كلام عن بغداد/الحلقه الثانيه
التنزه والترفيه والانس والطرب
لقد تعود سكان بغداد منذ انشائها الى العيش الرغيد والزمان الطيب اللذيذ والاوقات الجميله والحياة الصافيه ان كان ذلك بالماضي البعيد او الحاضر القريب ولقد تعودوا ان ينظموا حياتهم وفق مناسبات معينه لغرض الترويح والتنزه في الحدائق والبستاين وخاصة اوقات الربيع ليقضوا اواقتا جميله بين ربوع خضراء واغاني وموسيقى ..
لقد تحدث الكثير من الكتاب والمؤرخين عن بغداد ومرابعها وحدائقها وبساتينها ومطربيها وفرقها الموسيقيه ولذلك نجد البغدادي مولع بالحدائق ويولي اهتمام خاص بحديقة منزله ويبذل جهدا كبيرا في عنايتها وخاصة العمه النخله ويذكر المؤرخون ان البغداديون كانوا يتخذون مقاعد على ضفاف الانهار ايام الحر ويأنسون للماء المتدفق من تماثيل الحيوانات كالاسود والطيور والاشجار ويمارسون التنزه في قوارب متنوعه في دجله مزينه بنقوش وفيها غطاء يقي الشمس وتعتبر هذه النزهه من اجمل مايكون وخاصة في المناسبات حيث جمال الطبيعه واعتدال الهواء والاستمتاع بالقرى الجميله التي تلف ضواحي بغداد ..
وزع البغداديون ايام الاسبوع المخصص للترفيه والتنزه وهو غالبا مايكون في مطلع الربيع وخاصة اذا ماصادف بين الاعياد او بعدها مباشرة ويسمون هذه النزهات ( الكسله ) وهي مأخوذه من الكسل اي الراحه والاستمتاع وقد اعتاد البغداديون ان يكون التنزه في اماكن متفرقه ولاتنحصر بمكان واحد وانما تتوزع على اماكن عده منها مقامات دينيه او بساتين او قرى قريبه ولاهل بغداد نظام معروف ظل الى فتره قريبه من الزمن في تنظيم الزيارات والتنزه حيث تخرج النساء ومعهن الافرشه والامتعه والطعام وكل مستلزمات السفره او الكسله كما كانت تسمى سابقا ومن النظام الذي كان معتمدا في تلك الفتره والبعض منه لايزال معمول به هو توزيع ايام الاسبوع كما يلي في زيارة مراقد الائمه والاولياء والصالحين ..
يكون يوم الجمعه للامام ابو حنيفه النعمان المتوفي ( 150 هجريه )...
ويوم السبت زيارة الامام موسى الكاظم المتوفي 183 هجريه ) ويوم الاحد زيارة مريم بنت عمران في كرادة مريم والسيد ادريس في الكراده الشرقيه ويوم الاثنين كان مخصص لزيارة مرقد الشيخ عمر السهروردي ويوم الثلاثاء للشيخ عبد القادر الكيلاني
ويوم الاربعاء لزياره الشيخ الجنيد البغدادي فيما خصص يوم الخميس لزيارة الشيخ معروف الكرخي ..
ويعتقد ان هذا الجدول المتلاحق كان بدافع ادامة زخم التنزه والترفيه والتعطيل للراحه والكسل الذي يحتاجه رب الاسره مع اسرته بعد عناء العمل المستمر الذي يقضي فيه كل وقته وليس بالضروره ان تتم جميع الزيارات في اسبوع واحد بل قد تتوزع الاسابيع الاحقه,,
وكانت الالات الموسيقيه وخاصة الطبله والمزمار ترافق المتنزهين او تتواجد في هذه الاماكن لتضيف على الكسله بهجة وانسا حيث يقوم البعض بالرقص اوالغناء والاطفال يطربون لهذه الموسيقى والاهازيج . وقد يستغرب البعض من تواجد الفرق الموسيقيه الشعبيه مع الناس في المراقد الدينيه والسبب هو غالبا ماكان تكون الزياره نذرا او طهورا او زواجا اوغير ذلك اضافة الى مجود هذه الفرق في البساتين والمزارع ..
وقد اشتهر البغداديون بغناء المقام ولهم فيه باع طويل ومطربين كبار وكانت جلسات المقام تعقد في المقاهي او في صالونات الادباء واشتهرت بغداد بهذا النوع من الغناء والذي كان يتالف من شعر مغنى تتبعه بسته من الكلام الشعبي ومعهم الجالغي البغدادي كم اشتهر نوع خاص من الغناء هو المربعات وهي اقرب الى المنولوج يصاحبه فرقه كورس وطبله او اكثر من الالات الشعبيه البسيطه .. ون المشاعير في هذا المجال( الملا عثمان اموصلي ) ومحمد الكبنجي ورشيد القندرجي وحسن خويكه وغيرهم .
كان البغداديون يخرجون ايام الربيع الى ضواحي بغداد في الاعظميه والكراده وخاصة الى مزارع الباقلاء او الخس ومزرعة الخس في ساحة النصر الحاليه اكثرها شهرة في تلك الايام ولطالما شهدت هذه المناطق الكثير من الحفلات والبهجه والانس والطرب اما باقي اهالي بغداد الذين لم تسنح لهم فرصة الخروج الى الضواحي فانهم يتنزهون في نهر دجله وركوب الزوارق والغناء والصعود تجديفا الى منطقة العطيفيه وجسر الصرافيه والعوده واذا جن الليل ترى الزوارق مزينه بالفوانيس والبهرجه وصوت الاغاني والمربعات يصل من بعيد ..
في فصل الصيف وعندما ينحسر الماء قليلا في نهر دجله تظهر الجزر( الكاوريه ) ويستغلها الشباب في انشاء الجراديغ ( الكبرات ) وبعض الجزر تراها ليلا مكانا مناسبا للشباب الذين يتحلقون بمجموعات صغيره لشرب الخمر والغناء ويعودون الى شاطيء النهر في اخر الليل بواسطة الزوارق . وتعتبر الجراديغ مكانا اشبه بالساحل او الشاطيء الذي يستفاد منه نهارا للسباحه وليلا للانس والطرب والترفيه وسكف السمك وقد شاعت في عشرينات القرن الماضي هذه الظاهره وتزايدت حتى قيل فيها بعض الشعر :
يعجبني نزله وياك للكاوريه لو حكمي سبع سنين لودن علي
والمعنى اي لابد لي من مرافقتك للجزره حتى لو سجنت سبع سنين او فرضت علي غرامه ثقيله ,, فقد كانت الكاوريه هي الرئه التي يتنفس منها الشباب ويعودون صباحا الى اعمالهم وكانت تكتظ ليلا بالزائرين والعزائم وخاصة في الليالي المقمره للتمتع بنسيم الهواء البارد ورائحة نهر دجله الفريده والاستماع الى المقام العراقي والدنابك ( الطبله ) والمربعات والبوذيات وتقاسيم العود الدفوف ..
ومن صور بغداد الجميله كانت فنون الغناء والموسيقى والطرب والمرح فقد كانت اللات الموسيقيه مثل العود والقانون والمزمار والدنبك والدف وبعض الاحيان الجوزه والطنبور ( وهو طبله كبيرة الحجم ) وكانت النساء تغني من خلف الستاره وكلهن بفاخر الثياب والحلى النفيسه وتتخلل هذه الحفلات الطرافه والفكاهه والنكات والادب وخاصة الشعر وهذا مما اثر على ثقافتها وشهرتها وكان له عظيم الاثر في تاريخها وتراثها ..
ولم تكن هذه هي الصوره عن كل بغداد فقد تخلل تاريخها الكثير من الحوادث المؤلمه والانتكاسات والامراض المريعه والكوارث كما ان المجتمع والحاله الاقتصاديه لم تكن تسمع للترفيه دائما ولكن كانت العوائل تستغل قدوم الحجيج من مكه المكرمه والختان والاعراس ومولد الرسول الاعظم صلى الله عليه وسلم للقيام بالاحتفالات بالمواليد وكانت هذه المناسبات فرصه للترفيه والاجتماع وتناول الحلويات او الطعام للفقراء ....
وكان هناك جانب آخر قد يقتصر على البعض من الرجال وهي الملاهي وحانات الخمر وقد كانت هناك عدد من الملاهي (التياترو) او الكابريهات في منطقة الميدان وبالقرب من المبغى العام مع حانات الخمر وكانت هذه هي وسيله اخرى للترفيه ينتهجها البعض وكانوا في المناطق الشعبيه يشكلون انفارا على عدد الاصابع ..
ولم يبخل حكام بغداد بتوفير ما يمكن توفيره من حدائق ومنتزهات لغرض الترويح فقد انشا العثمانيون منتزه البلديه في مكان مستشفى مدينة الطب الحاليه وسمح ان تقام فيه الحفلات الموسيقيه والدخول اليه بتعريفه نقديه صغيره وسمح فيه بشرب الخمور وقد تهافت عليه الكثير من عشاق الانس والطرب والترفيه ..
قيل في بغداد :
فمن سوف نخبرهم اننا شربنا العذوبة حتى سكرنا
وانا ملكنا ضياء النجوم ودجلة والفجر فيما ملكنا
وكانت لنا من خدود النسيم وسائد تسندنا ان كللنا
وانا عرفنا الحياة انتعاشا ونبضا واغنية خالدا
نازك الملائكه
مع تحياتي
عبد الكريم الحسيني
للراغبين الأطلاع على الحلقة الأولى:
http://www.algardenia.com/ayamwathekreat/18926-2015-09-13-19-37-39.html
1310 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع