القسم الثاني ـ الفصل الاول والثاني من كتاب ( مصطب الرمل ـ خمس سنوات في ليبيا
كتب : محمد سهيل احمد
القسم الثاني
شرقا في بنغازي
تمهيد : كانت الحياة في ركن مجاور للبحر مثل ( وادي جارف ) بضواحي سرت بسيطة نقية الهواء لكنها لم تخلُ من منغصات كان في اولها تأخر وصول رواتبنا لفترة تقارب السنة ! كما افتقد الوادي لأبسط وسائل التسلية : التلفزيون لعدم وجود مقهى ولو واحد ،اضافة لمشاعر الحنين لأسرتي التي تركتها في البصرة تحت رعاية زوجتي المرحومة ، ما حدا بي لتقديم استقالتي لأعود للبصرة وهي تتقلب على جمر العوز والحصار . وما هي الا سنة أخرى حتى جعلني تأزم الأوضاع أُقدم على خطوة اخرى وبمعية الاسرة بكامل افرادها لأتعاقد من جديد في العاصمة الاردنية عمان وليكون مكان تعييني مدينة بنغازي التي تتصدر مدن الشرق الليبي حيث فصول اخرى من المفاجآت والاسترخاء الواهم والمتاعب . وها هي حكاية السنوات الأربع التي قضيتها هناك :
الفصل الأول
مصر في ليبيا
بعد نفاد صبري وأنا في فندق الضيافة بعمان ــ بعيد استقالتي الأولى ــ ،منتظرا الحوالة الليبية بلا جدوى قررت العودة الى البصرة بعد ان اتفقت مع احد الأصدقاء على ان يقوم هو بإخباري فور وصولها . وهكذا شددت الرحال في رحلة العودة الثقيلة الوطء بسبب الغربة والاشتياق لدفء الأسرة المفتقد منذ ما يزيد عن السنة . لقد تبقى لديّ النزر اليسير من الراتب الذي تسلمته بالعملة الليبية لأقوم في عمان بتحويله الى دولارات ودنانير اردنية وعراقية .
صفقة خاسرة !
وبعد سكرة اللقاء التي طارت مع عودتي لمعايشة واقع الحصار المرير ، جاءت الفكرة لأسرع بما تبقى لدي من مال الى مديرية الجوازات من اجل تسلم الحوالة التي لم تكن من الدسامة الى الحد الذي يغري بي للإنفاق على سعة ، غير ان الحاجة كما يقولون امّ الاختراع . وما هي الا وعشرة أيام حتى وصل الإشعار بوصول الحوالة فندمت لتسرعي بالقدوم لبلدي ولرسوم السفر التي خفضت من اربعمائة الف دينار الى مائة الف وكلا الرسمين من الوزن الثقيل! خلال تلك الفترة اختمرت في خاطري فكرة توظيف المبلغ في مشروع استثماري كان بإمكانه ان يدر علي ولو جزءا من مصاريف الاسرة . غير ان اختيار من سألته المشورة وهو واحد من أصهاري كان الغلطة التي سأدفع فيما بعد ثمنها باهظا . لقد زين لي صهري ذاك فكرة شراء سيارة أجرة ليكون هو سائقها ومدخول العمل سيكون بواقع ستين بالمائة لي وأربعين بالمائة له . المهم سافرت من جديد الى الاردن لأعود بمبلغ الحوالة واسلم نصفه لصهري كيما يشتري تلك السيارة التويوتا السوبر. لم اكن اعلم أنني سأبتاع لرأسي صداعا طويلا سيتواصل معي لاثني عشر شهرا بأكملها .وسوف يتبين فيما بعد ان الفأس قد وقعت في الرأس اذ تبين ان صاحب السيارة السوبر التي اشتراها خال الأولاد كان مودعا في السجن . وكانت تلك الحقيقة اشكالية يمكن حلها بإجراء التسوية مع صاحب السيارة وهو في السجن مثلما يمكن استخدامها كذريعة ومصدر للمناورة والغش من لدن اكثر من طرف . وهكذا ضاع نصف المبلغ على صفقة خاسرة ، من دون شك !
وفي لحظة جنونية صنعتها ضغوطات الكم الهائل من الاحباطات ، وجدت نفسي مع الأسرة في عمان من جديد بعد قيامي بتصفية ما املك فالبيت قمت ببيعه بسعرزهيد بعد ان انفقت عليه تحويشة العمر، كما يقول اخوتنا المصريون ، اما السيارة فقد تخلصت منها بالأسلوب المتعجل نفسه . ولئن كانت رحلاتي السابقة ذات أهداف جلية ، فأن رحلتي الأخيرة كانت بلا هدف على الإطلاق انما كانت فرارا من دوامة العلوم الى دوامة المجهول!
وما هي ايام إلا ومبلغ البيت قد ذاب او كاد مع نفقات الترحل والبحث عن شقة في عمان والانقذاف من فندق الى آخر. غير ان ثمة من اخبرني بوجود لجنة تعاقدات قدمت للعاصمة الأردنية من اجل التعاقد مع مزيد من المدرسين العراقيين .وهكذا ابرمت العقد الثاني مع الجانب الليبي لأجد نفسي وأسرتي في ميناء العقبة متجهين الى مصر الكنانة عن طريق ميناء نويبع مرورا بال( بطنان ) وطبرق ومدن الساحل الليبي الشرقي الى ان وصلنا الى بنغازي بعد رحلة غصت بالأهوال قطعنا فيها ما يقارب الثلاثة الاف كيلومترا لأنني قررت إيداع الأسرة في بيت اختي بطرابلس لنجد أنفسنا غبّ الوصول أمام اكثر من مفاجأة كان في مطلعها رحيل اختي وأنجالها طلبا للجوء الإنساني الى المانيا عدا ابنتها الكبرى التي واصلت دراستها كطالبة هندسة اتصالات في جامعة الخمس احدى مدن الساحل الليبي والتي تبعد عن العاصمة بحوالى المائة وخمسة عشر كيلومترا ، شرقا . اضطررت الى إبقاء الأسرة في بيت صهري محمد لاعاود السفر الى سرت من اجل تنسيبي الى احدى المدارس الليبية ، لكنني لم اقع في حبائل الغلطة الأولى بعدم الذهاب الى زميلي الاستاذ المرحوم سعد ناصر بل توجهت اليه فوعدني خيرا طالبا مني تحديد المدينة التي ارغب في العمل فيها فقلت له بكل بساطة: بنغازي !
الى بنغازي
وبعد جولات مكوكية تبين من خلالها اضطراري للعودة لتعليم وادي جارف كيما اسحب أوليات مستمسكاتي التي يبدو انني كنت قد نسيتها على عجل اثناء اجراءات الاستقالة . وحين قدمت اوراقي للأستاذ سعد طلب مني الانتظار . وبعد ساعة او ساعتين تناولت فيها طعام الإفطار في احدى الاستراحات القريبة انبأني الاستاذ سعد بالموافقة على تعييني في بنغازي . لكنني وافاني بخبر صادم يتعلق بعدم موافقة الطرف الاول ( الليبي )على اعتماد نسخة الإنذار المنشورة في جريدة الراصد لدينا باعتباري مستقيلا ، وهي النسخة التي اعتمدتها لتحديد سنوات خبرتي والتي يحدد في ضوئها
نوع الدرجة ، فخلال التعاقد الأول منحت الدرجة الأولى زائد علاوة اما في هذا التعاقد فلم يعترف الجانب الليبي بكتاب الإنذار كونه مستنسخا وغير موثق ، وهي المحصلة نجمت عن اكتشاف عدد لا يستهان به من حالات التزوير التي مارسها بعض اباء جلدتي العراقيين في اضافة عدد من السنين نالوا لقاءه على المزيد من العلاوات ! اما انا فكنت صادقا مائة بالمائة وبعلم الصديق الاستاذ سعد الذي كنت واياه زميلين في كلية التربية وأيضا كمدرسين في مدرسة واحدة . لكن تعال اقنع الطرف الليبي ما جعلني اعيّن على الدرجة الثانية وكانت تلك المثابة الأليمة بمثابة تقهقر في المرتب كاد ان يصيبني في مقتل !
توجهت الى بنغازي وفي القلب غصة مبعثها خبر تراجع درجتي الوظيفية ،وأمضيت ليلة في فندق اطلس في شارع جمال عبدالناصر . ثم استضافني زميل الكلية محمد صالح ابراهيم في بيته بمنطقة الماجوري . وفي صباح اليوم التالي توجهت الى تعليم بنغازي لغرض تنسيبي على احدى مدارس المدينة . وما ان تسلمت امر التعيين حتى توجهت الى منطقة السلاوي التي تقع فيها مدرسة ( صقر الوحدة الثانوية ) .غير ان شعورا بالاكتئاب أبى الا ان يصاحبني والباص الميكرو يقلّني الى موقع عملي ، فعلى الرغم من ان بنغازي تعد ثاني اكبر المدن الليبية الا ان شوارعها وعماراتها تخلو من كل
جاذبية او جمال. المهم انني سلمت امر التعيين الى مديري الجديد (مفتاح ) الذي استقبلني استقبالا لا يخلو من خيوط جفاء خفية سرعان ما غفلت عنها لانهماكي بالتأقلم مع المكان الجديد إقامة وعملا .
كان مسعاي استئجار بيت قريب من اجل استدعاء أسرتي من طرابلس الا ان وفي اليوم التالي لمباشرتي في الدوام فوجئت بأفراد اسرتي امامي بعد ان خاب املهم في لقاء عمتهم ، شقيقتي وأولادها . وقد بعث قدومهم المتعجل في خاطري نوعا من القلق لعدم توقع وصولهم بهذه السرعة ومن دون تنسيق . ثم أنني لم اقم باستئجار بيت لغاية تلك الساعة . المهم انني ارسلت ابني الاكبر في طلب شطائر ومشروبات فعاد وقد ابتاع من الشطائر بمبلغ العشرة دنانير كله أي انه اشترى وجبة تكفي لطلبة فصل بأكمله وليس لاسرة تعدادها ستة افراد. المهم انني ابتلعت الطعم وقر قراري على السكن في المدرسة لحين الحصول على بيت مستأجر !
وهكذا كان ما كان !
لعل جانب من الجاذبية الذي منحته بنغازي لي ــ بصفتي زائرا من زوار الوهلة الأولى ــ يرجع الى تأثير بيئة وادي جارف المتمثلة بمهيمنة الصحراء ورمل الساحل الأحمر وجدب مدن الرمل . ذلك ما تجلى من الانطباع الذي صاحبني وأنا في الحافلة التي اقلتني من سرت ابنة البحر والصحراء . فبدلا من روابي الرمل التقت عيناي بسهل بنغازي الاخضر وبدلا من بيوت جارف الخفيضة تلتقي عيناي بعمائر بنغازي الشاهقة وبالمسطحات المائية التي تتخلل مداخل المدينة التي سأدرك فيما بعد انها
امتدادات للبحر باتجاه اليابسة . وبدلا من هياكل الرعاة المبثوثين بين مزارع الواحات ، ستبصر العينان حشود المارة في ( الفندق ) قلب مدينة بنغازي نصفهم من الوافدين من مصر يعملون في مطاعم المدينة ومدارسها
وأسواقها مانحين للمدينة ما ينبغي ان تتمتع به أية حاضرة في الدنيا : الكثافة السكانية . ان نفوس بنغازي يتجاوز نصف المليون وهو رقم مرتفع قياسا بعدد نفوس مدن ليبيا الاخرى ــ عدا العاصمة ــ فسكان سرت لا يتجاوز عدد نفوسهم المائة ألف حسب آخر إحصاء للمدينة . وعموما ستذكرني بنغازي بمدينتي البصرة بعمائرها القديمة وبيوتها البسيطة ودرابينها المتربة وعموم حياتها الشعبية المتلاقحة مع الحياة الشعبية المصرية ليس بحكم تواجد إعداد كبيرة من المصريين في المدينة ، كما اسلفت قولا ، بل بعلاقات المصاهرة بين الطرفين .ثمة أعداد كبيرة من الليبين هم في الأصل انصاف مصريين . ومثلما منح القادمون من ابناء مصرلبنغازي حسا شعبيا تتميز به عن بقية المدن الليبية المغرقة بوشوشات العواصف الرملية ، فأن المدينة أخذت من مانحيها مواصفات المكر والإدمان على المخدرات وصنع ( البوخة ــ الكحول المسكرة ) سرا وخصائص اخرى تتسم بها اية مدينة مفتوحة لكل قادم كالتهريب والقوادة والدعارة ، وهي مواصفات لا تقتصر على فئة واحدة ففي بنغازي تجد المغاربة والتوانسة ايضا ، وان أية جولة في أسواق المدينة وأرصفتها ستريك بائعات البسطات ممن كتبت عنهن في نصوصي القصصية السطور التالية : " انك لتعثر بين الباعة على نساء زنجيات .. تشاديات نيجيريات وأخريات من مصر ، مغربيات وتونسيات . " اما سوق الخضار الذي يتوسط منطقة ( الفندق ) قلب المدينة المتهرئ فتلتقي : " بدكاكين سوق الخضار المتراصة داخل ما يشبه قلعة عثمانية الطراز تقفل أبوابها بوجه اللصوص ومدمني الحشيشة آخر النهار .. بشر داخل الاقواس .. باعة سقط المتاع .. نشالون .. متعاطو حشيشة .. شواذ ومخنثون ، بائعات جسد في مدينة يلف البحر حولها اذرعا أخطبوطية من كل حدب وصوب " .
نسيج ملون
يمكن القول باختصار ان بنغازي فقدت على مر العقود مواصفاتها الاصلية لتصبح مدينة مصرية الطابع بترقيشات مغاربية افريقية وملامح عمارة ذات طابع ايطالي يتجلى في شبابيكها وطراز البناء الذي يميزها ، في حين ان طرابلس مدينة مغاربية الطابع وحسب، والمصريون قلة فيها ، وهي السمة التي تسم مدن الساحل الليبي حيث يتلاشي ( النفوذ ) المصري كلما توغل المرء باتجاه الغرب .ومن عائلات المدينة المعروفة عائلات البرغثي والمحيشي والدراجي والهوني والعبيدي والحاسي ، والضرّاط والفسي وغيرها ! وعموما بنغازي من الناحية السكانية بوتقة تختلط فيها الأصول العربية والرومانية واليونانية اضافة الى الشركس والاكراد رغم انهم قلة قياسا ببقية الأسر . كما ان هنالك عددا من العوائل القذافية والأورفلية والفرجانية ولكن بأعداد اقل من الوسط الليبي .
في البدء كانت مدن مثل طرابلس وبنغازي اشبه بواحات متكاسلة على رمال شواطئ البحر الابيض المتوسط قبل ان تنتهكها معاول الأمصار المجاورة لليبيا . في البدء كانت ليبيا وما زالت ، رغم هذه الانتهاكات ،
واحدا من اكبر غيتوهات ( الغيتو هو الحي السكاني المعزول ) ساحل يمتد لمئات الكيلومترات من مصر شرقا وحتى تونس الخضراء غربا .
وعودا الى بنغازي أقول ان هذه المدينة هي مصر أخرى داخل ليبيا بالتأكيد !
الفصل الثاني
ازمة سكن حادة
بعد صدمة الدرجة الوظيفية التي منيت بها اذ ذكر كتاب التنسيب تعييني على الدرجة الثانية ، وبهذا الانحدار فقدت نقطة اضافة الى علاوة واحدة ؛ برزت أمامنا معضلة اخرى تمثلت في الحصول على سكن يليق بأسرة بدلا من التكركب في غرفة بالمدرسة تجاور ساحة العلم حيث صار لزاما علينا الاستماع لصوت(مفتاح ) مدير المدرسة الجهوري وهو يردد التعليمات : يسار .. يمين ..الى الامام سر .. استعد .. إست .. ريح ! هكذا كان المدير ينطق ذلك الايعاز بعد ان حلّ محل مدرس الرياضة على نحو باعث على التندر رغم مرارة الوقوف لما يقارب نصف الساعة . كان أفراد اسرتي في وقت الاصطفاف شبه معتقلين في الغرفة الوسطى التي كان ينبغي ان تكون قاعة رياضية اومرسما او أي إشغال يمت للنشاط المدرسي بصلة إلا ان تمسي غرفة منام تنقصها الخدمات فلا حمام سباحة ولا مرحاض . لعلي الاكثر شعورا بالخيبة ازاء قراري المتعجل ببيع بيتي والقدوم الى اكبر غيتو في افريقيا يدعى ليبيا .
والأنكى ان زيارة لأحد مستوصفات المدينة كشفت لنا عن خبر لم يكن بالتأكيد في محله : امرأتي حامل !
تقضت بضعة ايام وأنا الهث من بيت الى آخر عسى ان اعثر على شقة او بيت شرقي الطراز بأجر مناسب . وأخيرا زارني احد سكنة المنطقة كيما نذهب معا الى بيت يمتلكه بحي السلام . وهو الحي الأقرب الى منطقة ارض قريش حيث المدرسة التي اعمل فيها . في الطريق روى لي ذلك المواطن الليبي حكاية صغيرة عن ذلك الحي ذاكرا ان شرارة الثورة التي قادها العقيد القذافي قد انطلقت في الأول من ايلول ( الفاتح ) عام 1969 ومن معسكر قريب من البيت الذي كنا سنستأجره . كان ذلك البيت عبارة عن مشتمل في الطابق العلوي يضم غرفة كبيرة واحدة مع الخدمات الصحية ، طبعا . مكثنا في ذلك البيت لما يقارب الأسبوعين قبل ان نكتشف عقبة مضافة على ما تراكم على صدورنا من عقبات ، وهي عقبة المواصلات لاسيما بعد التحاق الابناء كل في مدرسة . كان ابني الاكبر معي في المدرسة وابنتي الكبرى في مدرسة اخرى بعيدة نسبية عن موقع السكن مما تطلب توفير سيارة . وكيف لي ان اقتني سيارة وانا لم اتسلم دينارا واحدا من راتبي ولن افعل قبل مضي بضعة شهور ، كعادة المعنيين على ادارة شؤون المتعاقدين مع الجانب الليبي تديره نماذج في المؤسسات التعليمية برعت في سرقة امتيازات العقد المبرم بين الجانبين من تذاكر طيران الى سكن الى تسهيلات اخرى . ثمة قوانين تصب في صالح الطرف الثاني .. المدرس المتعاقد تم اغفالها وتمرير اجراءات ظالمة اخرى لم يتح للمدرس تمحيصها او الاعتراض عليها بسبب تلهفه على الالتحاق بما يناسب تخصصه من عمل يوفر له ما يطلق عليه إخوتنا المصريون لقمة العيش خاصة وان تجربة التعاقد كانت الى حد ما هروبا من واقع اشد مرارة تمثل في الراتب الذي خصصه الدكتاتور للمعلم الذي كاد ان يكون رسولا : ثلاثة الاف دينار فقط لاغير لي ما يعادل بضعة دولارات لا تكفي لاكثر من يومين او ثلاثة ضمن ما يسمى بعيش الكفاف ! ومن المؤسف اننا لم نكتشف هذه الفجوات في آليات التعاقد إلا بعد فوات الأوان !
في بيت الحاج رمضان
تلقيت عرضا جديدا بوجود بيت آخر قريب في موقعه من المدرسة التي كنت فيها ومدارس الأولاد . وهكذا أسرعنا بجمع حشيات النوم والمتعلقات القليلة التي تخص اثاتنا وقمنا باستئجار بيت ارضي شبه مشترك مع صاحب البيت رمضان وزوجته المعلمة نفيسة وابنتهما الوحيدة بيداء . ويا فرحة لم تتم ! فالبيت يقع في الطابق الأرضي اما شبابيك غرفه الثلاث فتطل جميعها على ممرات داخلية معتمة لا يصلها ولو شعاع واحد من أشعة الشمس ! وسيكون لتلك الحقيقة تأثير سلبي على صحتنا في قادم الايام. مشكلة السكن في ذلك البيت لم تكن في موقعه اللاصحي حيث لم يكن ولو شعاع واحد من اشعة الشمس يصل لغرفه الأرضية الثلاث ، ولا في عدم توفر أي مكان مشمس ننشر عليه ملابسنا بل في شخصية مؤجرة المشتمل وهي معلمة بدينة كابية البشرة لحد الازرقاق . فقد كانت تتدخل في شؤوننا تاركة ابنتها بيداء مهمة التلصص علينا كلما زارنا ضيف كان لابد من مروره بالمدخل الرئيس للبيت .
مع مقدم عيد الأضحى قام الزوجان بدعوتنا الى وليمة غداء تقبلناها شاكرين رغم ان الوليمة نفسها سببت لنا قدرا هائلا من خيبة الأمل اذ كانت على الشكل التالي : تقوم الزوجة بتقطيع لحم الخروف الى قطع تقوم بحشرها في أسياخ من الحديد ثم يقوم الزوج بشيّها في المنقل مناولا إياها سيخا تلو سيخ لنقوم نحن بسحبها في أرغفة الخبز . غير ان الضيق الذي نال منا لم يتأت من تعسر مضغ اللحم المحترق وغير الناضج بل من سياط شمس شهر ايار اللاهبة التي بقرت جماجمنا وسفعت جلودنا حتى خيل الي شخصيا انني أصبت بضربة شمس حقا . وحقيقة اننا صرنا نعاني صحيا من اثر تلك الوليمة التي لم أصادف نظيرها حتى في مضارب بدو وادي جارف ولا في الاردن حيث قمنا بتلبية العديد من الدعوات من قبل أصدقاء لنا ومعارف او من لدن أصحاب البيت الذي كنا نستأجره .
في قلب فاجعة الايدز !
قدم حزيران وقد ثقلت حركة زوجتي الحامل في شهرها الاخير مما أعاقها عن تأدية بعض الاعمال المنزلية . سافر أصحاب البيت الى اقرباء لهم في مدينة الخمس فنعمنا بوقت استثنائي تنفسنا خلاله عبق الحرية .
كنت قلقا ازاء حمل زوجتي بعد ان اكتشفنا في عام 1986 ان لديها ضيقا ولاديا بالصمام الأورطي ، غير ان احد الاطباء العراقيين طمأننا بأن إنجابها سيكون طبيعيا . لم اكن اتمنى إنجاب طفل في مثل ذلك الوقت الصعب لاسيما وانه سيكون الابن الخامس والذي سيزيد على أعبائنا الراهنة عبئا إضافيا . وكان المتوقع لوليدنا ان يبصر النور في الايام الاولى من الشهر وهاهي قد مرت عشرة ايام من شهر حزيران دون ان يخرج للدنيا ! لقد دخلت زوجتي مستشفى الجماهيرية الواقع في منطقة ( الفندك ) قلب بنغازي الرثّ في اليوم الثاني عشر من حزيران وها قد مر يومان دون ان تلد مما رفع من درجة قلقنا ونحن بانتظار الحدث الكبير الذي سبقه حدث كبير آخر تمثل في اختفاء ( شبشب ) زوجتي من غرفتها بمستشفى الولادة والذي كلتفي عشرة دنانير ليبية دفعتها من المبلغ الذي استدنته من احد المدرسين المصريين حيث لم نكن قد تسلمنا فلسا واحدا من مرتباتنا بعد ! تأخرت ولادة ابني الأصغر احمد ما يزيد عن العشرة ايام قدرتها بستة عشر يوما . لا ادري ان كنت على صواب ام انني كنت على خطأ في تقديري لعدد ايام التأخير . ولكن اهلّ وليدنا الجديد عصر الرابع عشر من حزيران بمستشفى يبعد عن مدينته البصرة بما يزيد عن الألفي كيلومترا .
المهم انني سألت عن سلامة زوجتي قبل أي سؤال آخر . وفي اليوم التالي غادرت زوجتي المستشفى الى مسكننا المستأجر لنلاحظ خلال ساعات ان عينيه كانتا صفراوين . واثر عودتنا من المستشفى عرفنا ان صاحب البيت وزوجته وابنته قد عادوا من سفرتهم التي استغرقت بضعة ايام . لا ادري من اخبرنا بضرورة وضع مصباح قوي الانارة وتسليطه على بدن الوليد منعا لإصابته باليرقان الولادي . خرجت كالمجنون للبحث عن محل للكهربائيات كيما اقتني ذلك المصباح فوجدت معظم محلات الكهربائيات مقفلة والمفتوحة أبوابه اعتذر عن عدم توفر لمبة بمثل ذلك الحجم المطلوب
الى ان عثرت عليه في احد السوبرماركتات القريبة وبسعر باهظ وصل الى 17 دينار ليبي . عدت بالمصباح وربطته أعلى سرير ابننا احمد . كان الجو حارا الى حد ما . وفي ساعة متأخرة من الليل تناهت إلينا رائحة عفنة من إحدى غرف البيت . لم اجد لتلك الرائحة تفسيرا . وكانت تباشير الصباح تشير الى مقدم نهار جديد . تتبعت اثر العفونة لاكتشف كيسا من النايلون مملوء بلحم متعفن علمنا فيما بعد ان المعلمة وزوجها وقبل سفرهما للاقرباء في مدينة الخمس قد قاما بإطفاء فريز الأطعمة المثلجة والذي كان يضم قطع خروف العيد الذي دعينا اليه .
كان ذلك الخبر اشبه بالصاعقة علينا لخوفنا من انتكاسة وليدنا القادم احمد
. اشرت على ابنتي الكبيرة بتقميط الصغير بشكل جيدا وإبعاده عن البيت . وهكذا وجدنا أنفسنا ذات فجر حزيراني نتراكض في الحارة المقابلة ونحن نحتضن الطفل الرضيع مبعدين اياه عن تلك الرائحة التي ازكمت الأرواح قبل الأنوف .كما اننا قمنا في الوقت نفسه بزحزحة أكياس اللحم المتعفن خارج كراج البيت الى الشارع ما ادى الى استنزاف قوانا وتكديس أنفاسنا بالغثيان الى ان وصلنا الى درجة الاطمئنان بابتعاد تلك الرائحة القاتلة ، ومن ثم عدنا الى البيت منهكي القوى بعد ذلك المجهود المضني !
وفي الحقيقة انني لم ارو حكاية سبقت حكاية فطائس خروف العيد تعرض لها ابننا الصغير احمد وكادت ان تقوده الى هلاك حتمي . فقبل ان نتوصل الى قناعة تركيب ذلك المصباح العملاق ، كنا قد راجعنا احد مستشفيات الطفل في بنغازي لغرض معالجة إصابته باليرقان . وقد أخبرتنا إحدى الممرضات بضرورة إيداعه في احد عنابر ذلك المستشفى من اجل وضعه في احد الأقفاص الزجاجية الخاصة بالمواليد الخدج كيما يسلط الضوء عليه ، لكن أمه رفضت الفكرة خوفا عليه من السرقة او الاختطاف وهي حوادث كنا نسمع بها بين الفينة والفينة . عدنا بالصغير الى البيت واقتنينا ذلك المصباح الذي عمل على التخفيف من حالة اليرقان لديه . غير ان احد زملاء المدرسة ويدعى الأستاذ بريك مصطفى، بعد مرور بضعة ايام صدمنا بخبر يتعلق بابنته الصغيرة ( رياحين) ٍ التي كانت مقيمة في نفس العنبر الذي كاد أبننا الصغير ان يرقد فيه الا وهو إصابتها بمرض الايدز هي وما يزيد عن الأربعمائة طفلا جلهم من الليبيين وقسم قليل منهم من جنسيات اخرى .
لقد احدث ذلك الخبر صدمة عالمية بعد انتشار الخبر . وقد اعتقل عدد من الممرضين والممرضات الاجانب والعرب في أعقاب الكشف عن تلك الجريمة . واتسعت دائرة الاتهامات وصار الكل يتهم الكل . لقد عشنا حينها ولسنوات قادمة طوال في كابوس ماحدث لنا هناك.
يتــبــع
689 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع