العربي الجديد/عباس بيضون*:الآن نفكّر بـ بيروت على أنها تجربة انتهت أو تكاد. ما كان نمطاً للحياة وطريقة عيش أو ثقافة مجتمع على حافّة الزوال، إن لم يكن جزءٌ كبير منه زال فعلاً. بيروت هي اسم آخر للبنان، وهي بالتأكيد عنوان ما كان تجربة فريدة في المنطقة. تميّزها الظاهر كان يستفزّ المنطقة أو يجتلب احتفالاً وانبهاراً بها. كانت بيروت، ولبنان من ورائها، هي المثال والنموذج بقدر ما كانت الشيطان والآخر المرفوض.
يمكن القول إن لبنان وحده، قبل سقوط فلسطين أو بعده، بلد غير إسلامي. لا لأنه، فحسب، بلد يضمّ أقلّية مسيحية وازنة بالإضافة للأغلبية المسلمة، بل لأنه البلد الذي تشكّل الأقلّية المسيحية فيه ركنه ومصدر نموذجه ومشروعه، بحيث يبدو نموذجه متّصلاً، في الأساس، بوجود هذه الأقلية وتطوّرها وموقعها. ما كان موسوماً به من التوسّط بين المنطقة والخارج الغربي، وما يبدو كذلك مجاورة ثقافية للغرب في المنطقة، وما استتبعه من نظام سياسي متعدد ومن اقتصاد للخدمات، لم يكن لولا ما جرّته تطورات المنطقة، من احتلال فلسطين واكتشاف النفط وقيام أنظمة عسكرية على رأسمالية الدولة التي جرّت خروج رساميل البلدان المحيطة، ونشوء اقتصاد خدمات قوي في لبنان.
يمكننا لذلك أن نتحدّث عن مرحلة زاهرة في تاريخ لبنان، كانت مع ذلك قصيرة، إذ ساهمت الحروب الأهلية المتوالية في تقصيرها، كما ساهم نشوء اقتصاد موازٍ في دول النفط خصوصاً، وتطوّرات المنطقة في إعاقتها، بحيث إننا الآن على وشك انهيارها. إذا كان الاقتصاد قد تغيّر إلى أمد غير منظور، فإن النظام السياسي لم يعد هو نفسه، ولا بدّ من أن الثقافة تتلقّى نتائج هذا الانهيار، وإن تكن ملامح ذلك لم تتجلّ.
هذه المقدمة قد تكون ضافية، وقد تكون أكثر ممّا يجب لتقديم رواية لينة كريدية التي صدرت عن "دار النهضة اللبنانية"، دار كريدية التي هي أيضاً ناشرة، بعنوان "غانيات بيروت". الرواية لا تحمل في عنوانها فقط اسم بيروت، بل تصدر بتواقُت مع الانهيار الحالي، ومن الطبيعي أن تردّ، على نحوٍ ما، إليه. لكن الرواية، كما ينمّ عنوانها المفاجئ، تردّ القرّاء إلى غير زمن صدورها.
العنوان يحمل تلميحاً نقديّاً، لكن لا ندري مع ذلك إذا كان سلبياً أو إيجابياً. الغانيات اسم آخر لبائعات اللذّة أو المومسات، واستدعاء هذا الاسم في الرجوع إلى المرحلة اللبنانية الزاهرة قد يبدو، لأوّل وهلة، وصمة، نفهم مرجعها. فلبنان، البلد غير الإسلامي، كان لفترة موصوماً، في نظر المحيط الإسلامي، بما يوصم به الغرب، أي الحرّية الجنسية وما يستتبع ذلك من إباحة تصل إلى حد الدعارة، رغم أن ذلك لم يكن خاصّية لبنانية، إذ تُشارك فيه أقطار عربية أخرى، إلّا أنه كان، في قرارته، تشهيراً بما اعتُبر مظهراً غربياً غير إسلامي لبيروت ولبنان. إنه وصمة بالدرجة الأولى.
الصورة
رواية غانيات بيروت - القسم الثقافي
بيد أننا في رواية لينة كريدية لا نشعر بأنه كذلك. ليست الدعارة موضوع رواية كريدية كما يستشفّ من عنوانها، إذ إننا نجد قلّة من نساء الرواية تمارس الدعارة، وقلّة من رجال الرواية يمارسون القوادة. الرواية ليست، إذاً، كما يدلّ عنوانها، رواية دعارة. يمكن القول إن رجال الرواية هم الداعرون أكثر مما هن نساء الرواية. لكنّ ما يسِم نساء الرواية، غالبيتهنّ على الأقل، هو الفتنة والجمال. هنا نفهم أنهنّ غانيات لا لممارستهنّ الدعارة، لكن لاعتدادهنّ بجمالهنّ، وأحياناً لتسويقهنّ إياه، واعتبارهنّ له امتيازاً يمكن الاعتماد عليه في طلب العيش وبناء المستقبل. يمكن أن نفهم من ذلك أنّ الدعارة ليست هي المقصودة بتسمية "غانيات"، وإنما الاعتداد بالجمال والاتجار به هما ما يجعلانها تستحقّ هذه التسمية.
نعود إذاً إلى لبنان الزاهر، لبنان الخدمات والسياحة والتعدّد، لكنّه أيضاً ليس لبنان الأجانب من عرب وغير عرب، كما أنه ليس لبنان الوافد من الجنوب ومن الأطراف. إنها بيروت التي تستحقّ اسمها، بيروت البيارتة العريقين، البيارتة الأصلاء إذا جازت التسمية، البيارتة الذين كانوا يصعدون مع بيروت التي، في صعودها، اختزلت لبنان.
إنهم البيارتة الأصلاء، لكنهم أيضاً الطبقة الصاعدة في لبنان كله، الطبقة المتوسّطة لكن الصاعدة إلى فوق، الطبقة التي هي التجّار، لكنها أيضاً اصحاب الشركات، وهي في الوقت نفسه طبقة الصحافيين والأدباء والأطباء وأساتذة الجامعة. لكلّ من هؤلاء قصّته بحيث تستحيل الرواية إلى لمام من القصص القصيرة، وبحيث نجد فيها الصعود اللبناني، الذي ينبغي، أو نحن مضطرّون إلى ذلك، أن نقارنه باليوم الراهن الذي يطل من خارج الرواية، لكن في موازاتها، بحيث نقرأ رواية ونحن نرى خارجها بيروت اليوم، وبحيث تستحيل قراءتنا قراءة مزدوجة. بيروت وما وراء بيروت وما أمامها.
* شاعر وروائي من لبنان
859 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع