مارة وشرطي في شارع بيروتي للرسام محمود شهاب (صفحة الرسام - فيسبوك)
ملخص
الأندبيندت/ انظوان ابوزيد:يطالعنا الكاتب اللبناني فوزي ذبيان (1974) بكتاب سيرة ذاتية عاصف وكاشف عن سنوات خدمته كشرطي في سلك قوات الأمن الداخلي الموكلة العناية بأمن الناس، وعلى امتداد مساحة الجمهورية اللبنانية. والكتاب الصادر بعنوان "مذكرات شرطي لبناني" يعتبر سجلاً حافلاً بالأحداث والمشاهدات التي كان الكاتب السارد شاهداً لها وبطلاً رئيساً في بعض منها.
تكمن أهمية الرواية السير - ذاتية التي شاء الكاتب اللبناني فوزي ذبيان أن يختار لها عنواناً صادماً "مذكرات شرطي لبناني" (دار المتوسط – 2024) وفرادتها في كونها العمل الأدبي الأول، على حد علمنا، في السير اللبنانية المعروفة التي اتخذ صاحبها من عمله داخل مؤسسة حكومية مجالاً للتدوين الحي لأحداث ذات دلالة معلومة لجمهور القراء اللبنانيين والعرب، مشفوعة بهذا القدر من التعليقات والتأملات والاقتباسات عن كتاب وأدباء غربيين، ينم عن ثقافة الكاتب العميقة، وتمثل لتجارب إنسانية شبيهة بتجربته، يكون الأدب إطاراً حاضناً لها، ودالاً على حدود الذات الفردية، وصلاتها مع المجتمع بكل تناقضاته ومفاهيمه المغلوطة وأوهامه العتيقة.
الواقع العاري بطلاً
ولكن قبل تفصيل الكلام على الرواية، يلفت القارئ شغف الكاتب بالواقع الحقيقي، ينحت منه عالمه الروائي، وهو القائل "كل شيء حقيقي، حقيقي إلى أقصى الحدود، بدءاً من تلك العفونة التي تلف الأنحاء حولي، وتمتد إلى مساحات شاسعة وصولاً إلى كل شيء" (ص:93). وأحسب أن هذا كان دأبه في كتبه السابقة مثل "إكميل"، والإرهابي الأخير، وأورويل في الضاحية الجنوبية، وبيروت من تحت-القبل الأبدية، وهي روايات يتكئ فيها الكاتب على الواقع الحقيقي، ليعينه على التأمل واستخلاص العبر منه، نظير ما قام به الكاتب الفرنسي فولتير في كتابه الذي خصه بسرد مغامرات شخصيته الرئيسة "كانديد" ومؤدبه بانغلوس، أو ما ورد على لسان شخصية "الجندي الباسل شفايك" في رواية الكاتب التشيكي ياروسلاف هاتشيك، التي تحفل بمغامرات الجندي، وخيباته، وأخذه واقع الحروب والسلطة ومظاهر الظلم على محمل من الهزء والخفة والتشوش المقصود.
المذكرات السردية (دار المتوسط)
ولئن تبدى الواقع، الطبيعي والبشري والاجتماعي، الموصوف والمروية أحداثه ممثلاً الحقيقة العارية، حقيقة المجتمع اللبناني وانقسام فئاته الطائفية وتوزع ولاءاتها الخارجية على النحو الموصوف في متن الرواية السير ذاتية هذه، فإن وجهة النظر التي انطلق منها الكاتب فوزي ذبيان، من خلال وعي ذاته شرطياً متمرناً في سلك قوى الأمن الداخلي، تبين أن ثمة كيانين منفصلين أحدهما عن الآخر في ما عاينته هذه الذات، كيان الطبيعة الجميلة شبه الكاملة، في مقابل الكيان الاجتماعي والبشري الموصوم بعديد من النواقص، والمسلوب الإرادة والحرية، والفاقد كرامته لصالح أوهام الانتماء والانتصار والغلبة والنزعة الدائمة إلى قتال العدو المتربص بالوجود.
أمكنة وتجارب
يحكي الراوي الذي هو نفسه فوزي ذبيان الداخل حديثاً إلى سلك الدرك، سيرته عاملاً على حفظ الأمن إلى جانب زملائه على امتداد 25 عاماً، من عام 1993 إلى عام 2018، ويقتطف منها محطات أساسية، برأيه، لدلالتها على المرحلة. إذاً، ينطلق الشاب العشريني، فوزي ذبيان، بعد حيرة السنوات الجامعية الأولى، دركياً من ثكنة الحلو، في بيروت، برقم تسلسلي هو 24483، ومنها ينقل مع زملائه إلى ثكنة بنوا بركات في مدينة صور في دورة إعداد، وهناك ينكشف له أول مظاهر الفساد في السلك، وهو تبادل الخدمات بين العساكر، وتدبير الفرص والتنقل وغيرهما من خلال توفيرهم أفلاماً إباحية للأكبر مقاماً، على حد ما ينقله. وهناك عرف الدركي الشاب كيف تترسخ مشاعر الانتماء الطائفي في نفوس عناصر الدرك التابعين للمجلس النيابي، بل التابعين لرئيسه نبيه بري، بنيلهم رواتب أعلى بكثير من زملائهم، وانغلاقهم على من عداهم في الثكنة. مثل هذه المشاعر الطائفية حاصلة لدى كل فرد من الدرك، تتجسد في صورة للزعيم ملصقة داخل الخزانة الحديد المخصصة لأغراض كل دركي متمرن.
ومن ثم انتقل الراوي إلى ثكنة بنوا بركات، حيث أعد لدورة ثانية، ألحق بعدها بمفرزة سير طرابلس، في منطقة القبة، حيث اكتشف التناسق اللطيف بالمدينة، بين عديد الطوائف المتعايشة فيها، وهذا كثيراً ما عرفه هو الدرزي، وكان إطاراً لطفولته وفتوته. في المقابل، انكشف له مظهر فساد آخر، هو حصول الدراجين (أي رجال الشرطة القائمين بعملهم على متن دراجات نارية) على وجبات من الكعك والحلويات، في مقابل غض النظر عن مخالفات أصحاب هذه المحال. ومع ذلك، لا يخفي الراوي إعجابه بالمدينة، فيتابع بكاميرته البانورامية أماكنها الحميمية، مثل سوق البازركان وبركة الملاحة وباب الحديد وخان العساكر والتربيعة وسوق النحاسين وخان الأرامل، وغيرها.
ولا يلبث قطار الخدمة أن يدفع بالراوي الدركي إلى الخروج من طرابلس نحو وادي خالد (منطقة لبنانية متاخمة لسوريا) إذ يشارك في اشتباك ضد مهربين، يقتل على أثره زميل له ومن كان متزعماً عصابة التهريب. ولئن أفلح الراوي في نقله من طرابلس إلى زغرتا، وذلك بفضل وساطة قام بها صاحب أحد المطاعم لدى الضابط المسؤول عنه. ولكن ذلك كلفه عقوبة مؤلمة، عودته إلى مخفر البسطة، في بيروت، إذ عاود التعايش مع ميليشيات طائفية مسيطرة على مجمل الأحياء الشعبية في العاصمة، وتمتد سيطرتها إلى الضاحية الجنوبية، ولا يتورع مسؤولوها عن طلب نسخ من الأجهزة الأمنية لمحاضر الضبط التي يسطرها رجال الأمن المحققون، حتى لو كانت حاصلة لأسباب عائلية أو حميمية.
وفي السياق، يروي الدركي فوزي حكاية الرجل المختل العاري في الباشورة، الذي كان يصيح طالباً أن يلاقي الرئيس حافظ الأسد، وكيف أن الراوي ادعى أنه هو الآتي لنجدته، فأمكن له وللعاملين معه التقاطه وإيداعه في دير الصليب المخصص لذوي الإعاقات الذهنية المختلفة، ولم ينس أن يسرد للقراء القبلات الكثيرة التي أسداها ذلك الرجل، والضمات الطويلة له التي كانت تنم عن عطشه الشديد إلى الحب والحنان.
لا تتسع المقالة للكلام المفصل عن المحطات التي مر بها الدركي فوزي، والتي صقلت شخصيته وعمقت قناعاته وأفكاره الفلسفية المقتبسة من سبينوزا وكانط وياروسلاف هاتشيك، الذي أنشأ له نظيره في الأدب التشيكي أي الجندي شفايك وكونديرا وبروست، وغيرهم كثر (ما دام قد تسجل في الجامعة اللبنانية بمادة الفلسفة، وتعرف إلى أستاذه المفكر موسى وهبة) ومن تلك المحطات الخدمة في الرملة البيضاء وفردان والجنوب وثورة 17 تشرين، وغيرها. على أنه خص بالذكر حادثة انتظار بعض السياسيين اللبنانيين دورهم للقاء رستم غزالي الضابط السوري الرفيع أيام الوجود السوري في لبنان، وبقدر كبير من الخنوع والتذلل، على حد ما يصفه الكاتب فوزي ذبيان.
شفايك اللبناني
ماذا يمكن لقارئ الرواية السير ذاتية (مذكرات شرطي لبناني) لصاحبها فوزي ذبيان أن يستخلص منها؟ إن أول انطباع يمكن الخروج به هو أن هذا النوع من السيرة التوثيقية والتدوينية لوقائع جرت في إطار مؤسسة رسمية، وأنها تنطبق على فترة زمنية معينة، لم يسبق أن أخرجه أحد قبله إلى الوجود. وبغض النظر عن الآراء الرسمية التي يمكن أن تصدر عنه رفضاً أو إنكاراً أو قبولاً، فإن الكاتب فوزي ذبيان لم يدع فرصة، في سياق سرده الأحداث أياً كانت خطورتها، إلا واستثمرها ليمدح دور القوى الأمنية في إحلال الأمن والحؤول دون تنامي الخلافات بين الناس.
ولعل جرأة الكاتب في تسليط الضوء على بعض المفاسد التي نخرت جسم المؤسسات الرسمية في لبنان - والواقع أفدح من المذكور في السيرة - وأسلوبه البسيط، ولغته القريبة من المحكية حتى التداخل معها، وتلاوين الكلام المتنوعة التي يلجأ إليها للتعبير عن ذاته وانفعالاته، من مثل الهزء والضحك والبكاء في مواقف عاطفية ظاهرة، والشتم الشائع وغير السوقي، كل ذلك يجعل من شفايك اللبناني محبباً، ونامياً إلى الأدب الشعبي، أو قل الأدب الذي يطمح فيه الأديب إلى أن يتقرب بحكاياته من هموم العامة، من دون أن يهمل معاييره الفنية والأخلاقية التي يقتضيها النوع والكائن الفرد، أي المؤلف.
من الأمور اللافتة في رواية ذبيان أن الكاتب يلامس فيها أسلوب الكتابة الفانتازية من دون أن ينغمس فيها، وذلك من خلال ابتداعها مشهدين أو ثلاثة يعلق فيها المسار السير ذاتي السردي، من أجل أن يدخل القارئ في نص حلمي (ص:240-245) تكون فيه أم الراوي شخصية رئيسة، وتحف بها كائنات وحيوانات مثل الكلب والشجرة وذئب، وغيرها. ومثله نص فانتازي يبتدع فيه الكاتب حواراً بينه وبين يوسف شفايك (ص:348-351) يقول فيه: "لكن شفايك فاجأني بالقول: لكنك واحد من أولئك الذين في ذلك الكتاب.... "مذكرات شرطي لبناني". قلت لنفسي- سيرة روائية ثم صمت. الشرطي هو ذكرى العالم قال شفايك، وهو مكبوته الصريح. أردف، ثم وهو يهرش شعر رأسه قال بصوت هو أقرب إلى الوشوشة: القائد العام لشرطيي العالم يقطن فوق، مشيراً بإصبعه إلى الأعلى... لننطق معاً في السماااااء...إنها شيفرة سرية بيني وبينك وياروسلاف هاشيك...إن العالم – أكملت أنا العبارة – ليس - على - ما يرام" (ص:350).
819 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع