ذكريات بغدادية ...العربنچي
لم تكن وسائل النقل في القرن التاسع عشر والنصف الاول للقرن العشرين كما هي حالها اليوم بل كانت تعتمد على الحيوانات والعربات لغرض التنقل او حمل البضائع واشتهرت الجمال والحمير والبغال وكذلك الخيول لهذا الغرض وكما هو حال الانسان في البحث والابداع كان يبحث في الوسائل التي تؤمن راحته في هذا المجال اليومي من الاستخدام وشاع استخدام العربات التي تجرها الخيول او الحمير او البشر لتامين الاغراض التي ذكرناها انفا ولذلك تنوعت هذه الوسائل تدريجيا منذ ان اخترعت العجله في بابل وحتى يومنا هذا .. لم تختلف بغداد عن غيرها من المدن الاخرى التي تستخدم العربات لكافة الاغراض ولم تكن تصنع فيها بشكل كامل الا بعض الاجزاء ولكنها كانت تستوردها من تركيا ومن ثم من انكلترا وكانت هي المعول عليها في تامين التنقل والتحميل في العاصمه في الوقت الذي لم يكن هناك حضور للسيارات بالشكل الكافي الذي يؤمن الغرض وخاصة النقل داخل الازقه الضيقه والشوارع غير المطروقه وغير الملائمه للسيارات او الاسواق المزدحمه ..
في مطلع القرن العشرين كانت العربات هي العصب الرئيسي للنقل الخاص والعام وتنقسم الى :
العربات الملوكيه .. وسميت الملوكيه لانها ذات رفاهيه كبيره ومقصوره خاصة وخيول مختاره وتجهيزات خاصه والبعض منها يمتاز بوسائل راحه وسلم للصعود والنزول .
العربات الخاصه : وهي عربات تجمع بعض المواصفات الملوكيه والعامه وتستخدم من قبل بعض الاغنياء والموسرين واشبه بالسيارات الخاصه في ايامنا هذه ..
العربات العامه.. وهي الاكثر استخداما من قبل الاكثريه وفيها مقصوره تغطى نصفها وتتسع لخمسة اشخاص ويجرها حصانان وحوذي لقيادتها .
عربات الحمل .. وهي التي تستخدم لحمل البضائع المتوسطه و الخفيفه وقد تجر بواسطة الحيوانات او الايدي او الدفع ومنها ما يستخدم العربات الخفيفه .. وهي التي تستخدم من قبل الحمالين والاطفال لحمل بعض المواد الخفيفه لايصالها الى مناطق قريبه وتدفع او تسحب باليد ..
تقاد هذه العربات بانواعها من قبل شخص يطلق عليه (العربنجي ) وهي تعني باللغه العربيه ( الحوذي ) ولهذا الحوذي تجهيزات تمكنه من قيادة العربات وخاصة التي تجرها الحيوانات ومن هذه التجهيزات (القمچي ) اي السوط و (الرشمه) اي شرائط القياده و(الحنديري ) وهو الغطاء الذي يوضع على عيون الخيل لعدم تاثرها بمناظر جانبيه و(الدنكير) وهو المحور الذي يربط بين العجلات و(العليجه) وهي كيس الطعام للحيوانات و(الاوخ) وهو العمود الوسطي الذي يربط بين الحصانين والعربه ,, اما العربه التقليديه فانها تتالف من مقصوره نصف مغطاة واربعة عجلات وحصانين ومنصه لجلوس (العربنجي ) ومقاعد لجلوس الركاب على شكل متقابل جهه مترفه قليلا والاخرى مصطبه..
عندما بدأت مظاهر الحداثه والتقدم تظهر في بغداد وفي مقدمتها السيارات واستخدمت بشكل واسع في اواخر الخمسينات والستينات حتى بدأت العربات بالانحسار تدريجيا وبقيت في بعض المناطق الشعبيه واصبح مستخدميها قله وباتت مشاكلها تكثر وخاصة بعد ان بدأت حملة لتحديد مسيرها في بعض الشوارع وصعوبة المبيت والعلف والطبابه وغيرها ...
كانت مهنة العربنجي من المهن التي توازي سائق سيارة الاجره في ايامنا هذه وكان الافنديه من اهل بغداد لهم عربنجيه خاصين بهم يتعاملون معهم ومنهم (جوقي العربنجي ) الذي كان يؤجره الباشا نوري السعيد من سراي الحكومه في الميدان الى دار سكنه في الصالحيه ولهذا الرجل قصه مع البلديه في منتصف السبعينات عندما كان لايزال يعمل على العربه في نقل اللحوم من مجزرة الرصافه الى القصابين في صوب الرصافه في الفضل والباب المعظم والعوينه وباب الشيخ وفضوة عرب والصدريه وعكد الكراد وعندما اصدرت البلديه امرا بمنع العربات من الدخول الى المجزره توقف عمل (جوقي ) وقام وفدا من اصحاب العربات بمقابلة مدير البلديه وعرض شكواهم واقترحوا اذا كان الامر صعبا وغير قابل للتنفيذ فعلى الاقل السماح ل (جوقي) فقط بالدخول لانه كبير السن وليس لديه مصدر رزق غير العربانه وعرض الامر على مدير عام البلديه بهذه الحاله مع تذكيره بأن هذا الرجل قديم وكان العرنبجي الخاص مال الباشا السعيد واصدر امرا باعادة جميع العربات الى العمل داخل المجزره اكراما الى (جوقي) والى الباشا السعيد ..
وشيخان العربنجي ( شيخان ابو زيج ) وهو من شمال العراق وكان مشهور بضرب ( الزيج ) وهو الصوت الذي يطلق من الفم بنغمه معينه للاحتجاج او للتندر او الاستهزاء وكان هذا الرجل من الشعراء ويقال ان اخيه كان من ضباط الجيش وحاول عدة مرات ان يجد له صنعه او شغله غير العربنجي لكنه كان يرفض حتى ان يذكر اخيه وتوفي وحيدا في احد اصطبلات الخيول في الميدان رحمه الله .
كانت العربات تجوب شوارع بغداد وشارع الرشيد والسعدون ومنظرها وهي تدق معزوفة على ارجل الخيل وصوت المنبه الذي يضرب بواسطة قدم الحوذي وكثيرا ما يضايقها اصحاب السيارات ويسمع العربنجي الكثير من كلمات الاستخفاف والتندروالمشاكسات ولكنه لابد ان يستمر بالعمل لانه مصدر رزقه وكانت اجرتها نصف اجرة السيارات تقريبا ولكنها كانت ابطأ بالتاكيد..
وكانت هذه العربات تتجمع في مبيت لها اشبه بالكراج ليلا وتتوجه للعمل في الصباح الباكر ولم تكن تخلو من المعاضل والمشاكل ولكنها ايضا كانت مليئه بالطرائف واذكر من الطرائف كانت اذا مرت عربه من شارع (السكه ) وهو الشارع الممتد من جسر الشهداء الى سوق الجديد /التكارته /الجعيفر/ الى الرحمانيه - الكاظميه يسمع نفس الاسطوانه كل يوم عدة مرات حيث كان الشباب يصيحون باعلى صوت (راح تحل )اي هل آن موعد انتهاء العمل ولكنهم كانوا يقصدون بها شيء آخر وكان العربنجي يزعل ويشتم ويسب..
وايضا من الطرائف عندما يكون هناك بعض الاطفال يركبون في مؤخرة العربه بين العجلات وكان العربنجي يضربهم بالقمجي وكثيرا ما تكون الضربه باحد الماره او بالركاب وايضا عندما يتوقف الحصان ويرفض السير او يقوم بوظائفه الفيزياويه في الشارع العام امام انظار الناس ..
كانت وظيفة العربنجي غير مستحبه ومن يكنى بها يتبادر الحصان الى الذهن مباشرة ولكون العمل يكون مع الحيوان فانه يتسم بالدونيه ,هكذا كانت النظره .. واليوم بعد ان اختفت تلك العربات الجميله والعربنجيه الاسطوات نجد اليوم عربات من نوع اخر تزخر بها بغداد ومنها عربات ( بيع النفط ) وعربات (بيع العتيك ) وعربات نقل المواد في الاسواق بعد اكثر من 40 عام تقريبا على اختفاء العربات الحقيقيه ... واصبحت كلمة (عربنچي ) كلمة اهانه ...
لاتزال هناك الكثير من الدول تستخدم العربات لاغراض سياحيه وللتنزه ومنها بلدان تستخدمها لاغراض التنقل وخاصة في جنوب شرق اسيأ والمشهوره بعربه ذات عجلتين ومقعد يسحبها شخص وتجدها في الصين وفيتنام وكمبوديا والهند ومصر وغيرها من الدول ..
كان العربنچي من الاميين والبسطاء وكانت هذه المهنه قد قاربت على الاختفاء في نهاية القرن العشرين ولكنها عادت بقوه في القرن الحادي والعشرين والعربنچيه في هذا الزمان اصبحوا خريجوا جامعات ومثقفين وسياسيين ونواب وحتى وزراء ...
الله يرحم عربنجية ايام زمان .... ويخلينا الستوته
مع تحيات ... عبد الكريم الحسيني
4694 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع