الذهب والعاصفة - الخوري الياس الموصلي الكلداني أول رحالة شرقي إلى العالم الجديد /الجزء الأول
قراءة في كتاب رحلة الياس الموصلي الى أمريكا الجنوبية، التي تعتبر اول رحلة شرقية الى العالم الجديد (1668 ـ 1683).في عام 1905 بينما كان الأب أنطوان رباط اليسوعي، يفتش في مكتبة مطرانيه السريان في حلب، عثر على مخطوطة عربية بعنوان (سياحة الخوري إلياس الموصلي)، وبعد قراءته للمخطوطة اكتشف أهميتها فهي تمثل رحلة أول سائح شرقي إلى أمريكا الجنوبية، فكتب دراسة عن المخطوطة ونشرها في العدد 18 من مجلة (المشرق) الصادر في أيلول عام 1905، مع تحقيق جزء من المخطوطة، ثم أكمل بقية التحقيق في أعداد أخرى من المجلة تحت عنوان (رحلة أول سائح شرقي إلى أمريكا)، وهو أول من نشرها في كتاب.
في عام 2001 صدرت الرحلة بتحرير وتقديم نوري الجراح عن دار السويدي، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، تحت عنوان (الذهب والعاصفة)، رحلة إلياس الموصلي إلى أمريكا.
يضم هذا الكتاب (الذهب والعاصفة) بين دفتيه أقدم نصّ عربي عن القارة الأميركية الجنوبية، وضعه الرحالة العراقي إلياس حنا الموصلي، الذي انطلق من بغداد سنة 1668 م، في رحلة إلى (العالم الجديد) استمرت نحو عشر سنوات، ليكون بذلك أول رحالة شرقي يغامر في الوصول إلى أميركا الوسطى الجنوبية، في النصف الثاني من القرن السابع عشر.
ويعتبر بحق وثيقة فريدة من نوعها عن أوضاع القارة الأميركية الجنوبية، في فترة شهدت حمّى البحث عن الذهب والفضة، فضلاً عن قيمته كأثر أدبي لا يخلو من طرافة.
الرحالة إلياس ابن القس حنا الألقوشي الكلداني من عائلة عمودة، كان قس نسطوري وقيل كاثوليكي ويبدو أن لعائلته روابط وثيقة بالفاتيكان والبابوية منذ القرن السادس عشر الميلادي.
المعلومات عن سيرته قليلة فلا نعلم تاريخ ميلاده ولا تاريخ وفاته، غير انه ذكر ان له ابن أخ اسمه يونان اكمل دراسته في روما ثم رجع بعدها إلى حلب عام 1670 م.
بدأت رحلة إلياس بن حنا الكلداني الموصلي إلى أمريكا في ربيع عام 1668 م، إذ انطلق من بغداد إلى الشام قاصدا بيت المقدس، ثم توجه بعدها إلى مدينة حلب التي مكث فيها أياما ليغادرها إلى ميناء الإسكندرونة، بعدها استقل مركبا قاصدا أوروبا، وأمضى 70 يوما من الإبحار، مر خلالها في قبرص وكريت، حتى وصل إلى البندقية، ومكث في الحجر الصحي 40 يوما، وبعدها أخذ يتنزه لمدة 20 يوما، ثم غادر إلى روما ومكث فيها ستة أشهر، ثم غادرها عبر فلورنسا وليفورنا وجنوا إلى فرنسا، فتوجه من مرسيليا إلى أوبنيون فليون التي فيها التقى القنصل الفرنسي السابق في حلب وبغداد، وفي باريس زار الملك لويس الرابع، ونال منه حفاوة وتكريما، ثم قصد إسبانيا ووصل مدريد حاملا رسائل من البابا إكليمونس التاسع إلى ملكة إسبانيا، ثم مضى بجولات بين المقاطعات الإيطالية وجزائرها، ليعود بعدها إلى مدريد فاستقبلته الملكة ثانية، ومنها توجه إلى البرتغال، وفي لشبونة أقام مدة سبعة أشهر، ثم عاد إلى مدريد والتقى ملكة إسبانيا التي أعطته تصريحا يجيز له العبور إلى أمريكا أو كما يسميها (بلاد هند الغرب).
في شباط عام 1675 بعد مرور سبع سنوات على مغادرته بغداد، وصل الرحالة إلياس الكلداني الموصلي إلى قادش، وفيها التقى دون نيقلاس ده كوردووا جنرال السفن الذي خصص له غرفة في السفينة الملكية التي تبحر إلى أمريكا مرة كل ثلاث سنوات، وفي طريقه إلى أمريكا مر الموصلي بجزر الكناري ليصل بعد ذلك إلى أول مدينة في العالم الجديد وهي كراكاس، فجزيرة مرجريتا، فكرتاخينا، وبورتوبيلو في فنزويلا، ثم إلى بنما، ومر خلالها بعديد من المدن والقرى والجزر، وتجول في البيرو وكواتيمالا، وكولومبيا، وتشيلي وبوليفيا، ووصل إلى مناطق خط الاستواء، وزار مناجم الفضة والذهب والزئبق في المستعمرات، وفي طريق عودته إلى أوروبا، بعد سياحة دامت ثماني سنوات، زار المكسيك أو كما يسميها بلاد ينكي دنيا، وأمريكا الوسطى، وتوقف في جزيرة كوبا.
في عام 1683 ركب سفينة متوجهة من كوبا إلى إسبانيا ثم روما، ويرجح أنه عاش بقية عمره في روما، ومات ودفن فيها، لوجود إشارة إلى كتاب طبع بالعربية في روما عام 1692 على نفقة إلياس الموصلي، تحدث الموصلي في رحلته عن مشاهداته وفي بعضها غرابة، ومن عناوين فصول رحلته، جزيرة السلاحف، خزنة الملك، النبات القاتل، وصف التمساح قيمان، القصب الشاهق، مدينة الذهب، جبال من ذهب، أرض الزئبق، المياه المتحجرة، سهام الهنود ورصاص الإسبان، الزلزال.
صاحب الرّحلة قسّ كاثوليكي قام برحلته لأسبابٍ ودوافعَ غير معروفة على وجه الدقّة، وإن كان من المرجّح لدى معظم الباحثين، ولدى كراتشوفسكي صاحب (الأدب الجغرافي العربي) أنه ربّما قام بمهمّة لحساب البابوية، أو التّاج الإسباني، أو لكليْهما معاً، لا شكّ إذن أن هذه الرحلة كانت لها أهداف وقد تمّت بمعرفة البابا، وفي ذلك يقول (فأنعم عليّ البابا إينوسينسيو الحادي عشر صاحب الذّكر الصالح بوظائف (وظائف) لم أكن أهلا لها، كما أنّ هذه الرحلة تمّت بموافقة ملك إسبانيا، إذ كما يقول هو نفسه: ( لأنه لا يقدر غريب أن يجوز إلى بلاد الهند إن لم يكن معه أمر من الملك، وكان في ذلك الزّمان رسول البابا في مدريد يسمّى الكاردينال ماريسكوتي وهذا المبارك ساعدني، كما يفصح الموصلي عن الغاية التبشيرية لرحلته فيقول: (فسبيلنا أن نبرهن ونبيّن رجوع هذه الطوائف إلى الإيمان الحقيقي واحتضانهم للكنيسة).
ولا شكّ أن لهذه الرحلة أهمية تاريخية لما تتضمّنه من أخبار وقصص وحكايات عن تلك البلدان النائية، خاصة أنّ كلّ ما تمّ تسجيله فيها كتبه الموصلي بلغته الأصلية وهي العربية، وقد عمل الرحالة على ترجمة الكلمات الإسبانية فيها وردّها إلى اللغة العربية، والطريف أنّ بعض الكلمات التي ظنّها إسبانية هي من أصل عربي!
وأهمها الدافع الديني المستضيء بسيرة المسيح وأتباعه من المخلصين الذين(كانت أشعة أنوارهم تشرق وتنير تلك الأقاليم المظلمة، حتى إنهما بكرازتهم طهروا المسكونة من عبادة الأوثان، وأرجعوهم من الضلالة والطغيان، واختاروا لهم تلاميذ وأخلافا، وخولوا تلك المواهب وإنعام الروح القدس، لكي يتولوا من بعدهم الرئاسة والتدبير، جيلا بعد جيل، مداومين إلى انقضاء العالمين، والمقولة تشير الى دور رجال الدين في تأسيس مملكة الله من طرف جماعة التبشير بعد زيارة القدس، بملابساته الدعوية، والذي سيكون المحفز على السفر نحو العالم الرابع، (العالم الجديد أو الهند الغربية)، الذي (كان مخفيا عن الأبصار ومستورا عن الأفكار، حتى أن القديس العظيم معلم الكنيسة المقدسة مار أغسطينوس كان يظن أن هذا الإقليم غير مسكون من البشر).
سجّل الموصلي خلال رحلته مختلف عادات وتقاليد السكان ألأصليين ومنها ما بدا له أنها مستحبّة، ومنها ما بدا له مستهجنه ممّا يضفي على نصوصه قيمة تاريخية مهمة، وهكذا يصف لنا عادات الزواج في بانكاي فيقول: (وهذا الحاكم لمّا وصلنا إلى ليما تجوّز (تزوّج) مع بنت أعطته نقداً مئة وخمسين ألف غرش كعادة بلاد النصارى، أن البنت تعطي نقداً للرجل حسب حالها)، ويقول عن عادة أكل لحم البشر: (هؤلاء الهنود عندما كانوا يحاربون السبنيولية (الإسبان) كانوا إذا أمسكوا أحداً منهم يشوونه ويأكلون لحمَه، وأما الرأس فيقطعون جمجمته ويعملونها طاسة ويشربون بها)، وفي ضواحي كيتو يصف لنا أناساً (يصير لهم مثل غدة كبيرة نازلة تحت حلوقهم، وليس لهم ذقون بل بعض شعرات ثابتة في حنكهم، وأنا لأنني كنت رجلاً كاملَ اللحية كانوا يتعجّبون منّي قائلين إنني ذو شجاعة شديدة بحيث جزتُ تلك البلاد).
وعن دار السكّة في البيرو يقول: (ورحتُ إلى البيت الذي يضربون فيه سكّة الدنانير من غروش وأنصاف أرباع، وفي هذا البيت (السكتخانة) رأينا الغروش مكوّمة على الأرض ويدوسونها بأرجلهم مثل ما يدوسون التراب الذي لا قيمة له). وعن ليما يقول (وفي هذه البلدة زلازل عدّة وفي ذلك الحين صارت زلزلة كبيرة فخرج الناس من البلدة لخوفهم لأنه سقطت منازل كثيرة مع بعضها كنائس). وعن الغلاء في ليما عاصمــــة البيرو يقول: (وهذه البلدة غالية المعاش بهذا المقدار حتى أنّ الدجاجة تساوي غرشاً ونصف غرش).
وعن كوبا يقول: (هذه الجزيرة هواها مليح، وماؤها طيّب، وأناسها محبّون، فلما أردت أن أخرج منها حتى أتوجّه إلى إسبانية جاءني حاكمها بشاكيش (البقشيش أو البخشيش) تسعة صناديق سكّر مع مرطّبانات المُربّى)
لم يتعرّض الموصلي خلال هذه الرحلة للجوانب الاجتماعية في العمق ولِمَا كان يعانيه السكّان الأصليّون من تعنّت، وتعذيب وملاحقة من طرف الغزاة الإسبان، وما كانوا يسومون هؤلاء السكّان من سوء المعاملة والاحتقار، ومن إتلاف لآثارهم، وتدمير لمعالمهم التاريخية، وتشويه لحضارتهم، وطمس لعاداتهم، وتقاليدهم، وإحراق لكتبهم ومخطوطاتهم.
كما لم يتعرّض البتّة إلى التأثير الإسلامي في مختلف هذه البلدان، خاصّة في فنون العمارة والمعمار وفي اللغة والطبخ والموسيقى ومختلف أوجه الحياة العامة في ذلك الوقت المبكّر، حيث نقل الاسبان هذه التأثيرات والفنون معهم إلى العالم الجديد كما يؤكّد ذلك معظم الدارسين والباحثين المتخصّصين الثقات في هذا المجال، خاصّةً أنّ جميع المدن والحواضر الكبرى التي زارها الموصلي ما زالت تحتفظ إلى يومنا هذا بالعديد من المآثر والآثار والمباني والدّور والقصور ذات التأثيرات الأندلسية الواضحة،والفنون الإسلامية التي لا يرقى إليها شكّ ولا ريبة
للموضوع تكملة الجزء الثاني
المصدر
الأب انطون رباط اليسوعي مجلة المشرق.
الذهب والعاصفة.. نوري الجراح صدر عن دار السويدي كتاب عن هذه الرحلة بعنوان (الذّهب والعاصفة)
نشرت النشرة الثانية بعد سبعين سنة على يد الباحثة العراقية ابتهاج الرّاضي.
عبد الرحيم مؤدن . الرحالة والرحلة المضادة:رحلة إلياس الموصلي إلى أمريكا .
676 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع