فطيرة الليمون بالميرينغ!
بقلم / لانه جلال چَرمَگا
كانت الساعة الثانية بعد الظهر من يوم السبت حين رنّ جرس الهاتف:
– «ألو، بونجور… هل لي بحجز طاولة لشخصين بعد ظهر اليوم عند الساعة الرابعة، من فضلك؟»
أجبته: «بونجور مسيو، نعم بالتأكيد».
– «أرجو أن تكون الطاولة معزولة، ليست في المنتصف، إنها مناسبة خاصة… عيد ميلاد والدتي. وبالمناسبة، ماذا تقدمون اليوم من أصناف المخبوزات والحلوى؟»
– «بكل سرور، لدينا كعكة الفراولة، كعكة البرتقال بالقرفة، إضافة إلى فطيرة الليمون بالميرنغ».
– «ممتاز! إذن احجزي مع الطاولة قطعتين من فطيرة الليمون».
السبت، أكثر الأيام ازدحامًا في المقهى. تتعالى الضحكات، تتناثر الأحاديث، والموسيقى تعزف أنغام الجاز في الخلفية. كنت أتنقل بين تحضير القهوة والشاي، تقطيع الكعك، تنظيف الطاولات وتقديم الطلبات.
وعند الرابعة عصرًا، فُتح الباب. دخل رجل في منتصف الخمسينات برفقة سيدة مسنّة أنيقة. تمسك بيده، وعيناها شاردتان، تبحثان في المكان كأنهما تستدعيان شيئًا مفقودًا.
كانت ترتدي قميصًا أصفر وتنورة زرقاء ومعطفًا بنيًا يزينه دبوس على شكل وردة. شعرها بدا مرتبًا بطريقة تخون اللمسة الأنثوية المعتادة؛ بعض الخصل خارجة عن الصف وأخرى مشدودة أكثر من اللازم… لكنها لمسة صادقة، لمسة ابنٍ أراد أن يعتني بأمه على طريقته.
– «بونجور مدام، لقد حجزتُ طاولة اليوم لشخصين».
– «بونجور، تفضل مسيو، على الرحب والسعة».
أشرتُ لهما نحو الطاولة رقم ٢، في زاوية هادئة. سحب الرجل الكرسي لوالدته، اطمأن على جلستها، ثم جلس قبالتها. تركتهما لحظات مع القائمة، قبل أن يعود بابتسامة دافئة ليطلب مني أن أضع شمعة صغيرة على الكعكة، احتفالًا بعيد ميلادها.
أجبته بلطف: «طلبك مجاب».
سجلت طلبهما: قطعتان من فطيرة الليمون بالميرنغ، فنجانان من القهوة السادة، إبريق صغير من الحليب البارد، وزجاجة ماء.
حين عدت، وضعت الشمعة على الفطيرة، أشعلتها وتمنيت للسيدة عيدًا سعيدًا. لم تقل شيئًا… لكنها تابعت كل حركة بعينيها: كيف رتبت الصحون، فناجين القهوة، المناديل، وكيف أوقدت الشمعة.
وفجأة، وبحركة طفولية، سحبت طبق الفطيرة أمامها كما لو وجدت كنزًا ثمينًا. لمعت عيناها، ارتسمت ابتسامة صغيرة بدأت من عينيها قبل شفتيها. كانت الفطيرة وكأنها منحتها حياة جديدة.
انسحبتُ إلى عملي. ورغم ازدحامي، كانت الطاولة رقم ٢ على يسار ناظري. لم أكن من الذين يسترقون النظر إلى الزبائن، لكن شيئًا فيها كان يلفتني دومًا.
اقتربت لاحقًا لأطمئن عليهما. وجدتها سعيدة، تتحدث وتأكل الفطيرة ببطءٍ ودلال، كأنها تحاول أن تُبقي طعمها حيًّا لأطول وقت بينما ينصت إليها الرجل بقلبه كله وبابتسامةٍ رقيقة. طلبا فقط تجديد القهوة.
وبعد نصف ساعة، تقدّم الرجل لطلب الفاتورة. شكرني بامتنان عميق، ثم قال وهو يعتذر:
– «سامحيني سيدتي إن لم تستجب والدتي كما ينبغي… إنها مصابة بالزهايمر. لم تعد تعرف إن كان اليوم شتاءً أو صيفًا، ولا إن كان عمرها خمسين أو ثمانين. لا تتذكر أن اليوم عيد ميلادها… ولا حتى أنني ابنها. لكنها حين تراني تقول أحيانًا: أشعر أني أعرفك».
تنهد قليلًا، ثم أضاف:
– «هي تعيش الآن في مركز رعاية المسنين. كنتُ قد أخذت إجازة لعامين لأعتني بها وحدي، فأنا وحيدها. لكن حالتها بدأت تسوء حتى خشيت على سلامتها. ومع ذلك، كل عام نحتفل بعيد ميلادها، نشعل شمعة، ونتناول فطيرة الليمون… الفطيرة الوحيدة التي لم تنسها. لقد نسيت كل شيء تقريبًا: رقصاتها على شرفة ضيقة في بيت قديم، وجه زوجها، لون غرفتها، وعناوين المدن التي عاشت فيها. نسيت صوتي وأنا أناديها (ماما) أول مرة، نسيت رسائل والدي، ورائحة المطر الأولى، وضوء عيد ميلادها الأربعين… حتى اسمها صار غريبًا عليها. لكنها لم تنسَ فطيرة الليمون».
قال وهو يبتسم ابتسامة يكسوها الألم:
– «حين تُقدَّم لها فطيرة الليمون، تبتسم. تغمض عينيها للحظة وتهمس: كانت أمي تبردها على حافة النافذة، والضوء يدخل من جهة اليسار… ثم تصمت، كمن تذكّر عمرًا كاملًا في لحظة واحدة».
كنت أستمع إليه بكل حواسي، أتابع تفاصيل وجهه وهو يسرد حكاية الألم والحب معًا. كيف يختار لها عطرها المفضل، يصفف شعرها بطريقته، يدير المذياع على محطتها المحببة، يشتري لها المجلات التي نسيت حروفها… كيف ينتقي الأزهار التي سقطت من ذاكرتها، لكنها بقيت في ذاكرته.
كل شيء ضاع منها… إلا فطيرة الليمون.
دفع الحساب، عاد إليها، سحب كرسيها، أمسك بيدها وحقيبتها، ألبسها معطفها ورتب ياقتها برفق. غادرا المقهى بنفس الهدوء والرقي اللذين دخلاه بهما.
أما أنا، فقد أثقلني الصمت لدقائق. التفتُّ إلى الفطيرة الصغيرة ذات الرداء الأصفر والأبيض، وصرتُ أفتش عن سرها.
يا فطيرة الليمون…
ما سِرّكِ؟
كيف عبرتِ فوق النسيان، وظللتِ الوحيدة التي ما زالت تقرع أبواب قلبها؟
قال لي: كلما تُقدَّم لها فطيرة الليمون، تبتسم. تغلق عينيها وتهمس:
– «كانت أمي تصنعها كل يوم خميس…»
فتعود لمعة خافتة إلى عينيها. كأن الذاكرة لا تُطفأ تمامًا، بل تختبئ في رائحة، في نكهة، في شيءٍ صغير… يشبه فطيرة.
لماذا بقيتِ أنتِ يا فطيرة؟
ما السحر الذي خبّأكِ في أعماق الروح، بينما ضاعت الأيام والأسماء والعناوين؟
ربما لأنكِ لم تكوني طعامًا فقط… بل لحظة حب صافية. قطعة دافئة من حضنٍ اختفى. ذكرى لم تُكتب بالكلمات، بل بالعطر، بالدفء، باليد التي قدّمتها يومًا بامتنانٍ عميق.
ربما لم تكوني طعامًا… بل ذاكرة على هيئة نكهة.
تركت في داخلي تلك اللحظة درسًا خالصًا، نقيًّا، لا يشوبه غبار :
فالذاكرة قد تخون،
لكن القلب… لا ينسى الطمأنينة.
* هامش يهمس برقة
———————
هناك، في آخر الحكاية، تقف الفطيرة التي لم يغادر طيفها الذاكرة… فامنحها حضن عينيك.
912 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع