عن أسمهان التي ظلمتها تهمة الجاسوسية

                     

            أسمهان التي رحلت في ذروة فنها وعز شبابها 

الأندبيدنت عربية/إبراهيم العريس:كان يكفي مسلسل تلفزيوني واحد كتب مع كثير من التنازلات أمام الواقع التاريخي، وكتاب عمره الفعلي أكثر من نصف قرن، كي تعود الفنانة الكبيرة الراحلة قبل سبعة عقود من السنين ونيف، إلى الواجهة من جديد لتحتل المكانة الأولى بين النساء العربيات في عام 2008.

هذه الفنانة هي أسمهان التي لم يكن أحد يجهل على أي حال أن اسمها الأصلي آمال الأطرش أو إيميلي، كما لا يجهل أحد شيئاً عن فنها الغنائي الكبير والمعاناة التي طبعت حياتها وتقلبات هذه الحياة، ولكن في المقابل كانت حياة اسمهان قد أصبحت، مع مرور الزمن، أسطورة حافلة بالألغاز. ولقد تركزت هذه الألغاز بصورة رئيسة عند قضيتين: "عمل اسمهان في الجاسوسية لصالح القوات البريطانية في الشرق الأوسط إبان الحرب العالمية الثانية" من ناحية، وموتها المبكر الذي تبقى خلفيات كثيرة له، حلقة في سيرة أسمهان ضائعة. ولقد أتى المسلسل الذي أخرجه شوقي الماجري وقامت فيه الفنانة السورية سلاف فواخرجي، بجهد نفسي وتعبيري وجسدي حتى، لأداء دور أسمهان الذي يبقى واحداً من أجمل أدوارها على الشاشتين الصغيرة والكبيرة، إضافة إلى إعادة "دار الشروق" القاهرية، إصدار كتاب محمد التابعي "أسمهان تروي قصتها" الذي كان "مفقوداً" منذ زمن بعيد، لطرح الأسئلة الأسمهانية من جديد. ولا نقول للعثور على الإجابات القاطعة.

لتبقى الأسطورة أسطورة!

ذلك أن أسطورة أسمهان يجب أن تظل أسطورة. ومن هنا فإن كتاب التابعي الذي كان أول كتاب مهم يصدر عن أسمهان، بعد رحيلها المفجع، كان يعتبر المرجع الأساس في أي بحث أو تحر في حياة الفنانة. لأن التابعي كتبه استناداً إلى معرفته الشخصية بها، كما استناداً إلى لعبه دوراً أساسياً في حياتها، هذا الكتاب، رسم علامات لبعض الأجوبة، لكنه– حتى وإن كان نصه مكتوباً بالاستناد إلى ما عاشته أسمهان فعلاً وفكرت فيه وتطلعت إليه، لم يقطع في أي شيء. وكذلك كانت حال مسلسل الماجري الذي كتبه نبيل المالح وبدت فيه سلاف فواخرجي، شكلاً وأداء، أسمهانية أكثر من أسمهان. فإذا أضفنا إلى هذين "المرجعين"، كتاباً مترجماً عن الإنجليزية كان صدر عن "دار المدى" قبل ذلك بأعوام، من تأليف الأميركية من أصل مصري شريفة زهور، وعنوانه "أسرار أسمهان"، يصبح من حقنا أن نتساءل: بعد كل شيء: هل صحيح أن أسمهان أسطورة، هل صحيح أن في إمكاننا أن نضع صاحبة "ليالي الأنس في فيينا" و"أمتى ستعرف" و"أسقنيها" وشريكة محمد عبدالوهاب في "مجنون ليلى" في صف كبيرات التجسس النسائي في القرن الـ20، هل صحيح أن الاستخبارات الإنجليزية والألمانية، وربما غيرهما أيضاً، كانت تتصارع للحصول على تعاون أسمهان، أم هل صحيح من ناحية أخرى، وكما يقترح علينا المسلسل، أن أسمهان لم تكن "جاسوسة" بقدر ما كانت "جان دارك" جديدة، كان كل همها استقلال سوريا عن القوى المستعمرة، فما كان منها إلا أن سارت في نشاطاتها وراء الوعود الإنجليزية؟

لا جاسوسة ولا جان دارك

إن مشاهد المسلسل، وقارئ كتابي التابعي وشريفة زهور، لا يمكنه أن يطلع من مشاهدته وقراءته بأي جواب قاطع على أي من هذه الأسئلة، بل لعل الأقرب إلى الصواب القول، إن الجواب الوحيد الممكن على كل هذه الأسئلة هو لا النافية! لا... أسمهان لم تكن جاسوسة. لا... أسمهان لم تقتل بفعل مؤامرة مدبرة. لا... أسمهان لم تكن بطلة حركة تحرر وطني. لا! إن أياً من هذه "المراجع" الثلاثة، لا يقول هذا صراحة، لكن المتابع اللبيب، لا يمكنه إلا أن يطلع بمثل هذه الاستنتاجات، وتحديداً من خلال دراسة عن قرب لشخصية أسمهان وتطلعاتها. وهي دراسة ستقول إن أسمهان بالفعل كانت على اتصال مع ضابط إنجليزي أو أكثر، وإنها ربما كلفت بمهام محددة من قبله أو من قبلهم، مقابل مبالغ متواضعة نسبياً من المال، لكن هذه المهام لم تكن من النوع الجاسوسي على الإطلاق، كانت بالأحرى أشبه بتلك المهام التي عهد بها إلى غريتا غاربو، مثلاً، حين أرسلت في عز الحرب العالمية الثانية، إلى وطنها الأصلي، السويد كي تنشر في بعض الأوساط ما يجعل هذه الأوساط تستعد لاستقبال قوات الحلفاء وتنبذ التعاون مع النازيين. في معنى أن ما طلب من أسمهان لم يكن أكثر من التجوال في بعض مناطق حوران وجبل الدروز، في الجنوب السوري، للتحدث إلى الأعيان من أهلها وأصدقائهم، وهم عائلات نافذة في تلك المناطق، لحملهم على الوقوف موقف التأييد من دخول الإنجليز إلى تلك المناطق. ويستشف من كتاب محمد التابعي، عن كثب، ومن بحوث السيدة شريفة زهور، أن هذا كان أقصى ما كان في إمكان أسمهان أن تقوم به.

لكن الأسطورة، وموت أسمهان في حادثة السيارة، أضفيا على تلك المهمة التي لم تكن على أي حال مهمة صعبة، ذلك البعد الذي راح يتفنن في تصوير ما حدث وتضخيمه، إلى درجة رأى كثر معها أن أسمهان لعبت دوراً لا يقل عن دور ماتاهاري، فيما رأى البعض أنها كانت، إلى حد كبير، وراء حصول المناطق السورية على استقلالها!

فنها الباقي

طبعاً، لن نزعم هنا أن هذه كل الحقيقة، ولكننا نزعم أن ليس ثمة ما يؤكد أي حقيقة سواها، خصوصاً أن فتح خزائن المستندات الإنجليزية أو الفرنسية، العائدة إلى الحرب العالمية الثانية وإلى نشاط أجهزة الاستخبارات الإنجليزية أو غيرها خلال تلك الحرب، لم يسفر عن وجود أي وثيقة تتعلق بأسمهان أو بتجنيدها خلال تلك الحرب!

مهما يكن من أمر، فلا بد من القول إن هذا كله إنما يقول لنا إننا لسنا هنا لا أمام "جاسوسة" ولا أمام "بطلة تحرر قومي". بل، فقط أمام فنانة كبيرة وسيدة رائعة، تتعادل لديها عظمة الموهبة الفنية مع سوء الحظ. أجل..، ما يمكن قوله من دون تردد هو أن أسمهان كانت امرأة سيئة الحظ. وهي لا تزال سيئة الحظ إلى يومنا هذا، بعد نحو ثلاثة أرباع القرن مضت على رحيلها. ويتمثل سوء الحظ هذا في أننا بدلاً من أن نستمتع، حتى الرحيق الأخير بفن هذه التي كانت من أعظم المطربات اللاتي عرفهن الغناء العربي في تاريخه، لا نزال حتى اليوم نمضي وقتنا في قراءة كتب ومقالات ونصوص يستهويها إثارة الألغاز من حول أسمهان، أكثر مما يستهويها الحديث عنها كفنانة ذات صوت نادر، ومطربة أدخلت جديداً مؤكداً على الغناء العربي، وكان من شأنها أن تمعن في إدخال ذلك الجديد لولا الحادث الذي أودى بحياتها يوم 14 يوليو (تموز) 1944، حين سقطت السيارة التي كانت تقلها مع صديقة لها، في البحر قرب رشيد شمال مصر، فقضت الامرأتان وانوضع حد لحياة أسمهان المليئة بالمآسي والغرائب. والحال أن الغموض الذي أحاط حياة أسمهان، ثم أحاط موتها، كما أن الأحداث الغريبة واللقاءات الأغرب التي رافقت أيامها الأخيرة (كما يروي محمد التابعي تفصيلياً في كتابه المشوق)، يكفي هذا كله في حد ذاته لتبرير كل ضروب الشطط التي تبرز لدى الحديث عن أسمهان.

أسمهان التي قضت غرقاً في البحر (كما تنبأ لها عرافون بحسب بعض المراجع)، كانت قبل ذلك بـ32 سنة، قد ولدت على متن باخرة متجهة إلى تركيا (كما يذكر، متفرداً، الباحث عبدالحميد زكي، فيما تقول مصادر أخرى إنها ولدت في السويداء). وهي كانت، عند ولادتها تحمل اسم اميلي، لكنها فضلت دائماً استخدام اسم آمال. أما اسم أسمهان فهو الاسم الفني الذي اختاره لها داوود حسني حين اكتشفها وأخاها فريد الأطرش في القاهرة حيث كانت أمهما قد لجأت بهما وأخيهما فؤاد إلى العاصمة المصرية آتية من لبنان.

عند نهاية العشرينيات كانت أسمهان قد بدأت تغني من ألحان أخيها فريد كما من ألحان مدحت عاصم وداوود حسني ومحمد القصبجي، ثم شاركت محمد عبدالوهاب غناء الفصل الذي لحنه من "مجنون ليلى" لأحمد شوقي. وهذا كله هو في الحقيقة الشيء الأساسي الذي يبقى لنا في هذه الفنانة التي عبرت الحياة الفنية العربية كما شهاب الساطع. وكان من شأن حضورها أن يكون أكبر كثيراً، لو قيض لها أن تعيش أكثر...

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1307 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع