مصاطب الرمل .. خمس سنوات في ليبيا - فصول٣ و ٤ و٥

مصاطب الرمل .. خمس سنوات في ليبيا - فصول٣ و ٤ و٥

 محمد سهيل احمد

اضاءة :كانت الحياة في ركن مجاور للبحر مثل ( وادي جارف ) بضواحي سرت بسيطة نقية الهواء لكنها لم تخلُ من منغصات كان في اولها تأخر وصول رواتبنا لفترة تقارب السنة ! كما افتقد الوادي لأبسط وسائل التسلية : التلفزيون لعدم وجود مقهى ولو واحد ،اضافة لمشاعر الحنين لأسرتي التي تركتها في البصرة تحت رعاية زوجتي المرحومة ، ما حدا بي لتقديم استقالتي لأعود للبصرة وهي تتقلب على جمر العوز والحصار . وما هي إلا سنة أخرى حتى جعلني الحصار وتأزم الأوضاع أُقدم على خطوة أخرى وبمعية الأسرة بكامل أفرادها لأتعاقد من جديد في العاصمة الأردنية عمان وليكون مكان تعييني مدينة بنغازي التي تتصدر مدن الشرق الليبي حيث فصول اخرى من المفاجآت والاسترخاء الواهم والمتاعب . وها هي حكاية السنوات الأربع التي قضيتها هناك :


القسم الثاني

الفصل الثالث

مدرسة صقـر الوحـدة

بعد ان ضقنا ذرعا بالإقامة في بيت المعلمة نفيسة بأجوائه الكئيبة المتوترة في صمت ، فكرنا في إيجاد بيت مستأجر بديل وجاء الفرج أخيرا عن طريق احد المعارف العراقيين بوجود مشتمل على السطح بغرفتين ومنافع صحية يبعد عن مسكننا الحالي بما لايزيد عن مائة متر ، وهكذا جاء الفرج عن طريق موظف البنك( فرج) لنسرع بالانتقال الى سطح بيته مغادرين نفق ما تحت الأرض الى سماء الله الزرقاء . والحقيقة ان ذلك المشتمل كان مستأجرا من قبل مدرس عربية من أبناء مدينتي البصرة الا وهو المرحوم مجيد الأسدي أبي نواف . سررنا بتلك اللقية غير المتوقعة لنسرع بنقل اثاثنا الخفيف الى البيت الجديد مقضّين على سطحه ليال عانقنا خلالها سخاء الشمس الأفريقية محتضنين نجوم بنغازي التي بدت لنا كالعادة كبيرة الحجم قريبة الى مديات أبصارنا حتى خيل الينا انها كانت مخلوقات سماوية غادرت مجراتها كيما تتسامر معنا !اما الغيوم فبدت لنا اقرب الينا من حبل الوريد . كانت قطنية شديدة البياض خفيضة كما لو كانت سوابيط عنب ما ان نبسط أذرعنا حتى نقطفها ملتهمين اياها بتلذذ فطري . والواقع ان البيت الجديد بدا مثاليا قياسا بذلك السجن الذي كنا ندفع لقاءه مائتي دينارا ليبيا كل شهر . وبقدر ما كان البيت الأسبق خانقا لا يمر بأعطافه شعاعا ولو واحدا من الشمس فأن البيت الجديد شكل عناقا تاما مع الطبيعة . كما ان المسافة التي تفصله عن المدرسة لم تكن تتعدى الماءتي مترا إضافة الى ان مدارس الأبناء كان يمكن الوصول اليها سيرا على الأقدام مما منحني اطمئنانا أعقب فترة قلق أضرت بمزاجي وأوصلتني الى حافات الندم لمقدمي الثاني الى ليبيا .
كان ابني البكر رافد من طلابي في مدرسة صقر الوحدة ،وعموما كان من النوع الهادئ إلا إذا جرى استفزازه ولهذا السبب تشاجر مع اكثر من طالب حاولوا الانتقاص من شخصه فرد لهم الصاع صاعين لكن على حساب اعصابي . كان مدرسو المدرسة مؤلفين من ثلاث فئات : فئة المدرسين الليبيين وكان عددهم لا يتجاوز السبعة او الثمانية مدرسين كان المدير تاسعهم او عاشرهم ، يليهم القادمون من مصر وكانوا يشكلون نسبة كبيرة من اجمالي عدد مدرسي المدرسة تليهم فئة الفلسطينيين ممن قدم معظمهم من غزة او درسوا وتخرجوا من الجامعات المصرية تضاف إليهم فئة جديدة متمثلة في العراقيين من حديثي العهد بهذه البلاد الغريبة الأطوار
. كما كانت هنالك فئة كانت قليلة عددا وخارج التصنيف . السيد عطوة مثلا
هو ليبي عن طريق التجنس . وكان شخصية تتمتع بقدر كبير من الطيبة والكرم اذ لم يكن يترك مناسبة دون ان يدعونا ،لاسيما في رمضان ، الى بيته القريب . وكان حديث العهد بالتجنس ويغلب على شخصيته الطابع المصري لهجة ووجهات نظر . اما سالم الغرباوي مدرس الكيمياء المصري ايضا فقد دعاني وأبني الاكبر مرة او مرتين في بيته بمنطقة الصابري المطلة على البحر ، وحين علم بقرب نفاد ما لدي من مبلغ مدخر نجم عن عدم تسلمي لاي فلس من مجمل راتبي لسبعة شهور ، اقترح عليّ فكرة الاقتراض من احد اصحابه فقبلت العرض بين المسرور والمرغم ، في وقت لم نكن قد غادرنا بيت رمضان بعد ،والذين كان واحدا من بين الكثرة من ابناء ليبيا ممن كانوا يتصورون اننا نتلقى رواتب ضخمة وشتان بين رواتب بلدان الخليج ورواتب الجماهيرية التي كانت هزيلة قياسا بالأولى غير ان الحصار جعلها مجزية في اعين متسلميها وضخمة في اعين مواطنين اعتاد نظام القذافي تدليلهم عن طريق تحويلات السفر بالدولار قبل نشوب ازمات الصدام مع الغرب أي قبل هجوم الاطلسي على مقر القذافي في طرابلس وقبل اسقاط طائرة البان اميركان في مدينة لوكربي الاسكتلندية ثم فرض الحصار الجزئي الذي كان خانقا ومؤذيا على ليبيا . المهم انه حين بدأنا بتسلم رواتبنا بالعملة المحلية ، كان علينا تسديد المبلغ الذي استقرضناه عن طريق الغرباوي , وحين قمنا بتسديد ما علينا من ديون اضاف عليها صاحبه الدائن وكان من ابناء الصعيد ، فروقات لم تكن في الحسبان بل لنقل صراحة انها لم تكن كذلك بقدر ما كانت زيادات افتعلتها الذات الدائنة الجشعة . وتلك كانت الصدمة التي قادتني لأن أصحو ولو بعد فوات الاوان من رقادي متخذا موقفا وقائيا حازما تجاه اية تعاملات مستقبلية اسرعت بتقطيع اوصالها . ويوما اثر يوم اتضحت امام توجساتي نمط شخصية سالم مدرس الكيمياء في المدرسة . فقد علمت انه يتعاطى شتى اصناف المسكنات اذ روى لي حكاية عن تناوله مشروبا مسكرا ذا اثر بالغ السوء على اطراف محتسيه السفلى حيث يعمل على شلهما لما يقارب الاربع وعشرين ساعة او اكثر . " كنا نتبول على انفسنا لعجزنا التام عن الحركة ! " كما تقول رواية سالم الغرباوي المعجونة بخليط من السخرية والتبجح . اما مدرس الرياضيات احمد فكري القادم من المنصورة فكان واحدا من اقدم العاملين في التريس بليبيا . وكان من النوع الصامت الى حد الغيظ . جاءني يوما طالبا مني ان اقوم بتدريس احد الطلبة الليبيين لقاء اجر متفق عليه وبالفعل اعطيته ست او سبع محاضرات لكن حين حان اوان الدفع اخذ تلميذي يتهرب من لقاءي بل وصار يتهرب من الدوام المدرسي، وكنت كلما طرحت الامر على من كفله : احمد فكري ، يحملق الأخير بي من نظارتين سميكتين دون ان يكلف نفسه بالرد على تذمري . شعرت بالندم لقيامي بتدريسه لا سيما بعد ان اخبرني زميل كان مدرسا لمادة الاحياء عن ضرورة الحذر في مثل هذه المواقف ، لأن الطالب يتوسل اليك في البداية طالبا اعطاءه بعض الدروس الخصوصية وحين تطالبه بالاجور يهددك بإيصال الامر الى دائرة تعليم المنطقة مما قد يترتب عليه الغاء العقد المبرم بينك كطرف ثان والجانب الليبي كطرف ثان ! حينئذ تضطر ولو عن مضض الى السكوت وهو ما حصل مع ذلك الطالب المتخلف في كل شيء وقاتل الله الحاجة !
توطدت علاقتي بمحمد زكي القادم من محافظة الشرقية بمصر ودعاني اكثر من مرة الى بيته كما انه كان من الصنف الذي يحب المساعدة فكثيرا ما خرجنا معا بسيارته المازدا في جولات عمقت معرفتي بالمدينة . كانت جولات ممتعة نختمها بشاي في احد مقاهي ( الفندك ) بوسط البلد بعد سندويتشات سريعة لا تخلو انواع منها من الفلفل الذي ( يسمط ) ملتهمه سمطا ، ومكره اخوك لا بطل ! كلما ما افعله هو ازدراد شطيرتي وشرب اكبر كمية من الماء وانا اكتم كحة كان لها ان تكون مدوية .
كان دوام المدرسة صباحيا يبدأ في تمام الثامنة صباحا وينتهي في تمام الثانية عشرة والنصف تقريبا . كان المستوى العام لطلبة المدرسة ، لاسيما في مادة اللغة الانكليزية مترديا لأكثر من سبب . وأهم تلك الاسباب الغاء مادة اللغة الانكليزية لأكثر من عشر سنوات اضافة الى ضعف اداء المدرسين ممن ان معظمهم من حملة شهادات متواضعة او مزورة مجلوبة من مصر . والحقيقة ان المدرسين المتعاقدين للعمل في بلاد الخليج كانوا اعلى مستوى بسبب تشدد لجان المقابلات في اختيار افضل الخبرات التدريسية . لقد المح محمد زكي الى ان المصري الجيد هو المصري الذي تلتقيه في بيئته الاولى .. مدينته التي نشأ فيها ، والذي لم تتسخ يداه بأدران الاحتيال والتزوير وممارسة الطرق الملتوية للوصول للأهداف المرتقبة . لكن وللأمانة ، لابد من القول بأن الطالب المصري، بعد العراقي ربما ، يمكن اعتباره النموذج الأمثل في الاقبال على العلم واداء الواجبات والتفاني في المذاكرة .
وبحكم كونها مؤسسة تربوية مهمتها التعليم قبل التربية ، فأن صقر الوحدة ، كمعظم المدارس الليبية لم توفر ايا من الخصلتين لتلامذتها ، بل ان معظم مدارس بنغازي ، لاسيما مدارس الذكور الأكثر جرأة ، عانت لأمد طويل من شرخ كبير اسمه الغش بشتى انواعه واساليبه . والغش هو الموضوع الذي سيكون مدار اهتمام صفحات قادمة سنأتي على ذكر بعض المواقف والحكايات الساخرة والباعثة على الألم ، في آن معا .
عموما كانت ( صقر الوحدة ) تدار من قبل كائن واحد هو ( مفتاح) الذي دأب على انْ يقضي جلّ اوقاته داخل المدرسة اما لوحده او برفقة خفافيش المقبرة المجاورة التي كانت تتخاطف ليلا في ممرات ذلك المبنى المدرسي . ولعل مدير المدرسة كان واحدا من تلك الخفافيش . لقد كان قاسي القلب سليط اللسان متبجحا نفاجا ينفر من أي عنصر وافد غريب مثلما كان لا يأنف من ممارسة الكذب كلما تطلب الامر ذلك . وقسوته تلك كانت تشمل الجميع تقريبا مثلها مثل سياط تهكمه التي كانت تنهال على هذا وذاك . فحين نال المدرس المصري السيد عطوة الجنسية الليبية نقل الخبر للمدير وملء قلبه الابتهاج والأمل بالمشاركة غير ان المدير اكتفى بالنظر اليه شزرا وهو يقول :
ــ لا ينقص ليبيا عبئا الا السيد عطوة !
في قصتي التي نشرت في اكثر من موقع وجريدة وتحمل عنوان ( احلام خفاش ) رسمت صورة مصغرة لنموذج من نماذج الطغاة متمثلة في شخصية السيد مدير المدرسة الذي غالبا ما يطعم احاديثه بروايات مزيفة عن لقائه بأثر من شخصية سياسية في عالمنا العربي والشرق الاوسطي . تقول بعض سطور قصتي : " انه يزعم فيما يزعم انه صاحب اكبر وأوطد علاقات مع عدد من زعماء العالم الثالث ورموزه الثورية .. جمال عبد الناصر انبهر كثيرا بمقولاته عن القومية ، وباندرنايكا دعته مرتين لزيارة سيلان واقترحت عليه اعتماد الشاي الاخضر كمشروب وطني بديل .. اما كاسترو فقد اقترح عليه اطالة لحيته كما فعل هو وكثيرا ما ردد لو ان كاسترو لم يقم بثورته ضد باتيستا لقام بها هو وان مانديلا استضافه اكثر من مرة في سجنه العتيد " ويواصل السيد المدير مسلسل تلفيقاته قائلا : "
ان اشد ما يأسف له في رحلته الى الصين مداهمته لواحد من ابناء الدول النائمة كان منهمكا بالتبول على سور الصين العظيم ! "
قدم مدرسو المدرسة من الفلسطينيين الى بنغازي في اوقات مبكرة بعد ان ضاقت بهم سبل العيش في الدول التي قدموا منها وأولها مصر نفسها ، وعموما فلسطينيو ليبيا يختلفون تمام الاختلاف عن الفلسطينيين الذين عاشرتهم لأكثر من اربع عشرة سنة في مدارس الكويت اضافة الى عام دراسي خامس عشر في احدى المدارس الاهلية بالاردن . فلسطينو الكويت اكثر سخاء بحكم واقع مدخولاتهم واكثر تفهما للمحن التي مر بها العراق رغم وجود القاسم المشترك الذي يجمعهم المتمثل في تغليب عنصري المنفعة او المصلحة . ولقد تعاطفت مع معظم زملاء المدرسة من الفلسطينيين ، كانت نسبة كبيرة منهم تتمتع بقدر من الطيبة وحب المساعدة عدا واحدا يدعى (كايد) كان يتمتع بنفوذ واسع في القنصلية الفلسطينية التي يتركز دورها على رعاية المصالح الفلسطينية ، ولعل قسم منه زج به في المخابرات المصرية ، لست متأكدا سوى ما ان لدي من مؤشرات ، والاستاذ ( كايد) كان انموذجا لذلك الصنف فقد كانت له حظوة لدى مدير المدرسة وربما نقل اليه اخبار مدرسي المدرسة خاصة بعد مقدم العراقيين للعمل في ليبيا . و( كايد) لم يكن شخصية بلهاء فقد كان يتمتع بحضور وهيئة تذكرني بالممثل رشدي اباظة . كان ذلك المدرس من اشد مبغضي الشخصية العراقية وكثيرا ما ردد ان العراق هو بلاد الشقاق والنفاق متساوقا مع ايقاع المدير الذي يتميز بطاقة طرد مركزي لكل ما هو وافد وغريب !

الفصل الرابع
بنغازي الأخرى

من خلال قراءاتي عرفت ان أصل كلمة ( بنغازي ) يعود الى التسمية التي اطلقها السلطان العثماني على المدينة والمؤلفة أصلا من كلمتين ( بن وتعني ألف وغازي وتعني المقاتل ) أي ان بنغازي تعني مدينة الألف مقاتل . وكانت تسمى قديما( برنيق ) أو ( برنيكي) ايام حكم الرومان البيزنطيين .
هكذا كتب علي ان ارى بنغازي مرة اخرى ، مرة طويلة الأمد ستستغرق اربعا من سنوات غاصة بالاندحارات لا تخلو في الوقت نفسه من انفراجات تبعث على اقل قدر من السرور . وهاهي ريح البحر الابيض المتوسط تدحرجني من ركن صدئ بشارع من شوارعها الى مصطبة من مصطبات الجالية المصرية التي اعتادت تقديم اضافة الى الشاي مشروبات اخرى كالسحلب والكركديه والارجيلات المحشوة بطباق التفاح او الحشيشة اذا ما رغبت في انتحار بطئ اوله لذة وآخره انصهار ! لا ادري لماذا اقارن بين بنغازي ومدينتي البصرة فعلى الرغم من انها شهدت الشرارة الاولى لانطلاقة ثورة الفاتح ، الا انها كانت من مدن المعارضة الصامتة والعنيفة في آن معا اذ كانت بوابة برقة المفضية الى مدن الشرق الليبي مثل المرج والبيضاء ودرنة والقبة وطبرق . ومعروف ان البيضاء كانت العاصمة القديمة للبلاد ايام الملك ادريس السنوسي الذي اطاحت به ثورة القذافي التي سعت وتسعى دائما الى تقليد ثورة 23 يوليو 1952 والتي اسفرت عن خلع النظام الملكي ونفي الملك فاروق الى جزيرة كابري الايطالية . غير ان الثورة الليبية تظل قاصرة في مفاهيمها بدائية في اساليبها الى حد الشذوذ المتمثل في تنظيرات القذافي الفكرية .
هاهي ريح المتوسط تشقلبني من متر الى آخر ومن كيلومتر الى آخر في مدينة خيل لي انها تشبه مدينتي وكان ذلك صحيحا بقدر تعلق الامور بمشاهد الفقر والرثاثة التي كنت ألقاها امامي ، فسوق الجمعة في بنغازي يذكرني بنظيره السوق البصري الذي يعرض فقراء وانصاف فقراء شتى انواع البضائع من البالات الى الدواليب المكركبة الى اجهزة الريموت المعطوبة ومن التلفزيونات المتآكلة خشبا والمنتفخة بلاستيكيا والراديوهات العتيقة الطرز ، ومن الاسرة العرجاء الى البساطيل المتهتكة ، ليتقاسم السوقان خصلتي الغش والاحتيال بنفس القدر ناهيك عن انتشارفئات من النشالين قد تبدو متشابهة في كلتا المدينتين غير ان النشال الليبي ــ والذي قد لايكون ليبيا بالضرورة ــ يتسم بقدر من الوضاعة التي تقوده الى سرقة ازهد محتويات جيوب ضحاياه . ان مجرد اكتشاف وجود بضع دنانير لا تغني ولا تسمن من جوع في جيب الضحية سيجعله يستبسل في الاستيلاء عليها . وهي السمة التي لا نجدها منتشرة لدى السارق العراقي ، والسر يكمن في ان النشال الليبي يسرق لكي يتدبر لنفسه قطعة صغيرة من المخدرات تكفيه لبضع ساعات من الاسترخاء الوهمي . غير ان النشالين الأمهر يتكاثرون في طرابلس باعداد تفوق تلك الموجودة في بنغازي وكثير منهم قدموا من بلدان الشمال المغربي .وعلى كل حال فأن مدرستي تبعد ببضعة كيلومترات عن مركز المدينة الذي لا ازوره الا لإنجاز اكثر من مهمة مثل متابعة موضوع انجاز الاقامة ومراجعة المصرف الذي سيتم تحويل راتبي المتراجع اليه . وعادة ما افضل ، بعد مغادرة باص الكيا القادم من منطقتي في منطقة الفندك بقطع المرحلة الثانية من المشوار سيرا على الاقدام لاجد نفسي قبالة مبنى تربية وتعليم بنغازي ذي الطوابق السبعة التي تخلو من توفر أي من المصاعد . اقطع ذلك المشوار على مراحل احتسيي خلالها شايا في مقهى مصرية الطراز او التهم شطيرة فلافل او فاصولياء بالتونا وهي من الوجبات التي يغرم الشعب الليبي بتناولها صباحا ، على تعسر هضمها لاسيما فيما إذا اضيف فلفل الهريسة اليها . ومن الغريب ايضا ان يفتقد المرء وجود منتجات الألبان المحلية رغم ان مدن السواحل وما جاورها تعد من مدن الرعي او ما يسميه ابناء البلد (السعي) .
تعرف ابني الاكبر على فتى قدم من العراق مع امه وشقيقتيه وجدته مرورا بالصحراء السودانية في رحلة انتحارية . والعجيب في الامر انه يزعم ان جدته تلك كانت ملكة جمال بغداد ايام الخمسينات من القرن الماضي . وقد اتفق الصديقان على ايجاد عمل بأسرع وقت ممكنة من اجل مساعدة اسرتيهما على تحمل اعباء النفقات واولها مبلغ الايجار ، غير انني لم الاحظ الفارق في ميزانية ولدي فقد كان يعود في ساعة متأخرة من الليل بعد العمل في احدى المقاهي المصرية يغني في جيبيه المغني ! وكل ما كسبه انه تعلم تدخين السيجائر رغم معاناته ومنذ الطفولة من الربو التحسسي !
كانت محطتي الأجمل قضائي بضع ساعات في مكتبة بنغازي الوطنية التي كانت بمثابة النافذة التي اطل منها على المشهد الثقافي العربي في اقل تقدير حيث كنت اتابع مجلات الهلال والجيل الفلسطينية والاهرام والعربي والدوحة الخليجيتين وصحف ومجلات اخرى بتواريخ قديمة او متأخرة لكنها كانت افضل في كل الاحوال من اللاشئ . اما الكتب فيرجع تاريخ معظمها الى سنوات فائتة عدا الكتب الاكاديمية فقد كانت متوفرة بطبعات احدث عهدا . كان ذلك الركن الهائل الرابض في احدى الساحات القريبة من ضريح المجاهد الليبي عمر المختار بمثابة واحة ثقافية او حديقة انهل من رحيق ثمارها ما يغني روحي المتغربة مانحا اياها قدرا كبيرا من المجالدة والامل . ومما لاحظته عبر زياراتي المتكررة لتلك المكتبة قلة اعداد الزبائن مما اشر على درجة اهتمام الشخصية الليبية بالثقافة والتعليم .
تلك المكتبة اوحت لي كتابة قصتي القصيرة الطويلة التي تحمل عنوان ( الأزميل ) والتي وردت في مجموعتي القصصية ( إتبْع النهر ) وهي تتحدث عن لقاء يتم في المكتبة بين مدرس عراقي مهاجر وزميلة كلية افتقد وجهها مع البعد وتقادم الزمن .
مع ضغوط الواقع الجديد في البيت والمدرسة والمدينة ادركت في لحظة انتباهة متأخرة مدى الخسارة او بالاحرى الخسارات التي اوقعت نفسي فيها ، فها الان في مدينة لم احلم يوما ان أحلّ فيها . كان طعم المرارة ملحا أجاجا على شفتي . كنت وحيدا بلا اية صداقات ودونما اية رفقة الا رفقة الارواح الستة التي تحيا معي . ومع تناهي خبر رحيل والد زوجتي تكثفت الحلكة في جنبات الروح فقد كان ابوها بمثابة الصديق بالنسبة لي اجالسه فيروي لي وباسلوب لا يخلو من الطرافة حكايات بصرية او خصيبية او من دفاتر خدمته العسكرية كنائب ضابط ايام زمان . كنت ، ربما ، المستمع المنصت الوحيد في بيت انسبائي المتكدس بأرواح ضاجة مثرثرة غادية او رائحة دونما ادنى التفات لرجل عجوز يقتعد حصيرة وحشية بالية ومخدة ثقبتها ثغور سيجائره وبقعتها اصباغ الشاي .
كنت اهرب من ذلك الواقع المتراجع الى المدينة تقودنى خطى هائمة الى المتنزه المقابل لدائرة التربية والتعليم حيث كنت التقي ثلاثة او اربعة من ابناء مدينتي ، نثرثر ، نروي الطرائف ، نبتاع الشاي من الباعة المتجولين ، وحين اصاب بالضجر كنت اجد ضالتي في وجوه عراقية اخرى اتخذت من احدى مقاهي ( الفندك ) محطة لها . كان جلّ العراقيين فيها من فئة المدرسين المتعاقدين او العاملين بعقود محلية هزيلة ، اضافة الى اعداد قليلة ممن ارسلهم النظام للعمل كمخبرين يترصدون نماذج ارهقها الحنين وفت في عضدها انتظار المرتبات وغياب الاهل والاصدقاء والفة المدن التي خرجوا من رحمها المفعم بالحنان . اما افراد اسرتي فكان البيت ملاذا قسريا لهم . فعلى الرغم من ان بنغازي مدينة كبيرة ومع كثرة متنزهاتها الا انها كانت تفتقد الى ذائقة التحرر دونما رقيب الا النفس .
بنغازي واحة تغفو على مصطبة هائلة قوامها رمال سواحل البحر الابيض المتوسط بجسد متكاسل وحياة كانت اقرب الى الموت منها الى تلك الحياة المتوثبة التي يلتقيها المرء في بيروت او بغداد ما قبل الحروب .
وفي يوم من ايام بنغازي وجدتني على موعد جديد مع الربو بعد طول اختفاء . وأحسب ان للعامل النفسي دوره الاكبر في انتكاستي الجديدة . ففي احد ايام الخميس وإثر عودتي من الدوام المدرسي ، اصبت بثقل هائل في انفاسي اطبق عليّ في مسعى لهلاكي . لم يكن ثمة مفر فقد كان جو المدينة بحريا حينئذ شديد الرطوبة وهكذا أمسيت في مواجهة مباشرة مع كائن مفزع اسمه الموت .
اخيرا ومن واقع اطلاع أفضل على الواقع المناخي الذي يلف التضاريس الليبية قررت المبيت ولو ليلة او ليلتين في اقرب مدينة جبلية .غير ان النقطة الاقرب كانت تبعد عن بنغازي بما لايقل عن مائتي كيلومترا الا وهي مدينة البيضاء المرتفعة عن سطح البحر . حزمت امري متناولا كيسا خفيفا من النايلون وضعت فيه قميصا ومنشفة وبنطالا وفرشاة اسنان واخرى للشعر ومن ثم اصطحبت ابني الأكبر رافد لتمضي بنا البيجو الى طريق بنغازي ــ المرج ــ البيضاء وهوالطريق الذي استخدمته قوات الاحتلال الايطالي ابان حملتها لاحتلال ليبيا برمتها ، وهو المسلك الذي وجدته القوات المحتلة بلا ادنى مقاومة شعبية وهي المثلبة التي تميز حيالها عمر المختار غيظا وهو يستحث ابناء جلدته على لملمة صفوفهم والوقوف شوكة في خاصرة المحتل ! كان ذلك الطريق الساحلي معبأ بهواء الجبال التي كانت تطوق مدن الساحل وقد سررت كثيرا لمرأى ذلك الشريط المغرق في اخضراره على تربة حمراء اللون لنصل بعد ساعتين الى مدينة لم اكن املك عنها ادنى فكرة سوى مرورنا الليلي العابر بها ونحن نلج ليبيا من جهة مصر . توجهنا الى اقرب فندق لانعم باغفاءة دامت بضع ساعات قبل ان اخرج وابني الى اقرب مطعم شعبي تناولنا فيه شطيرتي كباب مالئا رئتي بهواء المدينة البارد النقي ومن ثم لأعود الى الفندق فأنعم ولغاية الصباح بنوم هانئ عميق . وحين استيقظت في صباح اليوم التالي شعرت بالفارق فقد زالت او كادت نوبة الربو وشعرت بصدري خفيفا مثل ريشة
. وفي طريق عودتنا الى بنغازي ابصرت قمة جبل شاهق متحفر السفوح
ملطخا ببقع سخام ذات الوان رصاصية اوكالحة . اخبرني السائق انها آثار المتفجرات التي اعدها الكادر الاخراجي بادارة المخرج الراحل مصطفى العقاد اثناء تصوير معارك فيلمه الشهير (عمر المختار) بين عامي 1979 ـ 1981 . تذكرت ان عينيّ وقعتا اثناء مروري بأحد احياء بنغازي على البيت الذي سكنه محمد الابن الوحيد للمجاهد الليبي وكان بيتا شرقي الٍطراز بسيطا في معماره لم يكن يتجاوز المائة والخمسين مترا مربعا من حيث المساحة ، على اقرب تقدير ! اما جدث المختار فهو مدفون في الساحة التي اعدم فيها بمدينة سلوق ( 50 كيلو متر جنوب بنغازي ) .
اثر عودتي الى بنغازي كنت قد قررت امرا : إعادة اسرتي الى العراق تخلصا من وطأة الايجار ونفقات المعيشة على ان يمكث ابني الكبير رافد معي كيما يستكمل دراسته الاعدادية بعد سنة الرسوب المريرة في ليبيا بمساع من مدير المدرسة نفسه .
ما ان قدم شهر ايلول 1999 حتى اكتملت الاستعدادات لرحيل الاسرة جوا عن طريق مطار بنغازي ، وما ان اقلعت الطائرة المتوجهة الى عمان حتى جثم على القلب المنكسر الوحيد طائر اسود اللون . عدنا نحن الاثنين الى مسكننا السابق : غرفة العاب مدرسة ( صقر الوحدة ) بمعية مدرس عراقي قادم من الغريفة احدى مدن الجنوب الليبي ، لم يكن قد تعاقد بعد مع الجانب الليبي بناء على رغبة مدير المدرسة اثر وساطة من طرف المدرس الفلسطيني (كايد ) ، ولحسن الحظ لم يكن ذلك العراقي القادم من بغداد من المرابطين في الغرفة اذ كان يغادرها في الصباح المبكر الى اقواس منطقة ( الفندك ) حيث يقوم ببيع بضاعته المؤلفة من الملابس وجوزة الطيب ودهان ابو الفاس وزوجا او زوجين من الاحذية والجوارب الصينية او التركية كالعادة .
كانت عملية اعادة الاسرة الى ارض الوطن شكلا آخر من اشكال الانتحار بعد ان فقدنا البيت الذي يؤوينا واستيقظنا من كابوس الرحيل على الة اسمها صفر اليدين ! وكان البديل الوحيد هو الايجار الذي يذكرني بأيام
السكن في علب الكبريت لقاء مبلغ ايجار شهري يستنزف ستين بالمائة من الراتب .
وها نحن نعود الى المربع الاول !
لقد تكالبت علينا الأعباء تكالب الوحوش على الفريسة ، قبل ان تتناوشنا جملة احداث جرت اغلب فصولها في ممرات المدرسة وغرفها بين ابني رافد واثنين من المدرسين المقيمين في المدرسة : سالم الغرباوي مدرس الكيمياء وزميله القادم من قلب الصعيد استاذ الرياضيات القادم من قلب الصعيد بمصر .

الفصل الخامس
أزمة شبه دبلوماسية

بعد بضعة ايام قضيتها في غرفة التلقين المجاورة لمسرح المدرسة والتي يطل شباكها الصغير على تقبب صخري قيل لي انه كان جزءأ من اجزاء احدى مقابر المدينة ، انتقلت مع ابني الى الغرفة الوسطى المطلة على ساحة العلم . كنت وابني ينام كل منا على حشية اسفنج ملتصقة بأرض الغرفة اضافة لرحلة مدرسية وضعت عليها حقيبة سفرنا وكومة من ملابسنا . كنت اسعى ما وسعي لتفادي الاصطدام بمدير المدرسة الذي كان يقضي قسطا كبيرا من وقته في مدخل المبنى الداخلي للمدرسة او اجده يتجول في ارجاء المدرسة بينما تصلصل شبكة مفاتيحه المتدلية من وسطه النحيف . وهو عادة يفضل البقاء لوحده مع سجلات المدرسة عدا انه استقدم امرأة ليبية قال انها بمثابة كاتبة المدرسة كيما تعينه في انجاز وثائق الطلبة وفايلاتهم .
وفيما بعد قدم مدرس الكيمياء سالم الغرباوي ليسكن معه زميله (علاء) مدرس الرياضيات القادم من قلب الصعيد في الغرفة المقابلة . غير انني بدأت الاحظ ان مدرس الكيمياء اعتاد على العودة في اوقات متأخرة من الليل مدخلا سيارته المتسوبيشي الرصاصية دون ان ينقطع عن القهقهة والتمايل وتبادل النكات مع رفيق غرفته وتكديس الممرات والسطوح بدخان سيجائره . وفي يوم من الايام اطلعني رافد على مشهد غير مألوف داخل غرفة قسيمي الغرفة حيث كان الباب مواربا والغرفة خالية وحينها شاهدت حقيبة عتيقة الطراز على ارضية الغرفة وكانت مملوءة باكياس تحتوي على مسحوق ابيض . وحينئذ سألته ان كان الاثنان يعلمان بأمر معرفته لتلك الحقيبة الغريبة اجاب ان نعم ولكن في مرة سابقة . ورغم ارتيابي بمحتويات الحقيبة الا انني فضلت السير بــ ( جنب الحيط ) على حد قول اخوتنا المصريين فهذا الامر لايعنينا لامن قريب ولامن بعيد لاسيما ونحن غريبان في بلد ما زال العراقيون يشكلون فيه رقما متواضعا بينما يطلق الليبيون وبالاخص ابناء بنغازي على المصري بأنه من الأخوال ( جمع خال ) بحكم توطد اواصر المصاهرة بين البلدين لاسيما في المدن الحدودية المتجاورة شرقي البلاد . وقد نبهت ابني رافد بتوخي الحذر فامتثل بالفعل لمشورتي . ويبدو ان ذلك الامتثال لم يعجب ساكني الغرفة واذا بي اصدم ذات مساء بالتحام بين ابني ومدرس الرياضيات حاولت قدر الامكان التدخل في امر ايقافه دون ان افلح الا بعد ارتطام رأسي بجدار احد الصفوف ، اطلق (علاء ) والذي يبدو انه كان تحت تأثير مادة مخدرة سيلا من الشتائم المقذعة بحق اسرتنا بعد حوار استفزازي بدأه المدرس مع ابني ، وهو السلوك الذي لم يحتمله ابني رافد فتصدى للمدرس الذي اثمله المخدر ليسرع بضرب ابني فيرد عليه الخير الصاع صاعين وانا بينهما اتلقى شظايا المشاجرة وأٌدفع الى الجدار !
في تلك الاثناء وقعت بيني وبين مدير المدرسة مواجهة حادة اصلها قيام المدرسة بتنظيم دورة تقوية للطلبة ، وخلالها زار المدرسة موجه ذو صلة بجوانب تتعلق بالنزاهة فطرح علي بعة اسئلة اجببت عنها بكل صدق وحيادية مما اوغر صدر المدير عليّ فبادر بسكب جردل شتائمه التي تضمنت عبارات مثل خائن وكذاب وغيرهما من مخزونه المثخن بمياه آسنة لا تليق بمربٍ يفترض فيه التحلي باقصى درحات التهذيب ، مما اضطرني للتوجه الى بيته من اجل السعي لتوضيح بعض الامور .وقد فوجئت بحسن استقباله وهدوئه اللذين اثارا استغرابي وحيرتي امام التقلبات السايكولوجية لنفسيته المرتابة بكل شيء غريب !
اما الحدث الثاني فتمثل بحفلة اقامتها المدرسة بتنظيم مدرس شاب يدعى عز الدين عبد العاطي اللواج وكان عضوا نافذا في اللجان الثورية وشديد الضيق بمسلك المدير المجافي للذوق والاخلاق . وقد فوجئ بأنني امتهن الادب ولي مجموعة قصصية وقد سبق لي ان عملت في الصحافة الكويتية ، بل كانت المجلة التي عملت بها على الرغم من تواضع مبيعاتها مدعومة من قبل الجهات الليبية والامر الثاني انني عملت محررا ثقافيا في احدى الصحف اليومية هناك . في تلك الحفلة قام اللواج بتعريفي لجمهور الحاضرين من مدرسين وطلبة واولياء امور بما معناه : اقدم لكم كاتبا معروفا في اكثر من بلد عربي .والواقع انني شعرت بنوع من الاحراج بحكم انطباع استحوذ على ذهني طيلة تلك الفترة مفاده ان هذا البلد لا يميل للادب ولا للادباء بل يحسبهم في منطقة الانظمة التي ينتمون اليها . المهم ان اللواج نقل ذلك الانطباع الى مدير المدرسة فأكتفى الاخير بزمّ شفتيه هاتفا :
ــ كذاب ! انه كذاب !
وقد سررت اثر الانطباع اللامبالي الذي ابداه المدير تجاهي لاعود الى شرنقتي التي تدرأت بها من أي مقتحم في بلاد الله غالب !
في تلك الاثناء علمت بأن مدير المدرسة ، واثر تقارير من اكثر من جهة فقد جرى تجريده من جميع مناصبه السياسية كعضو متنفذ في اللجان الشعبية وتسنمه مهام اخرى اضافة الى احالته على التقاعد وتكليف شخص آخر من تعليم المنطقة بادارة المدرسة . وقد اثلج الخبر عددا كبيرا ممن اكتووا بنار ذلك الطاغية الصغير كان من بينهم اولياء امور ليبيون وغير ليبيين اضافة لتوارد الاخبار بتورطه في صفقات فساد افاد خلالها من ميزانية المدرسة مجيرا اياها لصالحه وهو الامر الذي انعكس على نمط معيشته وتجلى في البيت الانيق الذي قام بتشييده . وقد تواترت اخبار اخرى تتعلق بصحة ذلك المدير تتعلق بانهياره الصحي اثر سماعه لخبر تجريده من منصبه ذاك لدرجة انه عاد للتدخين من بعد انقطاع طويل .

مع تعيين المدير الجديد الطيب القلب عبد العزيز الدينالي تنفست وكل من معي في المدرسة الصعداء . وقد بان الفارق جليا بين المديرين فالجديد كان اصغر سنا ويتمتع بطيبة اهل بنغازي الامس حين كان ابن المدينة يسافر الى مدن اخرى تاركا ابواب البيت مواربة وحين كان الجار جارا ، على حد تعبير المدير الجديد . وكانت ازمة حقيبة اكياس الحشيشة بمثابة التحدي الاول للدينالي الذي حاول كخطوة اولى رأب الصدع مقترحا عقد مجلس مصارحة مضيفا :
ــ النار تنشأ من مستصغر الشرر .. ونحن عموما نعيش وضعا سياسيا ملتهبا ، ولا يخفى عليك يا استاذ طبيعة العلاقة بيننا كليبيين ومصريين ذلك ان الكثير من امهات مواطنينا من مصر بمعنى انهم يعدون بمثابة اخوالنا ..
أوضحت له ان ابني هوجم من قبل المدرس علاء بعد اصراره على تصعيد الموقف واستفزاز ابني بالطعن في عرضه ..
ــ اعلم ذلك وأغلب الظن انه تصرف تحت تأثير المخدر ..
قلت : ــ سيكون علي السفر الى العراق لتفقد اسرتي بعد ان ارسلتهم مرغما
بسبب ظروف مادية بحتة ، وكليٍّ قلق من غدر علاء وصاحبه سالم .. ثم انني اعلم تمام العلم ان اثنين او ثلاثة مستهترين لا يمثلون شعبا بأكمله .. لقد تربينا كقراء ومحبين للفن على ايدي مصر الحانية .. وسوف اروي لك حادثة صغيرة مع مدرس زميل لنا في المدرسة من مدينة المنصورة اذ اتى لي باحد الطلبة ملتمسا مني اعطاءه بعض الدروس الخصوصية فامتثلت لطلبه وحين ازف اوان تسديد المبلغ حاول التملص من الامر فأخبرت اثنين من زملائه المصريين فأنكر المبلغ بل وجاءني غاضبا مربدا مزبد الشفتين الا انني بقيت صامتا لكونه من مدينة كوكب الشرق ام كلثوم التي يسري غناؤها في دمائنا ! مؤكدا له ان لمصر مكانة كبرى في قلوبنا نحن العراقيين رغم اخطاء السياسيين الا انني ابديت بعض المخاوف من غدر سالم وعلاء . فطلب مني ان اترك الامر على عاتقه ، ذلك ان جهة ما في تربية بنغازي ستقوم باستدعائي لبحث موضوع المشاجرة وحقيبة الممنوعات التي تسربت اخبارهما من هذا الطرف وذاك . وكل ما يتعين علي قوله هو ان الطرفين المتشاجرين اعتذرا لبعضهما كما ان عليّ ان المح الى عدم وجود اية ازمة بيننا وبين أي طرف مصري اوغير مصري في المدرسة فوافقت على مقترحه وبالفعل مثلت امام ذلك المسؤول الامني التربوي كشاهد وولي امر ومدرس زميل لمن اخطأ بحقنا وتم اغلاق الملف وبالتالي ابعاد شبح اية ازمة سياسية كانت او تربوية مما شرح صدر المدير الدينالي وارتفعت منزلتي لديه بل وان مكانتي كمراجع قد تعززت نحو الافضل وعلى النحو التالي : تعديل صيغة العقد بإضافة كتاب التأييد الذي تدبرت لإحضاره من العراق ما ادخلني من جديد ضمن فئة الدرجة الاولى زائد اربع علاوات وهو الامر الذي سيترتب عليه زيادة كبرى في راتبي المحلي والقابل للتحويل ، لكن يبدو ان تلك الاخبار السارة قد جاءت متأخرة اذ اختمرت لدي فكرة تقديم الاستقالة بعد اربع سنوات دراسية من التدريس في بنغازي نظرا للوضع السئ الذي كانت اسرتي تواجهه اثر زيارتي لهم خلال العطلة الصيفية . كما انني قد قمت وفي وقت مبكر بترحيل ابني الى البصرة كيما يستكمل تعليمه في بلده بعيدا عن اية تهديدات او دسائس تحوكها فئة من ضعاف النفوس .

يتبـــع الى الفصلين الأخيرين السادس والسابع

للراغبين الأطلاع على الفصلين السابقين:

https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/66245-2025-01-08-20-00-21.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1412 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع