كلام شياب من ايام زمان...

  

          كلام شياب من ايام زمان...

 

         

بغداد لم تعد كما كنا نراها نحن شيوخ اليوم ممن اجتازوا العقد السادس من العمر فلقد كانت تختلف وكل شيء فيها يختلف حتى الهواء والماء وحتى الشمس والقمر ونهر دجلة وحتى البشر .

    

هوائها لم يكن ملوثا ولم نكن نرى عواصف ترابيه ولا بارود المفخخات الارهابيه ومائها اصبح مستوردا في علب بلاستيكيه بعد ان هجرنا دجله الخير ولوثناه وجعلناه مكانا لرمي النفايات....

       

والقمر لم يعد رمزا للعاشقين يتناجون فيه بل اصبح مشكلة يختلف فيها الناس و حتى الشمس لم تكن قاسيه علينا كما هي الان والفصول الاربعه تغيرت اين البرد في الصباح عند ذهابنا الى المدرسه ونحن نفرك ايدينا وانوفنا حمراء والبخار يتصاعد منها اين الربيع الزاهي الذي تحول الى ترابا و عواصف وحشرات وامراض ؟؟؟

       

كل شيء اختلف و حتى النساء كن اجمل واكثر انوثه وهن تحت تلك العباءه السوداء الجميله ولم يكن هناك عمليات تجميل ولاتكبير ولاتصغير ولا شفط دهون ولا سليكون ولامعجون كانت المرأه جميلة ببساطتها وعفويتها كانت تعلن عن جمالها من مسافه بعيده بمكياج بسيط  وبدون تكلف وتصنع ولم نكن نشاهد شابه سوداء وعيونها خضراء اوشعرها اصفر تلك مفارقات لم تكن مألوفه وكنت ترى بنات الثانويه وهن كالورود وشعرهن ملفوف الى الخلف ( ذيل حصان) ويحملن كتبهن بطريقه ملفته للنظر والشباب هنا وهناك بين الازقه او في محطات الباص كل ينتظر محبوبته ليحصل عل ابتسامه او نظره ,
حتى اسمائنا كانت احلى وطعامنا كانت فيه نكهه ولذه واصبح اليوم بلا طعم ولالون ولارائحه ولانكهه ...

  

من منا لايذكر رائحة الخيار التي تملىء البيت ورائحة الطبيخ من بداية الدربونه ورائحة الخبز والتنور ومنظر (الرگيه) تحت محمل حب الماء..

  

وطرشي حنانش والطابوق الفرشي الاصفر وحنفية الماء الوحيده في وسط الدار,, كانت حياتنا بسيطه يكفينا الراديو باخباره واغنية المطربه ملك صباح الخير يالولا في الصباح واخبار الساعه الثانيه ظهرا يكفينا ولم نختلف يوما على برنامج او قناة ,,

  

لنعود الى مطبخ الوالده مع طبخة من الباميا والتمن والخبز الحار من التنور مباشرة ,, واليوم ياتونا بلفافه (كنتاكي) لاندري ما بها ومن اي شيء صنعت ,,

         

حتى الطرقات والشوارع كانت اقل ازدحاما واجمل وانظف وكانت جوله في شارع الرشيد تبدئها من محلات جقمقاجي والى شارع الخيام لتناول وجبة فلافل من ابو سمير الفلسطيني لاتوجد الذ منها ثم تغادر وانت تقف امام البلداوي وهو يعلن عن اربطة العنق الملونه الجميله ويأخذك الوقت وانت تقلبها  ثم تعرج على سينما روكسي وريكس وتشاهد ما معروض من اعلانات الافلام..

     

حتى تجد نفسك امام حسو اخوان وبضائعه المشهوره لتنظر الى الجهه المقابله لتسمع صوت جهاز التسجيل لمحل شاهين لبيع الاسطوانات وهو يعرض احدث اسطوانه  وبجواره تقف عند محل (كوكو) الارمني اللبناني وهو ارقى خياط قمصان في بغداد ..

  

وتأخذك قدماك الى فندق (تايكرس بالاس) قصر دجله الذي كان ينزل فيه المشاهير ومنهم اجاثا كريستي الكاتبه البوليسيه الشهيره ثم عراق سبورت والخضيري والتجهيزات الرياضيه ...

  

وتستمر حتى تقف قليلا امام سينما الزوراء ومقهى المربعه وسيد سلطان علي وسينما برودواي واورزدي باك وعالم الاطفال وسينما الوطني وسينما الرشيد هذه بغداد كلها مجموعة هنا ...

   

وتجلس لتستريح في مقهى البرازيليه لترتشف فنجان من القهوه وانت تنظر الى رواد مطعم عمو الياس ورواد شارع الرشيد والمتبضعين وارباب الحرف ..
كانت حياتنا بسيطه ومليئه بالاحداث والصور الجميله كان صغارنا سياسين افضل من سياسي اليوم وكبارنا فقهاء وشبابنا ثوريون وكان تلميذ الخامس الابتدائي يخط اللغه العربيه ويكتبها افضل بعشرات المرات من طالب الجامعه الحالي الذي لايفرق بين الظاد والضاد كانت مدارسنا  افضل تعليما وثقافة وادبا واحتراما وانضباطا ,, لم نكن نعرف الحواجز الكونكريتيه ولا نعرف الطائفيه ولا العمليه السياسيه ولاالمحاصصه الامريكيه ولا التدخل السريع ولا البطيء ولاندري ماهو الارهاب والكواتم والخطف والابتزاز كنا نرى قسما من هذه في الافلام الاجنبيه ولم نسمع يوما عن الاباده الجماعيه واذا حصلت جريمه في البتاوين يبقى اهل الجعيفر والكاظميه يتحدثون بها ستة اشهر...

  

ولم تكن الشرطه بهذا العدد الهائل لقد كان شارع الرشيد بجلال قدره يقف فيه من بدايته من محل جقماقجي وحتى نهايته في ساحة باب المعظم  ستة افراد من شرطة المرور فقط وبذلك اللباس الجميل والنطاق والمسلح الابيض والخوذه الفلينيه البيضاء المدببه والصافره في فمه ولاتبطل يداه من الحركه والامور تسير بسلاسه وتحت القانون كان شرطيا واحدا على فرسه يدير قريه وربما ناحيه بكاملها ليس تخويفا وانما احتراما لسلطة القانون التي يمثلها  ,,

    

لم نكن نكلف اهلنا بطعام العشاء فاكثرنا كان يتناوله خارجا في المحله اما ان يكون صحن باجه من ابن طوبان اوكم شيش معلاق من ناجي ابو الفشافيش او شيشين كباب من بخشي الكبابجي او يتبرع احدنا ويذهب بدراجته الهوائيه لجلب الكباب من مطعم مهدي الكبابجي في الصالحيه والذي لايتمكن ماديا كان يتناول ماتبقى في قدر العائله من مرق وخبز,,

  

كان الوقت ما بعد الظهر فسحه للنساء وام البيت للتزاور والحديث والراحه لانها غير معنيه بطعام العشاء وتراهن يتجمعن مع بذور الحب والسيسي والباسورك والبطم والشاي والكعك والكليجة والاحاديث الحلوه  ,,

    

كان فطورنا بسيطا ومن نوع واحد ولم يكن متنوعا وكنا نتجمع حول منقلة الفحم وقوري الشاي وشوي البيض على الجمر و لم نكن نعرف الكولسترول والاصباغ الغذائيه ولا المواد الحافظه...

  

وكنا نجتمع على صينيه واحده وخاصة في اكلاتنا البغداديه مثل تشريب الباقلاء واللوبيا الحمراء ومحروق اصبعه ( المثروده ) والباجه ولم يكن احد يتأفف او يمتعض من اكل او فراش او ملبس ,, كنا في قناعه وسعاده غنينا وفقيرنا  ,,

    


لم نكن نعرف المكيفات والسبلتات والمبردات وكنا في فصل الصيف نجد العاكول على شبابيك الدور لتبريد الغرف والسراديب البارده 

  

وعند الغروب تصعد النساء الى السطح يكنسنه ويرشنه ويفرشن الفراش ويضعن التنكه المملوءة بالماء وعليها غطاء وبجانبها قدح وركيه مفتوحه  ,, لم نعرف الثلاجات الا في وقت متاخر وكانت ثلاجة البيت تنقسم بين الدولاب الذي يوضع فيه الطعام وبين الحب الذي فيه الماء وبين السله المعلقه في السقف وفيها بعض انواع الاطعمه خوفا من القطط والفئران ,,
هكذا كانت حياتنا جميله وهادئه ومتاخيه متالفه بدون احقاد وبدون انانيه ,لم يكن فينا من يبات ليله وهو جائع كنا نآزر بعضنا بعضا ولم نرد يوما فقير من على باب ولم نسأل جارنا ان كان شيعيا او سنيا اوصابئيا او كرديا او عربيا كنا اذا حصلت فعاليه اجتماعيه ترى الجميع مجتمعين يشاركون ويساهمون ويتفاعلون كان شباب المحله حريص وغيور على بناتها وكبارنا رؤوف في اطفالنا كانت المدرسه فعلا مدرسه والمعلم كان ابا وعما وخال وكانت له هيبه واحترام وكان الرجل الكبير موقر في الشارع والمقهى والبيت والاخ الكبير له مكانته ,, لقد كنا نعرف العيب والحياء الذي غاب عنا اليوم و فسدت اخلاقنا فهل كنا على خطأ؟؟هكذا كانت بغداد ايام زمان الم اقل لكم انها ليست كما كانت !!!!!!!!
عبد الكريم الحسيني

            

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1269 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

تابعونا على الفيس بوك