الأندبيندت / كريم الحلو:خلال القرنين الأخيرين كان هناك نقاش حاد حول معنى ما كتبه ابن خلدون وأهميته، فهل كان أول عالم اجتماع في العالم، وهل ثمة مبالغة في إبداعه؟ هل نظريته في التاريخ مدينة لقواعد الفلسفة اليونانية؟ وهل كان الإسلام جوهرياً في فكره التاريخي وبأي طريقة؟ وهل ينطبق نموذجه لنشأة السلالة الحاكمة وسقوطها خارج المغرب؟
هذه بعض الأسئلة التي حاول المعلقون المعاصرون الإجابة عنها، فثمة مئات، بل آلاف الأبحاث التي تناولت ابن خلدون وأفكاره التي تحتمل تأويلات كثيرة. ويرجع ذلك إلى أنه لم يعبر عن نفسه بوضوح كما يرى روبرت إرون في "ابن خلدون، سيرة فكرية" ترجمة عبد الله مجير العمري، مركز دراسات الوحدة العربية. أما السرد السريع والمتعارف عليه لحياة ابن خلدون وكتاباته، فلا يمثل الحقيقة بأكملها، ويبدو للمؤلف أن أجيالاً من الباحثين قرأوا ابن خلدون وعندما وصلوا إلى الفصول الأخيرة من "المقدمة" كانوا حذرين في استنتاجاتهم. خصوصاً أن الكتاب اختصر واختيرت مختارات منه، كما أن أفكاره عقلنت وحدثت. وكان هناك ميل واع أو غير واع منذ القرن التاسع عشر لجعل فكر ابن خلدون غربياً، ولتقديمه كسابق عصره في أفكاره، ضمن سلسلة مفكّرين غربيين بارزين مثل مكيافيلي وهوبز ومونتسكيو وفيكو وماركس وفيبر ودوركهايم.
"المقدمة" التي أدهشت الغرب
لكن عالم ابن خلدون يرتبط بالقرآن و"ألف ليلة وليلة" أكثر من ارتباطه بالتأريخ الحديث أو علم الاجتماع. وعلى الرغم من أن ما قاله هذا المؤرخ عن نشأة السلالات الحاكمة في شمال أفريقيا وسقوطها ودورات النخب القبلية أمر شائق، فإنه لا علاقة له بزمننا المعاصر. لكن ذلك لم يحل دون وصف المؤرخ أرنولد توينبي "مقدمة" ابن خلدون بأنها أعظم عمل من نوعه ألف في أي زمان ومكان على الإطلاق.
ولد ابن خلدون في تونس سنة 1332في أسرة من العلماء والإداريين. كان والده عالماً وفقيهاً، وأجداده يتباهون بأن نسبهم يعود إلى قبيلة كندة في حضرموت، وأنهم جاءوا إلى أشبيلية أيام الفتوحات الإسلامية وفروا منها قبل استعادة الإسبان لها، ثم استقروا في أفريقيا ورحب بهم حكام تونس وفاس. تعلم ابن خلدون في صغره على يد والده وأصدقاء عائلته، ودرس الفقه وعلم الكلام والعلوم العقلية، وأصبح على دراية جيدة بكتابات فخر الدين الرازي المتكلم والمفسّر المعروف من القرن الثاني عشر. تنقل من مدينة إلى أخرى، ومن حاكم إلى آخر، وتبوأ مناصب إدارية عدة، كما عمل كاتباً. بدا في بعض الأحيان أنه القوة الكامنة وراء الحاكم، وفي أوقات أخرى كان في السجن أو كان هارباً. وكان كذلك عميلاً بيروقراطياً، إذ عمل في مجالات خطيرة كان الموت فيها عقوبة للإخفاق السياسي.
وكان الابتزاز أمراً روتينياً وسجن العلماء أمراً مألوفاً، فمعظم الحكام والقادة العسكريون ماتوا بالتعذيب أو اغتيلوا، وقد تجاوز ابن خلدون هذه المكائد وبقي على قيد الحياة بالتملق إلى الحكام والتقرب منهم. حتى أنه أثنى على المماليك واعتبرهم هدية من الله لخلاص الإسلام، والتقى تيمور في دمشق وكال له المديح والتعظيم، وتملق إليه تملقاً شديداً. تأثر ابن خلدون بالأعمال التاريخية لمؤرخي القرنين الرابع عشر والخامس عشر كابن الخطيب والمسعودي والمقريزي، ولكن هؤلاء لم يعتقدوا بتطور الإنسانية، بل كانوا ينتظرون من الله أن يعلن نهاية الزمن. ولم يتوقع ابن خلدون أن يتحسن العالم، ولم تكن لديه آمال نحو المستقبل، بل إن التطورات الاجتماعية أو إرادة الله هي التي تقرر عنده مصير السلطات الحاكمة والمدن والقرى.
السمات الرئيسة في فكره
عام 1375 قرر ابن خلدون اعتزال السياسة وأقام في قلعة بني سلامة في الجزائر أربع سنوات من أجل التفرغ لكتابة "المقدمة" و"كتاب العبر" اللذين توسعا ليصبحا تحليلاً شاملاً للحضارة والتنظيم الإجتماعي. كان عمله طموحاً جداً، وقد عبّر عن ذلك بقوله: "أعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة غريب النزعة عزيز الفائدة، عثر عليه البحث وأدى إليه الغوص". فما هي السمات الأساسية التي ميزت الفكر الخلدوني كما استنتجها المؤلف؟
أ- رأى ابن خلدون أن سكان الصحراء يتمتعون بصحة أفضل من أهل الحضر، وهم أكثر اعتدالاً وحرية وشجاعة وأكثر ميلاً للخير، لأنهم أقرب للفطرة، وبعيدون عن عادات الشر التي أصابت أهل الحضر.
ب- انصب اهتمام ابن خلدون على "العصبية" (وردت 500 مرة في المقدمة)، وتعني عنده نوعاً من التضامن الجماعي والولاء القبلي يعطي القوة للقبيلة والأمان للشخص المنتمي لها. والقائد الذي يتحكم بمجموعة متماسكة بعصبيتها قد ينجح في تأسيس سلالة حاكمة، ويكسب الملك له ولعائلته. أما الدين فيدعم العصبية، ويرغب فيه الفاتحون والغازون من أجل إطاحة نظام حكم قديم وتأسيس نظام حكم جديد.
ج- غاية ابن خلدون الرئيسة في المقدمة لم تكن تقديم نفسه مؤسساً لعلم الاجتماع، بل إظهار كيف أن التاريخ الإسلامي هو نتيجة لعدم توافق أحكام الشريعة مع الأهواء البشرية المخطئة. ولما لم تكن البشرية تتّبع أحكام الشريعة، فإنه محكوم عليها بدورة غير منتهية من الصعود والسقوط. فاتباع الشريعة عن قرب فحسب، هو الذي ينقذ الناس من الصعود والسقوط الدوري للأنظمة الحاكمة.
د- يعتقد ابن خلدون أن الترف والرفاهية يؤديان إلى السقوط والانهيار وأن "حياة أهل الحضارة تمثل المرحلة الأخيرة من الحضارة، وتبدأ الأمور بالاضمحلال"، لتصعد مكانها حضارة أخرى في دورة متواصلة تفضي إلى تعاقب السلالات الحاكمة.
ه- نظر ابن خلدون نظرة قاتمة نحو المجتمع والسياسة، ولم يسع إلى برنامج إصلاحي أو إلى "مدينة فاضلة"، ورفض استخدام العقل في الأمور الإلهية لأن للعقل البشري حدوداً، كما دان المنطقيين لأن أفكارهم مخربة للدين والمجتمع، ولأنهم يبحثون في ما لا يمكن الغوص فيه.
و- كان ابن خلدون أشعرياً، فالقانون الإلهي عنده هو القانون الوحيد في الكون. من هنا تأييده للغزالي في التركيز على القدرة الكلية لله، وفي دحض أفكار الفلاسفة.
كيف رأى الباحثون إلى فكر ابن خلدون ومقدمته؟
اهتم الباحثون الغربيون بابن خلدون، فوصفه الباحث الفرنسي غوتييه بالعظيم الذي يسحق الجميع بعظمته، إذ كانت نظرته إلى التاريخ نظرة غربية، وكان عبق عصر النهضة واضحاً في فكره. أما الباحثون الألمان والنمساويون فقد اهتموا به بسبب الأثر الواسع لهيغل في كتابة التاريخ الألماني وإقحامه التاريخ في نظام فلسفي كبير. وعد النمساوي فون كريمر ابن خلدون سابقاً بأفكاره أوغست كنط مؤسس الفلسفة الوضعية، وبذل المؤرخ العالمي أرنولد توينبي جهداً كبيراً لجعل ابن خلدون معروفاً في العالم الناطق بالإنجليزية.
أما الباحثون العرب فقد أعادوا اكتشاف ابن خلدون على خلفية النهضة الثقافية العربية الحديثة التي استفادت من قيم الغرب وحداثته. فطلب الطهطاوي من المطبعة الحكومية في بولاق طباعة مقدمة ابن خلدون، وقام كل من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده بدراستها، وشجب رشيد رضا ابن خلدون لإعطائه العصبية أهمية أكثر من الدين. أما طه حسين فقد أثنى على عبقرية ابن خلدون، إلا أنه لم يعده مؤرخاً علمياً، أو عالم اجتماع، أو مؤرخاً ثقافياً، أو حتى مؤرخاً بالمعيار الحديث، بل مؤرخاً من القرن الرابع عشر، وهو ما جعله مقيداً بتقاليد زمنه ومكانه.
وقدم محمد عبدالله عنان ابن خلدون على أنه معاد للعرب لأنه بربري، واعتبر أن من الصعب أن نعدّه مؤسس علم الاجتماع الفعلي، لأن الاستمرار اللازم بين أفكار مفكر عربي من القرن الرابع عشر وأفكار بعض المفكرين الألمان والفرنسيين من القرن التاسع عشر ليس موجوداً. وقلل عزيز العظمة من حجم ابن خلدون، لأنه اعتقد أن سمعته اعتمدت بمعظمها على ثناء المستشرقين، ولأن فلسفته التاريخية تتكون بمعظمها من سلسلة من التعميمات غير المدعومة. فلم يكن ابن خلدون، في رأي العظمة أصيلاً في أفكاره، ولم يكن عالم اجتماع، ولا سباقاً في وضع نظرية عامة للتاريخ.
هل ثمة صدى لما كتبه ابن خلدون في الفكر العربي الراهن؟
ثمة تفسيرات مختلفة ومتناقضة لأفكار ابن خلدون في فكرنا المعاصر. بعض العرب عدَه قومياً عربياً مبكراً، وبعضهم وجد في "المقدمة" تأييداً لمبادىء الماركسية، في حين رأى آخرون أن مفهوم "العصبية" الخلدوني أسهم في جمود المجتمع العربي المعاصر. وبينما بالغت الروايات السابقة عن حياة ابن خلدون وأعماله، خالصة إلى أنه كان عالم الاجتماع الأول في العالم، أو أنه كان فيلسوفاً على طريقة أرسطو، ووضعت له إطاراً ذهنياً علمانياً، ذهب آخرون إلى أنه لم يكن متناسقاً في استعماله بعض المصطلحات كـ "العصبية" و"البدوي"، كما لم يكن واضحاً في تقييمه لنظام المماليك. باختصار، خلص المؤلف إلى أن ابن خلدون لم يكتب لنا بالتأكيد ولا لجماهير الأكاديميين في القرن الحادي والعشرين، إن جمهور ابن خلدون الذي كتب له هو ابن خلدون ذاته، ولكن بكونه يعني "كل شيء لكل الناس على نحو مستمر معيار لعظمته وغموضه أيضاً "، على ما رأى مايكل برت الخبير في التاريخ الأفريقي في العصور الوسطى.
830 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع