الراديو. الراديو. يا ما أحلى الراديو!
إذاعة العراق الحر/ خالد القشطيني
العراقيون قوم متعطشون للتجديد و كل ما هو جديد. و كان العراق اول دولة في الشرق الاوسط تدخل التلفزيون و تقيم اول محطة تلفزونية. و كذا كان الأمر بالنسبة لأدخال الراديو. ما ان انتهت الحرب العالمية الثانية حتى اجتاحت البلاد موجة من الجري و التهالك على البضائع و المعدات الحديثة التي اخذت تتدفق على البلد.
بانتهاء الحرب العالمية الثانية، اخذت اجهزة الراديو تظهر ثانية في الاسواق بصورة تدريجية . و راح الناس ينظرون اليها في فاترينات المخازن و يتفرجون عليها بشره و شوق و يتطلعون الى اليوم الذي يستطيعون فيه اقتناء واحد منها للبيت.
و بالفعل سرعان ما حل ذك اليوم الميمون و ذهب والدي رحمه الله لشراء راديو من ماركة مولارد الانكليزي . و كانت من احسن انواع الماركات ، فلم يكن سونيو و هتاتشي قد خرجا من بطن امهما عندئذ. و في ذلك اليوم المشهود، اعلن عندنا اضراب عام في البيت. فلم نذهب نحن الاولاد للمدرسة. و لا دخلت والدتي رحمها الله المطبخ و اكتفينا بأكل الجبن و الخيار،اذ انشغلت طوال الصباح في تنظيف البيت و ترتيب الاثاث و نفض الستائر،البردات،و السجاد و غسل عتبة الدار استعدادا لوصول هذا الضيف المهم: الراديو .
و جلسنا جميعا في غرفة الاستقبال ، نفرك ايدينا و نضرب الارض بأقدامنا و نردد : " إن الله مع الصابرين". ننتظر بشوق غامر وصول الضيف الكريم.
و بالفعل،و ما ان سمعنا حوافر الخيل و وصوت العربانة التي يجرها حصانان ( في هذه الأيام يجرها حصان واحد) حتى هرعنا و كأننا كتلة واحدة، لنفتح الباب و نقدم الولاء والطاعة . و التففنا في كوكبة حول والدي و هو يحمل الصندوق الى البيت، و يصرخ احدنا في الآخر:
ابعد يا مؤيد! لا تكلكل بأنفاسك عالصندوق... و انت يا مظفر لا تتدافع...ابعد شويه،الله اكبر عليك... قولوا باسم الله و اتعوذوا من الشيطان يا اولاد ...
و في هذه الاثناء كان اخي احسان فوق سطح الدار منشغلا بتركيب صاريتين كل منهما بارتفاع صارية علم وزارة الدفاع و أطول ، ثم ربطهما بسلك الفقي ثم ربط السلك هذا بسلك آخر عمودي مازال يمتد به حتى اوصله الى غرفة الاستقبال. شنو هذا؟ قلت له و قال : " هذا الاريال " و عندئذ تيقنت تماما بأنه لا يوجد شيء في العالم لا يعرفه اخي احسان.
" باسم اللله الرحمن الرحيم." قال والدي و فتح الصندوق المقوى و اخرج راديو المولارد . و ما وقعت عليه اعيننا حتى هتفنا في جوقة واحدة : الله!"
والغريب ان ذلك الراديو المولارد كان يشبه بني آدم في هيئته و شكله . راديوات هذا الزمان مجرد مكعبات تجريدية آليه لا تمت للبشر بصلة. اما في ذلك الزمان فقد كان لها وجه يشبه شكل الانسان. كانت قمتها محدودبة بيضوية كرأس الانسان ، او بوجه الدقة مثل صلعتي تماما. وفي الوسط فتحة السماعة و حولها و تحتها الازرار المختلفة و بينها مؤشر الموجات ، تماما مثل العينين و الانف و الفم لبني آدم . كانت في الحقيقة راديوات آدمية و بنت اوادم. . و لاعجب فقد كنا عندما نستمع الى الراديو نصر على رؤية وجهه و نجلس امامه ونكلمه. و عندما يقف احد بيننا و بينه نقول له : ابعد من هنا يا ولد. سديت وجه الراديو عني."
و هكذا، وضعنا الجهاز على الطاولة و ربطنا الاسلاك و ادرنا الزر و اذا بزوبعة من الاصوات العجيبة ، صفير و نخير و شخير، و لكنها ما فتئت حتى انجلت عن البث الاذاعي و صوت فريد الأطرش يغني " يا عواذل فلفلوا...لا قال لي ولا قلت له" ...
ومددت يدي الصغيرة الى احد الازرار ، زر الذبذات الاذاعية واذا بالأغنية تختفي و يموت صوت فريد الأطرش و يحل محله ذلك الصفير و الشخير. و يهرع اخي مظفر يصرخه بي " جر ايدك يا ولد من الراديو." ثم يضربني على يدي ضربة جعلتني اصرخ و انحب و اسب فريد الاطرش و اعود لغرفتي لأبكي حتى استولى علي النوم. و منذ ذلك الحين و انا اكره اغاني فريد الأطرش. و احب الراديو كما احبه مطربنا الكبير عزيز علي : الراديو ، الراديو ، يا ما احلى الراديو."
625 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع