فنان مفتون بالمكان حد الوله
العرب/غريب ملا زلال*:متأثرا بجمال كردستان العراق، موطنه، ونماذج رائدة من الفن التشكيلي السوفياتي، صنع الفنان الكردي محمد عارف لنفسه تجربة تشكيلية رائدة ومميزة، جعلت أعماله خالدة ضمن التشكيل الكردي والعراقي والعربي، ومنحته قيمة فنية امتدت على مدى نصف قرن ولا تزال.
من عاداتنا السيئة نحن الأكراد على نحو خاص وشعوب الشرق على نحو عام أننا لا نعرف قيمة مبدعينا إلا بعد رحيلهم، لو منحناهم جزيئات من الحب الذي نذرفه عليهم بعد هذا الرحيل وجزيئات من قيمة الورد الذي نرشه على نعوشهم، لو منحناهم غرامات من الاهتمام الذي يستحقونه لأنقذنا الكثير منهم، ومحمد شيخو (1948 – 1989) الموسيقي ليس أولهم، كذلك محمد عارف (1937 – 2009) التشكيلي الذي نحن بصدد الكتابة عن تجربته في هذه المادة ليس آخرهم، فالقافلة طويلة، طويلة، طويلة جدا تنطح السموات.
هالني الوجع وأنا أقرأ كلمات ابن محمد عارف وهو يسرد وجعه أيضا من الإهمال الذي تعرض له والده في إحدى مشافي كردستان العراق “كنّا في المشفى الجمهوري، ساء وضع والدي، نادينا على طبيب ما لكن للأسف لا حياة لمن تنادي، ومن ثم طلبنا العون من الممرضات في المشفى لإلقاء نظرة على والدي وهو في غرفة العناية المشددة ولكن لم تأت واحدة منهن بل وأبدين انزعاجهن من طلبنا مساعدتهن، هل تعرفون لماذا؟ لأنهن كن جالسات في صيدلية المشفى وكنّا نسمع من هناك صوت قهقهاتهن وهن يتجاذبن أطراف الحديث دون حياء أو وازع من ضمير”.
عارف يتكئ على الواقعية كمنطلق لسيرته، بدءا من الواقعية الاشتراكية التي استمدها من قربه من القاع الاجتماعي
ويقول أيضاً بحرقة تقطع نياط القلب “طلبت العون من ممرض هناك وعندما وصلوا كان والدي يسلم روحه لبارئه، بلا أمل وبلا طبيب، ضعيفا مستسلما تطلع إليّ وأمسك بيدي ووضعها على جهة قلبه ثم تنفس للمرة الأخيرة وأسلم الروح”.
محمد عارف نال شهادة الدكتوراه في فلسفة الفن على أطروحته “جماليات طبيعة كردستان وأثرها في الرسم العراقي المعاصر”. وله العشرات من المعارض في الداخل وفي الخارج، وله 48 كتابا من تأليفه، و23 كتابا ترجمها من الروسية إلى العربية والكردية، جلّها عن الفن والفنانين.
ومن الجميل أن نذكر بأنه من مؤسسي كلية الفنون الجميلة بأربيل (2004)، ويعد عارف أحد أهم أعلام الفن التشكيلي الكردي والعراقي، بل ومن أهم رواده، وله جذوره الممتد في تاريخ هذا المشهد الفني والثقافي.
محمد عارف فنان يتكئ على الواقعية كمنطلق لسيرته التشكيلية، بدءا من الواقعية الاشتراكية التي استمدها من قربه من القاع الاجتماعي ومن حياة البسطاء وعفويتهم، ورسخ هذا المنهج في أعماله حين درس الماجستير في إحدى الجامعات الروسية حيث كان هذا الأسلوب مؤثرا وفاعلا، لا في التشكيل فحسب بل وفي معظم الفنون الأخرى منها الرواية، الشعر، الموسيقى، وغيرها من الفنون.
وعلى امتداد الأحزاب والدول التي كانت تنبض بالاشتراكية كحلم يراودها جميعا، وكذلك اقترب بحب من فن الأيقونة الروسية وبقي لها الأثر الكبير في أعماله لاحقا، لا كتمثيل ذهني عام أو خاص، بل كبنية إدراكية متولدة عما توفره تلك العلامة الأيقونية ضمن نسق تمنح عمله القدرة على إنتاج دلالاته التي تمكننا كمتلقين من تأويل دوائره وهي في علاقة مميزة مع عناصرها في حدود تسمح لدوافعه بالتآلف مع تجربته الفعلية في الواقعية نفسها حيث العلامة الأيقونية إحدى أهم إشاراتها.
غوص عميق في التراب والفلكلور الكردي
ينتقل عارف من عالم الأيقونات الروسية إلى الواقعية التعبيرية إلى الانطباعية، فجمال كردستان وجمال طبيعته له الأثر الفاعل والكبير في تجربته، بل هو ينبوعه الذي لا ينضب، فعشق المكان من أهم نبضات قلبه وبالتالي من أهم نبضات ريشته، وهذا ما دفعه إلى الغوص عمقا في التراث والفولكلور الكردي ويرتشف من ملاحمه وأساطيره وحكاياته الكثير، فإذا كان جمال كردستان وسحر جباله وسيمفونياته اللونية ملهمة لكبار الشعراء والأدباء والمستشرقين والفنانين، فكيف لا تكون ملهمة عذبة لمحمد عارف، حسب تعبيره. فهو مفتون بالمكان إلى حد الوله، وهذا جلي في أعماله، وهذا أيضا سر عزفه معزوفات واقعية وانطباعية، معزوفات فيها من الضجيج اللوني لصالح الفعل الجمالي ما يومئ بتاريخ أشيائه وتوافقها مع حجم الإيماءات وذاكرتها. صوت الفنان الكردي عارف يختلف عن مجايليه حتى بهمساته المرسلة كنداءات في جسد عمله، فهو يبحث عن رفع مستوى مفرداته ضمن فضاءاته كعنصر معرفي جمالي ثقافي إيذانا بغياب ما سيفصح عن ذلك، وإن كان هناك ما يقوّض الزهو في تدفق عناصره بجلابيبها. فمحمد عارف هو الحالم هنا بصياغاته وفق كل موقع من داخل صرح فضاءاته الفنية التي هي امتداد من صرح فضاءاته الاجتماعية والوطنية، فهو يتطلع إلى رفد مشهده البصري بانفعالات بالغة الخصوصية والتي ستمرر الكثير من مظاهر السلوك الإنساني كطقوس لدلالات صوته في تحولات عمله من مرحلة لمرحلة أخرى.
هو القادم من عالم الحكايات والأساطير والتاريخ والطبيعة، فكيف لا يكون لكل ذلك الحضور الأميز في تجربته، مع ضمور مطلق لأصوات الآخرين وبعيدا عن المؤثرات الخارجية، وحده المكان ملهمه، فانحيازه للبسطاء وللواقع يجعل منهما إتكاءه الأهم في عملية بنائه الجمالي، كما أنه أولاً وأخيراً يبحث كثيرا عن إرضاء متلقيه على عكس الآخرين بألوانهم وتياراتهم المتنوعة الذين يجعلون لحظات الخلق وما سيخلق تخصهم بالدرجة الأولى والأخيرة، وقد نكون معهم في ذلك، فقط أحببنا أن نشير إلى متانة علاقة عارف بمتلقيه وبالتالي متانة التصاقه بالمكان الذي تنفس وعاش فيه حيث جماليات الطبيعة وجماليات الناس وموروثاتهم هي مقاماته على امتداد أكثر من نصف قرن.
ختاما هل ستكون هذه المادة ناقوسا لنا جميعاً لنلتفت إلى مبدعينا الأحياء منهم لنبدأ بتكريمهم وهم يرتشفون الحياة بيننا، هل ستكون نافذة منها نرسل النسيم في قلوبهم ونزرع معهم باقات من الحب والتقدير، هل سنشير إليهم ونعترف بجهودهم وإبداعاتهم الكبيرة ونبدأ بتكريمهم بصوت عال، هل سنقر بأنهم ثروتنا على هذه الأرض وعلينا تقدير هذه الثروة؟ أسئلة أتركها لكم ولنا علّنا نجيب عليها معا.
*كاتب سوري
1796 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع