي بدأ يعاني من نوبات الصرع بعدما ضربه الخباز ضرباً مبرحاً كاد أن يقضي عليه، وهكذا أصبح غير صالح لأي شيء. وأبواه، لأنهما جاهلان ولا يملكان من أمرهما شيئاً، أرادا أن يصنعا من ابنهما "رجلاً حقيقياً"، فيرغماه على التطوع في الجيش. هناك يحاول أن ينقذ نفسه من مصير مظلم عن طريق استلهامه طريقة السلحفاة في التردد والتراجع. ولكن لأنه شخص نقي ورقيق ومغفل وأحمق، تقضي عليه الآلة العسكرية التي عذبته بما تحويه من تنمر ومهانة. بعد أن لقيَ صديقة الوحيد يينو مصرعه أثناء أحد التدريبات القاسية ينهار زولي تماماً ويتم تسريحه من الجيش بوصفه مجنوناً لا سبيل لشفائه، ويموت بعد ذلك بفترة قصيرة أثناء إحدى نوبات الصرع.
وقالت إن مليندا أبونچي "تعرض في روايتها الوجه الآخر للعنف وبنائه الداخلي، هذا العنف الذي يؤدي عمله المدمر على جبهات الحرب، إلا إنها توضح أيضاً منهج كل الحروب، وطريقة عمل الروتين المتبلد الحس الذي يستند عليه التسلط والخنوع، الأوامر والطاعة، وتشرح كيف إن كل ذلك يمكن أن ينتج في المقابل وبدون قصد عنادا ذا لغة مبتكرة وخيالاً مقاوماً. صحيح إن هذا الثائر الذي يحمل روح الأطفال ينتهي نهاية مأساوية، إلا إن مليندا أبونچي – الكاتبة والفنانة الموسيقية - استطاعت أن تمنحه صوتاً وأن تُكسبه لغة موسيقية مؤلفة خصيصاً من أجله (إنه تحدٍّ جميل للمترجمين) وبهذا استطاعت الكاتبة أن تقيم نصباً تذكارياً يخلد كل المندمجين والمنعزلين اجتماعياً في هذا العالم. وفي نفس الوقت تعتبر هذه القصة المؤثرة أثراً باقياً يشهد على بلد تداعى ووطن ضاع".
861 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع