السماوة : رمضان الأمس .. رمضان اليوم

    

     السماوة : رمضان الأمس .. رمضان اليوم

 

                               

     

 ذهب الزمان وتراكمت الأعوام ..

اللحظات تهافتت فأنتجت ذكرى ..لم يعد للذين ركضت بهم السنين عبر محطات الآمال الضائعة والحروب المستهترة غير فسحة من ذاكرة متعبة تعتاش على الجميل من الأيام  ؛ على قلتها ... وإن أنت التقيت أحداً من الذين سقتهم الأعوام مرّها واستعانوا بالصبر على التجاوز والعيش برضا كمتوالية انسانية تتوخى البقاء وتهدف لاقتناص غيمة أمل شاردة  لن تجد غير حسرة منفلتة لماضٍ تعيس ؛ ولكن  توازيها ابتسامة عريضة لمستقبل حتماً جميل ؛ تريد بهاءه لمن يأتي بعدها إذ هي تتصرف بنكران ذات وأمنية حالم / كيّس / وقور ..
 وبين الأمس المعتم / الدامس / المدلهم واليوم المنير / المبهج / الباهر يكون لاستخلاص الذكرى من الذاكرة والحكايات من الأفواه نكهته المميزة لأنَّ العودة إلى الزمن البعيد يغدو من نافلة التحسر وإطلاق آهة تقول : ضحكنا وكان الضحكُ منّا سفاهةً / وخيرٌ لسكان البسيطة أن يبكوا " .. غير أن قول المعرّي يوازيه قول المتنبي : " كلُّ عيشٍ ما لم تُطِبْهُ حِمامُ / كلُّ شمسٍ ما لم تكُنها ظلامُ .
التقيت بعضهم فكان يحدثني بفمِ ٍخسر الكثير من أسنانه وراحت الكلمات تتلعثم بأصوات ومخارج حروف ليست أصواتها ومخارجها . كنت أدرك وأنا أحدثهم أن ضريبة العمر باهظة  يجب أن يدفعونها صاغرين مهما أبدوا من اعتراض صارخ واحتجوا  بصراخ صامت .
رمضان أحد محطات ذاكرتهم يعودون إليها ليستعيدوا أجواء النهارات وأشذاء الليالي .. وإذا كانت النهارات ساعات عمل مرهقة يثقل فيها خواء المعدة نشاط الجسد فإنَّ الليليات تستحيل نهاراتٍ من نوع خاص .. ليليات تتناثر في فضاءاتها الألفة ، ويعود الود ، وتأخذ الممارسات الحميمية للتجمعات الإنسانية في أماكن اللقاءات الكثيرة من مثل المقاهي ، قارعة الطرق ومسطحات الأرصفة ؛ كذلك جلسات غرف الاستقبال " البرانيات " وألعاباً تتساجل بين لعبة " المحيبس " و" الدومينو" و" الطاولي " والتسبيح بمسبحات متفاوتة المنشأ لعل أفضلها وأثمنها المثيرة للتباهي...

  

واقصد بها مسبحة الـ ( يسر ) والتي تتباهى على الأنواع الأخرى من مثل ( باي زهر ) و( السندلوس ) و( البخور ) و ( الصدف ) و( الفيروزي) .  وكان رمضان حلقة الوصل والأثير لدى الجميع : الصائمون وغير الصائمين من رجال ونساء وشباب وصبية . تضج الأضواء في واجهات المحلات وتزدحم المقاهي ؛ وتعج الشوارع بخطى تراها افتقدَتها في أوقات  الظهاري وأوقات العصر حيث ينسحب الصائمون تارة بخواء أجساد أنهكها الجوع بعد عمل لا يكل وتارة بهمة مَن أبدى شجاعةً في تحمل وطأة الصيام ...

  

المقهى قاموس الجلسات وصفحاتها

كانت المقاهي هي السمة الظاهرة التي تشير إلى الاستئناس  في ليالي رمضان ؛ فثمة الكثير من هذه المقاهي تتوزع في السوق الرئيس والأسواق الفرعية والشوارع الرئيسية من المدينة ؛ دثرَ الزمان أغلبها وانمحت الآن من الوجود اللهم إلا في ذاكرتنا نحن الذين أصبحنا شيوخاً بعد أن كنّا نؤمها شباباً نعج بالطاقة والحبور رغم الفقر . كانت هناك مقهى راضي الدكَّه وتقع جوار بيت الحصيني جوار حمام السعداوي ، وقد جرفتها مياه الفرات في إحدى فيضاناته في الثلاثينات . وكانت هناك مقهى جبر ركّه على الكورنيش وأصبحت الآن عيناً على اثر فقد شيدت مكانها المحلات والشقق السكنية بطوابقها الثلاث ؛ وليس قريباً منها مقهى جاسم وهي مقهى كانت تقارع مقهى عبد الله حطحوط الكائنة في شارع مصيوي  وهما مقهيان اعتاد المعلمون ارتيادهما ا وكثيراً ما عاتب عبد الله بعض من رواده الذين انفضوا عنه وصاروا من رواد جاسم ، . وهكذا كان جاسم يفعل.. كانت مقهى عبد حطحوط تقع مقابل مدرسة سومر الحالية . وكانت واسعة وتتخذ مساحة ضلعين ، فهي مطلة على شارع مصيوي وعلى الزقاق الذي يتجه إلى السوق الكبير والذي يرتبط معه زقاق ( عجد ) آل بادي وعجد اجمية من اليمين ، وعلى اليسار عجد الحيّاك وعجد بديوي. وعرف عن مقهى عبد أنها تجمع للمثقفين الشيوعيين وخصوصاً المعلمين . وكانت على الدوام تخضع للمراقبة من قبل رجال الأمن ، ومنهم ( ارميض ) الذي اعتاد اخذ الرشوة ( ربع دينار ) من كل معلم شهرياً من أجل رفع تقرير يبعده عن الشبهة الملتصقة به ..  وفي السوق المسقف كانت هناك مقهى عبد جساب و تصلها بعد ان تلج سوقاً فرعية ( قيصرية آل حنوش ) وهي تغذي أصحاب وزبائن دكاكين السوق المسقف وكان عبد جساب يحمل صينية احتوت ( قوري ) وأقداحاً ويدور ماراً على أصحاب الدكاكين  تماماً كما يفعل الآن أولاد حسين القهوجي في مقهى سوق النجارين . ومقهى محمد الشيخ سعد مقابل سوق القصابين قريباً من مطعم حمزة الكببجي. وليس بعيدا مقهى الكرافة وكان يديرها صبري كصكيص ؛ أيضاً كانت هناك مقهى حاج حمود في ( عجد الخبازات كما يطلق عليه ) حيث تتخذ النساء الخبازات العاملات الخبز في بيوتهن مجلساً في مدخل العجد) وهي تقابل مطعم أحمد أبو الكبّة الذي كان يرتاده أبناء المدينة وريفيّوها حيث تقدم الكبّة المسلوقة على خبز مقطع ومداف بالسائل الساخن المستخلص من تسخين اللحم الذي يحشو هذه النوع من الغذاء الدسم والشهي واللذيذ . ومن خرج من مطعم أحمد لا بدَّ أن يدخل مقهى حاج حمود لتناول شاياً ساخناً يقتل بقايا الدسومة العالقة في الفم ويمنح اللسان ذائقة الحلاوة ... وكانت هناك مقهى سيد مجيد الواسعة والنظيفة التي كانت تنال جوائز الدائرة الصحية في المدينة لنظافتها وكانت على تخوتها سجاجيد إيرانية الصنع للجلوس عليها بدلا من الحصران . وكانت ثمة مقهى البنائين بجوار مطعم جواد الكبججي . وجوار فندق ( الأهالي ) في البناية التي تعود الآن لرزاق هلّول كان مقهى إسماعيل عمارة وعادة ما كان يجلس فيها المدرسون والمعلمون من مثل جليل حسن مدير إعدادية السماوة وإسماعيل افنين مدرس متوسطة السماوة ومحمد عبد حسن مدير مدرسة الرشيد الابتدائية وحربي عليوي مدير مدرسة الرشيد الابتدائية في ما بعد ( كل هذا في الستينات ) . وعلى امتداد السوق باتجاه سكة القطار وعند الانعطاف يميناً كانت هناك مقهى ( الهجع ) وكان صاحبها يطلق للمسجل بشريطهٍ المدور على بكرة اسطوانية أغاني سعدي وصديقة الملاية ومسعود العماريجي وكان روادها من الحوذيين ( العربنجية ) القادمين من ارياف بعيدة وليس لديهم مال يعملون به سوى هذه الوسيلة .

 

الذين يمتلكون عربات يدفعونها بايديهم اعتماداً على قواهم الجسدية أو تلك التي تجرها الحمير والعربات ( الربل ) التي تقل الناس إلى حي الحيدرية وحي الضجرية وحي باني ، أو اية وجهة يرومها الراكب . وعند انتهاء الشارع الذي يضم مقهى ( الهجع ) والتوجه يساراً باتجاه محطة القطار كانت على يمين الدرب في شارع مصيوي المرتبط بشارع المحطة مقهى ( شاكر حاج ناصر) . وكان هذا الرجل قصيراً ومربوعاً بسمنة ظاهرة ويمتلك روح الدعابة ويؤوم مقهاه الرياضيون الذين يتجهون إلى النادي الرياضي الذي لا يبعد سوى امتار ويقع مقابل جدار محطة القطار ( كانت بناية النادي متنزه طيلة فترة الخمسينات لحد منتصف الستينات ثم ارتأت حكومة تحويلة إلى نادي رياضي )

  


وحين نترك سكة القطار ونسلك الطريق باتجاه ثكنة الشرطة جوار دائرة البيطرة ندرك مقهى معمولة جدرانها من الطين وسقفها من البواري وجذوع النخيل والتي شيدت على ارضها مديرية البلديات وبلدية السماوة حالياً ، ويديرها كريم حاج محمد ( الذي يُطلق عليه لقب الشقي لشجاعته وقوته وعدم خشيته من العواقب التي قد تجلب له الضرر) .
ولا ننسى مقهى الحاج شلاكه في زقاق الجامع الكبير الذي يطلق عليه ( عجد موسكو) وكان هذا الرجل سريع النكته ويحفظ الكثير من الطرائف ليقصها على رواده وكان ذلك احد عوامل تحبب الرواد إليه والحضور إلى مقهاه وعادة ما كان رواده من السباب الذين يحملون الفكر الماركسي ويتظاهرون به . وكان بيته قريباً من مقهاه .

                  

وكانت ثمة ثلاث( كازينو ) بنيت بشكل مكعب في زمن عبد الكريم قاسم على ضفة نهر الفرات من جانب المدينة الكبير ويدير الكازينو التي بنايتها حمراء ( علي زغير ) وهي مكان لارتياد الشيوعيون كونها مطلية باللون الأحمر ، واللون الأحمر كما هو معروف لون الراية السوفيتية فيما التي مطلية باللون الأخضر يديرها (علي سلمان ) ويرتادها الديمقراطيون الذين يجاهرون باللون الأخضر شعاراً لهم . أما الثالثة فلونها اصفر وكان الناس يشير عليها على انها كازينو البعثيين رغم ان لا بعثي كان يجلس فيها كون البعثيين قليلين جدا في المدينة لا يتعدون أصابع اليد ، وحدثني الشاعر يحيى السماوي عن أن (( معاونية امن السماوة ( قبل أن تصبح مديرية ) كانت تخصص شرطيا لبعض المقاهي ... فالشرطي " رميِّض " كان مختصا بمراقبة جلاس مقهى غازي ، والشرطي جواد لمراقبة جلاس ورواد مقهى عماد ـ وكان " مانع " والذي أعتبره أشرف شرطي أمن في تاريخ السماوة مختصا بمقاهي صوب القشلة ( كان هذا الشرطي يرتدي العباءة ويعتمر الشماغ والعقال ـ وكثيرا ما يأتي إلى آبائنا ليخبرهم بضرورة إخفاء أبنائهم حين تصدر المعاونية أوامر بإلقاء القبض عليهم )...

  

أما الشرطي " رميِّض " فكان يخبر آباءنا أيضا ولكنه يتقاضى ربع دينار أو نصف دينار ( وله شبه راتب من المعلمين الشيوعيين ... فقد كان يأخذ منهم ربع دينار شهريا مقابل غض النظر عن تحركاتهم )) وكان رمضان حاضراً وأثيراً في المقاهي الأخرى . فمقهى كريم فرج التي تدخلها بعد أن تجتاز سوق الحدادين بقيت صامدة حتى اليوم ولو أن مقاعدها ( القنفات ) ومناضدها جاء عليها البلى فبدت متعبة تحكي زمناً كان يمنحها الشباب والرونق والبهاء فسرق منها كل شيء .. وحتى روادها لم يبق منهم إلا الشيوخ وكأنهم يرددون قول أبي العلاء المعري :

تحطمنا الأيامُ حتى كأننا / زجاجٌ لا يُعاد له سبكُ .

كانت هذه المقهى محل الجلاس الذين تشغلهم السياسة وما يدور في ذاك الزمان  حتى أطلق عليها تندراً ( مقهى البرلمان ) إشارة إلى مقهى البرلمان في العاصمة بغداد حيث كانت مقر للبرلمانيين السياسيين في العهد الملكي ... ولا يستثنى سوق القصابين من احتوائه على مقهى لأنَّ في وسطه اتخذت مقهى حميد حمزة وجوداً لها تستقبل الداخلين السوق وترفد القصابين برغبة شهيتهم إلى شاي ساخن تعقيبه سيجارة لها لذاذة بطعم السكر المذاب في الأقداح ( أين مقهى حميد حمزة الآن .. يا زمن ؟! ) .. وإذا كانت مقهى علي عمّار لشرب الشاي والارجيلة بعد صيام قاهر  قد اندثرت ؛ وإذا كانت مقهى حمد محسن قد استحالت محلاً لبيع " الشربت " فانَّ مقهى السيد ياسر ما زالت الوحيدة التي تتعافى وتصمد أمام رياح الزمن العاتية بفضل أولاده الذين اتخذوا من المقهى عملاً لهم وجعلوه موئل رزقهم جميعاً فهم على تواصل دائم في تحديثها متى وجددوها تستحق التحديث . وهذا اليوم يرتادها الشباب لشرب النارجيلة بل ويتخذون من دكات المحلات التي تغلق أبوابها ليلاً مكاناً للجلوس والتمتع بأنفاس نارجيلة حرموا منها طوال ساعات الصيام .
أما في الصوب الصغير فكانت هناك مقهى علي بك وتقع على الجانب الأيمن عند عبور الجسر باتجاه القشلة . وهي أقدم مقهى في الصوب الصغير وفي نفس الوقت تياترو وافتتحت في العهد العثماني أوائل القرن العشرين .. ثم هناك مقهى سيد إبراهيم الوائلي وقد افتتحت في الأربعينات وتقع في الجانب الايسر عند عبور الجسر من الصوب الكبير وبجوار جامع السنّة  . وقد قتل السيد إبراهيم من قبل كريم حاج محمد ، الملقب ( كريم الشقي ) على أثر مشاجرة وقد ضربه بالسيف على رأسه حتى قيل انقطع عقاله ونزلت الضربة على رأسه فاردته قتيلاً .. كذلك كانت مقهى شيخ هادي والد مدرس الرياضيات عبد علي وتقع في المكان المجاور لجامع مجلي . والملك يعود إلى مطرود آل عيدان وقد تحولت في التسعينات إلى محلات .. كذلك هناك مقهى حاج باقر الركابي وتقع مقابل كراج ( مرآب ) حاج وزير ، واغلقت في التسعينات .

البرّانيات .. مقاهٍ اجتماعية / حضور خاص
 
وإذا كانت المقاهي تتولّى مهمة جمع الصائمين فإنَّ مجالس البيوت ( البرّانيات) كان لها الدور الفاعل أيضاً في اللقاءات والتحاور والتداول الحديثي عن مستجدات الساعة والإحداث التي ينبغي أن تصل إلى مسامع الجميع ؛ ناهيك عن الفعاليات الجميلة التي تقدح الذاكرة وتعيد لها بريقها عبر المطاردات الشعرية والسجالات سواء في الشعر الفصيح أو الشعبي . ولعلَّ برانية الحاج رضا المطوّف في الحي الشرقي هي الأثقف رواداً . فقد عُرف عن الحاج رضا مُحدثاً قديراً ولبقاً ، يمتاز بسعة الصدر في اللقاءات والمحاورات التي تصل حدَّ النزاع ، وكان يمتلك مكتبة تملأ جدران برّانيته فتعطي انطباعاً بهيبة المكان وثقافة صحبه وزائريه ... وكانت ثمة لقاءات رمضانية في كل خميس في  " برانية " الشيخ مهدي السماوي حيث تجري المطاردات الشعرية وقراءة الجديد من الأشعار التي جادت بها قرائح الشعراء وعادة ما تتشح هذه الأشعار برداء الدين . وفي أواخر أيام رمضان تنتقل اللقاءات والسجالات إلى " برانية " الشيخ عبد الحميد السماوي فتكون أوسع ويزداد عد المشاركين والحضور . وفي الحي الغربي كانت الكثير من المجالس تجمعها ( البرانيات ) فهماك مجلس آلرباط ومجلس الشيخ مهدي السماوي ومجلس محمد غريب ومجلس الحاج علي أبو مكينة ومجلس آلحذاف ومجالس أخرى يجري فيها الحديث عن المتداول من اليومي ؛

  

وقد يتحدث فيها أصحاب الحكايات الطويلة التي تحكي الشجاعة والفروسية والصبر على الشدائد فكانت هناك حكايات ( ابو زيد الهلال ) و( أبو ليلة المهلهل ) وهناك مَن يشارك في الحديث عن الحرب العالمية الأولى والثانية وهو يستلها من قراءاته للكتب التي تناولت هذين الحربين بإسهاب .

    

وفي الصوب الصغير فكان جامع أهل السنة وكان عادة ما يؤومه المصلين ليلاً لأداء صلاة التراويح ويتحول بعد ذلك المكان إلى مجلس . ويكاد هذا المجلس ان يكون رسمياً حيث أن المجتمعين فيه أغلبهم من موظفي الدولي وهم غرباء من غير أهل المدينة في حين يشاركهم بعض من وهاء المدينة لإظهار الألفة والتواد . وعادة ما توزع في أثناء الجلسات والأحاديث والمطاردات الشعرية الحلوى وهي من نوعي (الزلابيا) و(البقلاوة) تأتي محمولة في ( صينية ) يحملها احدهم ويدور بها بين الجلاس .

  

الإفطار .. ما قبله ؛ والذي يليه

اعتاد السماويون كتقليد لا يختلف عمّا في مدن العراق الأخرى أن يمارسوا فعل التسوق ظهراً وتزداد حركة التسوق تدريجياً مع اقتراب وقت العصر حيث تدب الحركة في السوق لا للعمل بل لغلق المحلات والتوجه مبكراً إلى البيوت لأخذ قسطٍ من الراحة بعد نهار مضنٍ من العمل الدؤوب على عكس ما هو معروف في البلدان الإسلامية حيث يدخل المسلمون في سبات وتقل حركتهم في النهار وخصوصاً الصباح بينما يوظفون ساعات الظهر للتسوق والعودة إلى البيوت . وصفة نشاط أهل مدن العراق واستمرارهم في العمل  حتى في شهر رمضان هي ميزة تميزهم عن مسلمي البلدان الأخرى .

  


ولقد اعتاد بائعو الخضر بأنواعها من الكرفس والرشاد والكراث والفجل في خمسينات القرن الماضي وقبلها التجول في الأزقة قبل الفطور لبيع خضرهم ولتزويد مَن لم يخرج للشراء مثلما هم في همّةٍ لبيع خضارهم التي ستتلف إن هي بقيت لليوم التالي ومن هنا يجهدون لبيعها حتى بأرخص ألاثمان . وكان البائع يردد عبارته الشهيرة ( جاووش الفطور ، يا فجل ) .

  

وفي الإفطار يبدأ الصائمون بشرب نقوع قمر الدين ليقتلوا الظمأ لما تحتويه هذه المادة من سكريات وحموضة مطلوبة تنتعش لها المعدة التي أرهقها الظمأ والجوع ؛ ثم يكرعون الحساء ( الشوربة ) المعمولة من العدس والشعرية  . وعادةً ما تكون بلونين :  الشوربة الحمراء اللون حيث يضاف لها معجون الطماطة او عصارة الطماطة الطازجة ، والشوربة الصفراء الخالية من عصير الطماطة والتي يستعاض بخلط مادة الفلفل لإعطائها اللون الأصفر المحبب .

  

وبعدها يبدأ تناول المواد التي يدخل في عملها اللحم كالكباب أو كباب ( العروك ) الذي عادة ما يكون من نصيب موائد الفقراء الرمضانية حيث يُعمَل من خليط العجين والخضروات والشحوم ، أو الدولمة المعمولة من ورق العنب أو السلق وحشوتها التي هي خليط من الرز واللحم والبصل وبعض من العائلات الميسورة تضيف لها اللوز .

  

هذا إضافة إلى أنواع ( المرق ) الذي لا تخلو المائدة العراقية منه أبداً كمرق الباميا والباذنجان والشجر ( الكوسة ) والسبانخ  وغيرها .

  

وتكثر عادة أكل الحلوى في رمضان فيتجه أصحاب معامل الحلويات إلى عمل النوعين الشهيرين من الحلوى واللذين اختص وجودهما في هذا الشهر وأقصد بهما ( الزلابية ) و( البقلاوة ) و ( الكاهي ) حيث يتجه الصائمون لتناولهما لتعويض النقص الحاصل في السعرات الحرارية التي فقدوها طيلة ساعات الصيام . أمّا الفقراء من الناس غير القادرين على الشراء فكانوا يتناولون نوعاً آخر من أنواع الحلوى ويسميها الناس ( بقلاوة الفكر ) هذا طبعاً قبل خمس عقود من الآن ، وعادة ما تعملها الأُسر داخل البيوت وهي خليط من فُتاة الخبز المعجون بالسمن الحيواني يضاف فوقه الدبس السائل فيكون وجبةً تسر لها النفوس .
 بعدها ينهض الصائمون وقد ارتووا وشبعوا فتبدأ رحلة الخروج إمّا إلى الجوامع لأداء بعض الصلوات ، ثم التوجّه إلى المجالس ( وهذا ما يخص الشيوخ الكبار ) ، أوالى التجوال في الشوارع والأسواق وتناول الكرزات من حب بأنواعه وحمص وفستق ولوز .

 

واخيراً إلى المقاهي  للعب لعبة ( المحيبس ) الجماعية  حيث الشباب المفعم بالحركة واثبات الذات يتبارون ليفوزوا في النهاية بصينية البقلاوة والزلابيا التي تراهنوا عليها كتكريم أصولي للفائزين .. لكنه فوز يعم الجميع  وينتهي بأحاديث عن بطولات فردية صنعها هذا المتباري لإغواء الباحث عن المحبس الخبيء أو الإخفاق الذي ارتكبه ذاك فجعل المحبس يسقط من يده جراء الخوف وعدم مسك الزمام بصورة صحيحة .

وماذا عن اليوم ؟؟؟

اليوم تغير الزمان .. صار للتكنولوجيا هيمنتها ؛ ولمتطلبات الحضارة سطوتها .
الرجال : الكهلة والشيوخ صارا يصرفون الساعات .. ساعات ما بعد الإفطار  مشدودين إلى الشاشات التي تنقل لهم فحوى العالم في هياجه وجنونه / تقادمه ورؤاه  / تطوراته وتغيراته / عدوه الحثيث باتجاه اقيانوسات الاختراعات المذهلة .
الشباب يتحيّنون الوقت للاندفاع إلى مقاهي الانترنيت ليلجوا من بوابات العالم المتمدن ولينهلوا لردم الهوّة التي اكتشفوها كم هي واسعة تفصلهم عن العالم المتحضر .
انتهت المجالس .. وماتت المطاردات الشعرية .. ذهب المحيبس ولم يبق إلا ذكرى في ذاكرة الواقفين في محطة الانتظار  ليقلهم قطار العمر المتبقي إلى محطات الرحيل الأخيرة .. إلى اقيوناسات العدم .

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1288 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع