رجل مـن زمـن الثائرين / مذكرات العقيد الركن هادي خماس مدير الأستخبارات العسكرية الأسبق/الحلقة الأولى

       

رجل مـن زمـن الثائرين / مذكرات العقيد الركن هادي خماس مديرالأستخبارات العسكرية الأسبق -الحلقة الأولى

                     

سيرتي

• ولدت في بغداد في محلة السور المحاذية لسور بغداد العظيم، سنة 1925 من أبوين عراقيين عربيين، من عشيرة العزة المشهورة بمواقفها الوطنية.
• قضيت دراستي الابتدائية والمتوسطة والثانوية في بغداد وبعد تخرجي عام 1945 التحقت طالباً في الكلية العسكرية.

                                   

• تخرجت في الكلية العسكرية عام 1948، وعُيّنت ضابطاً في فوج الحرس الملكي الأول في 15/8/1948.
• في 19/6/1957 التحقت بكلية الأركان وتخرجت فيها في 20/8/1959 وكنت الأول على دورتي.
• انتميت إلى منظمة الضباط الأحرار في العراق في تشرين الثاني 1952.
• عند قيام ثورة 14 تموز 1958 كنت في الأردن مع الدورة 24 لكلية الأركان لدراسة الحدود الأردنية مع فلسطين المحتلة.

                       

• ترفعت إلى رتبة مقدم ركن في 14 تموز 1961 والى رتبة عقيد ركن في 14 تموز 1965.
• ساهمت في ثورة 8 شباط 1963 مساهمة فعالة حيث كلفني الرئيس عبد السلام محمد عارف، أنا والعقيد الركن محمد مجيد، للالتحاق بالقوات المقاتلة في وزارة الدفاع لقيادة القطعات حتى استسلام عبد الكريم قاسم.

                          

• نقلت العقيد فاضل المهداوي رئيس محكمة الشعب والمرافق لرئيس الوزراء قاسم الجنابي بعد انتهاء معركة وزارة الدفاع بسيارة مدرعة وسلمته إلى القيادة العامة للثورة في دار الإذاعة العراقية.
• ساهمت في حركة 18 ت2 1963 مرافقاً للرئيس عبد السلام محمد عارف لاحتلال المرسلات، وبعد احتلالها قدمت الرئيس لإذاعة البيان الأول ثم أذعت بصوتي البيان مرة ثانية والبيانات الأخرى.
• عُيّنت مديراً للاستخبارات في 21/11/1963، وانتخبت عضواً في مجلس قيادة الثورة وسكرتيراً للمجلس الوطني.
• ساهمت في حركة عارف عبد الرزاق الأولى في أيلول 1965، وبعد فشلها لجأت إلى القاهرة.

                  

•ساهمت في حركة عارف عبد الرزاق الثانية في 30 حزيران 1966 التي لم تتكلل بالنجاح.
• أُحلت على التقاعد في 20 أيلول 1965.
• 27/أيلول/68 اعتقلت في القصر الجمهوري وأطلق سراحي بعد خمسة اشهر.
• 23/تموز/69 صدر أمر بإلقاء القبض علي وتمكنت من الهرب وتم إعفائي بعد ما يقارب 16 شهر.
• 28/تموز/1970 نفاني مدير الأمن العام ناظم كزار مع الأخوة العقيد الركن محمد مجيد والعميد نهاد فخري واللواء الركن محمد إلى القاهرة وعشنا هناك لاجئين.
• 29/ت/1970 اصدر الرئيس احمد حسن البكر أمراً بإعفائي وعدت إلى بغداد.

                             

• 30/حزيران/1971 تم اعتقالي في مقر قصرالنهاية بأمر مدير الأمن العام ناظم كراز وقد حققت معي لجنة برئاسة طه ياسين رمضان وعضوية ناظم كراز وحسن المطير. شكلت لجنة التحقيق برئاسة سالم الشكرة .
• 29/ت/1973 تم أطلاق سراحي مع الأخ العقيد الركن علي حسين جاسم.
• مارست الصحافة ولي مقالات كثيرة نشرت في جريدة الثورة والجمهورية وصوت العرب وراية العرب والمشرق.
• بعد الاحتلال الأميركي للعراق واحتلال بغداد في 9 نيسان 2003 عدت للعمل السياسي وشكلت مع رفاقي صبحي عبد الحميد وعبد الكريم هاني ومعن عمر نظمي وغيرهم من المناضلين حركة التيار القومي العربي التي تهدف إلى تحرير العراق من الاستعمار الأميركي الجديد.

  

المقدمة
منذ الحرب العالمية الأولى وما تلاها من ويلات أيام الاستعمار البريطاني البغيض، والشعب العراقي كما هو معروف عنه لا يخضع أو يلين لهذا الاستعمار، وقد توج هذا النضال بثورة العشرين الخالدة التي قضّت مضاجع الإنكليز وأكدت لهم أن استعمارهم لن يدوم ولا بد لهم أن يرحلوا يوماً ما، وأن هذا اليوم آت لا ريب فيه بعُدت الشقة أم قربت. وهكذا كانت تلك الثورة، التي  سعى أبناء العراق الغيارى بعدها إلى تأسيس دولة وطنية تعمل على ضم أبناء الشعب بوحدة وطنية صامدة، وتستطيع بإمكانياتها المحدودة وأيمانها الثابت بعدالة قضيتها تأسيس حكم وطني ينبثق من الشعب ويعمل من أجله. واستقر الرأي على أن يكون احد أنجال الشريف حسين ملكاً على العراق ليؤسس أول حكم وطني في هذا البلد. وبعد مداولات واتصالات مع الحسين وأطراف أخرى تقرر أن يكون الأمير فيصل هو الملك على العراق وقد تم استدعاؤه وتتويجه في 23 آب 1921.

                           
            
لقد كان الملك فيصل الأول واحداً من الزعماء البارزين في عصره لما كان يتمتع به من إمكانات سياسية عالية وفطنة وذكاء أهلته لتكوين الدولة. ورغم الظروف الصعبة التي أحاطت بملكه وتعنت المستعمرين ونكوثهم بالوعود، فقد حقق الملك فيصل الأول الكثير من المنجزات التي كانت مفخرة لحكمه، فتمكن من إرساء النظام البرلماني ووضع دستور للبلاد وإصدار قانون التجنيد الإلزامي وحل مشاكل الحدود المستديمة بين العراق وتركيا وأهمها أعادة ولاية الموصل إلى العراق والتي كانت تطالب بها تركيا. لقد انتقل الملك فيصل الأول، في سويسرا عام 1932، إلى رحاب الله غدراً وغيلة ولو أمدّ الله في عمره لحقق للعراق الاستقلال والكرامة. وقد وصفه الكولونيل لورانس في كتابه الشهير (أعمدة الحكمة السبعة) بأنه أمين كضوء الشمس.

              

بعد وفاة الملك فيصل، بويع ابنه الأمير غازي ملكاً على العراق، وكان غازي شاباً وطنياً متمسكاً بالوحدة ساعياً لها، إلا انه كانت يفتقد الخبرة السياسية وألاعيبها، فكان يقاتل في جبهتين: جبهة السياسيين الضالعين في ركاب الاستعمار وجبهة الاستعمار ذاته التي كانت تحرك هؤلاء الساسة. وقد انتهج العراق في عهده خطاً وطنياً. ولعل من أهم ما يُذكر به الملك غازي سعيه لضم الكويت إلى العراق بوصفها جزءاً منه. هذه السياسة التي انتهجها الملك غازي أغضبت الاستعمار فقرروا أن يتخلصوا منه، فكان لهم ما أرادوه، إذ يُعتقد أنهم دبروا حادثة اصطدام سيارته في عمود الكهرباء في ليلة 3/4 نيسان 1939 والتي أودت بحياته.

   

وبعد وفاة الملك غازي انتقل العرش إلى ابنه الصغير فيصل الثاني وانتخب خاله الأمير عبد الإله وصياً على العرش. وفي عهد الوصاية ثار الجيش في مايس سنة 1941 وفشلت الثورة وحُكم على قادة الثورة صلاح الدين الصباغ ورفاقه بالإعدام، وقد صادق الأمير عبد الإله على الحكم وتم إعدامهم. ولقد ترك إعدام قادة الثورة الأبطال أثراً  في نفوس العراقيين لا يثنى وصمموا على استمرار النضال والعزم بإصرار على القضاء على النظام الذي أعاد هيمنة الاستعمار البريطاني وبشكل سافر على العراق. وهكذا تأججت الروح القومية في الشارع العراقي، بعد فشل ثورة مايس الوطنية، وأصبح من المستحيل أن يستقيم مثل هذا الوضع المضطرب خصوصاً بعد أن أخذت رياح التغيير تهب على المنطقة كلها، فحدث أكثر من انقلاب في سوريا، وجاءت الثورة المصرية في 23/تموز/1952 لتحرّر مصر من الاستعمار، وأصدرت القرارات الاشتراكية وأمّنت قناة  السويس وكسرت احتكار السلاح.وتعلّقاً بالعراق،فقد تشكل تنظيم الضباط الأحرار بين صفوف الجيش وهو الذي نفذ ثورته التاريخية الكبرى في 14 تموز عام 1958فكانت حدثاً تاريخياً كبيراً يعتد به في تأجيج المشاعر القومية في هذا القطر، كما في الأقطار العربية الأخرى.

  

لقد كانت تموز 58 حدثاً تاريخياً ضخماً أذهل الاستعمار وقدمت حكومة الثورة في أعقابه انجازات كبيرة. ولكن رغم هذه الانجازات سرعان ما خابت الآمال نتيجة الصراع الذي حدث بين قطبي الثورة عبد الكريم قاسم وعبد السلام محمد عارف، وهو الصراع الذي أدى إلى أعفاء عبد السلام عارف من كل مناصبه لينفرد عبد الكريم قاسم بالحكم، وكان هذا الحكم موضع خلاف الشارع العراقي الذي انقسم حول زعامته حينذاك، فنظر إليه البعض كطاغية حكم البلاد من جهة، بينما نظر آخرون إليه كحاكم وطني ناصر الفقراء والمحرومين من جهة أخرى. ولكن من أهم الظواهر التي شهدها حكمه وعهده أن الشيوعيين جيروه لصالحهم، وفي ظل ذلك حدثت الاضطرابات والانتفاضات الشعبية المعروفة في الموصل وبغداد وكركوك، فأُعدم الأحرار من ضباط تموز وعُلقوا على أعواد المشانق في أم الطبول.

   

كان واضحاً، تعلّقاً بثورة 14 تموز، أن أسوأ ما قامت به أنها أقدمت على قتل العائلة المالكة رجالاً ونساء، كما أقدمت على التمثيل بجثة عبد الإله وسحلته في شوارع بغداد، في سابقة حُسبت على الثورة، إذ هي لا تخرج عن أن تكون أعمالاً إجرامية تأباها الشرائع السماوية والأخلاق الإنسانية. بل نعتقد أن تلك الأحداث إنما هي أعمال إجرامية تستوجب محاكمة من أقدم عليها. في ظل الإحساس بهذا، وما أُخذ على عبد الكريم قاسم، وتزايد المد العربي الجارف، تكاتفت الفئات القومية على إسقاط هذا الحكم، فتم ذلك على يد حزب البعث العربي الاشتراكي في 8 شباط 1963 الذي أشعل فتيل الثورة، لتتولى الفئات القومية عامةً مسؤولية إنجاحها.

   
   
وما أن استقر الحكم للبعث حتى أخذ يخطط بدوره للانفراد بالحكم على حساب الفئات الأخرى التي كانت عاملاً حاسماً في نجاح ثورة شباط. وقد تبع موقفَ حزب البعث هذا ردة فعل الفئات القومية الأخرى، صراعٌ دموي قاس بين عناصر الحزب من جهة والقوميين الآخرين من جهته أخرى. وفي ظل الانفراد البعثي والصراع الناتج عنه، تشكل الحرس القومي وفُتح مكتب عمار علوش الذي مارس أنواع الانتهاكات ضد الشعب العراقي بمختلف فئاته، فسجن وأعدم وابتز وحارب الحكم وتحداه. فلم يكن ممكناً، والحالة هذه، لمثل هذا الحكم بأن يستديم، فكان لا بد لأحد أن يتحرك من أجل التغيير، فكانت حركة 18 ت2 1963 التصحيحية التي سعت الى القضاء على مظاهر الإرهاب تلك، وأصدرت القرارات الاشتراكية، وأظهر الحكم رغبةً جادةً للتقرب من الجمهورية العربية المتحدة والسعي لتنظيم الحياة السياسية وتأمين الحرية والأمان لأفراد الشعب.

            

لقد تبدد الأمر مرة أخرى ودب الخلاف واشتد بين رفاق الأمس ورئيس الجمهورية عبد السلام محمد عارف، وقد وجدنا أن الرجل كان يفرق ولا يجمع، وكان كل همه أن ينفرد بالسلطة إلى درجة أدت إلى أن ينشب خلاف بينه وبين من عمل معه سواء كان كتلةً أو أفراداً لأن مصدر الخلاف مع عبدالسلام هو ما يتعارض أو يعتقد هو أنه يتعارض مع مصالحه الشخصية، فحارب في سره القرارات الاشتراكية وهاجم دعاة الوحدة وزرع التكتلات في الجيش وسار على قاعدة (فرّق تسد). ومرة أخرى ما كان لمثل هذا الحكم أن يدوم، فقرر رفاقه في الأمس، وكنا منهم، أن لا بد من تنحيته وقمنا بمحاولتين الأولى في 15 أيلول 1965 والثانية في 30 حزيران 1966، ولكن كلتا المحاولتين فشلتا، فبقي عبد السلام عارف في الحكم حتى وفاته في حادثة الطائرة الشهيرة، ليتولى أخوه عبد الرحمن عارف الحكم بعده. ثم دار الزمن دورته فأطاح حزب البعث العربي الاشتراكي به وعاد إلى الحكم مرة ثانية في انقلاب 17/تموز/1968.

حياتي السياسية
لقد عاش جيلنا والجيل الذي سبقنا في العراق عصر الصراعات بين القوى المناوئة للاستعمار الذي كان يعمل جادا للحفاظ على مصالحة والسيطرة على العراق باعتبارها منطقة وصل تؤمن له المصالح البريطانية في القارة الهندية. وقد بذل الملك فيصل الأول الذي توج ملكا على العراق في 23 آب 1921 جهودا كبيرة للحصول على استقلال العراق وإنقاذه من الظروف القاسية التي تحيط به متخذاً له مساراً واضح الأهداف لتأمين الوحدة الوطنية، ثم التحرك بعد ذلك لتخلص العراق من الاستعمار ونيل حريته. إلا أن القدر لم يمهله أن يكمل مشواره فأدركه الموت في برن بسويسرا عام 1933. ومرت السنون بعد ذلك وبدأ جيلنا يدرك ويعي ما يراد به وما يريده هو حيث كان العراق معقلاً لكل أحرار العرب الهاربين من بطش الاستعمار ومنهم أساتذة ومثقفون تشبعوا بروح القومية وآمنوا بأن الوحدة العربية هي الطريق السليم والأمثل لإنهاء عهد الاستعمار، ومن هؤلاء الشيخ علي الطنطاوي وعثمان الحوراني من سوريا وعبد المنعم مرسي من مصر، وكانوا، وأقولها يفخر واعتزاز، مثالاً يُقتدى بهم بالوطنية والإخلاص ونكران الذات، وكانوا بحق دعاة وحدة فغرسوا في نفسي بذور القومية العربية التي تجمع ولا تفرق، وتلقفنا ما علمونا بنهم وشغف زادا في توسيع مداركنا. كما أن لمؤلفات المربي الكبير ساطع الحصري عن القومية والوحدة الأثر ذاته فيّ وفي جيلنا. وهكذا نشأنا وحدويين، وكرسنا حياتنا، في ما بعد، لتحقيق الوحدة ونلنا من أجلها الويلات والعذاب.

حياتي العسكرية

أنهيت مرحلتي الثانوية في مدرسة التفيض الأهلية، فيممت وجهي شطر الكلية العسكرية كونها مصنع الأبطال ومحط آمال الرجال، وكان من رفاق دراستي العسكرية الأخوة صبحي عبد الحميد وعرفان عبد القادر وعدنان أيوب صبري ومحمد خالد وخالد مكي الهاشمي وجاسم العزاوي ممن هم  من دورتي أو أقدم منى بسنة واحدة. وقد تتلمذت في سنيّ الثلاث في الكلية العسكرية على يد أستاذي أحمد حسن البكر. وفي الكلية تنامت شخصيتي ووعيت ما يحاط ببلدي من ظلم وتعسف واستقلال، فقررت بنفسي أن الطريق أصبح سالكاً أمامي وأمام رفاق عسكريتي لإنقاذ بلدنا من محنته التي كان يعيش فيها، وصممنا على أن لا بد من تحقيق أهدافنا التي تربينا عليها في إقامة مجتمع الرفاهية والحرية والاستقلال في بلدنا ليكون نواة في المستقبل لأهدافنا الكبرى في التحرر والاستقلال.
   
لقد اخترت في دراستي العسكرية صنف المشاة الذي يُلقب بانه سيد الصنوف وبدونه لا تُكسب معركة، وكنت الرابع في دورتي التي تعدادها 96 طالباً، والأول على صنف المشاة، وهي الدرجة العلمية التي أهلتني لأن اشغل أهم مناصبي العسكرية. لقد كان تخرجي ضابطَ مشاةٍ عام 1948 لأدخل معمعة التفكير بأين سيستقر بي العمل وفي أي وحدة ومع أي آمر. وأنا في خضمّ هذا التفكير أرسل بطلبي آمر الكلية العسكرية العقيد الركن عبد القادر سعيد بصفتي رئيس عرفاء الطلبة وأحمل على كتفي الأيمن أربعة خيوط، وأمرني بأن أجمع من خريجي الكلية صنفَي المشاة والخيالة، لأن الأمير عبد الإله سيحضر لاختيار البعض منهما لقوات الحرس الملكي. وحين حضر الأمير وقام بتفتيش الضباط من الصنفين اختار من صنف المشاة.. الضباط:
1. هادي خماس
2. صبحي عبد الحميد
3. عبد الغفور محمد أمين
4. سامي جاسم
ومن صنف الخيالة الضباط.:
1. فاضل مهدي البياتي
2. عدنان أيوب صبري
3. عبد النبي حامد
4. نعمة صادق.
وهكذا كان نصيبي حيث نقلت في 15/8/48 إلى الفوج الأول من الحرس الملكي آمراً للفصيل الأول في سرية المشاة الأولى التي كان آمرها ياسين السامرائي. أما آمري فكان العقيد الركن ناظم الطبقجلي، والعقيد ناظم كان ضابطاً قومياً وطنياً نزيهاً مخلصاً شديد التواضع، من غير ضعف، صارم الضبط من غير عنف، يرعى الصغير ويحترم الكبير، وقد تعلمنا الكثير منه في حياتنا العسكرية، فقد غرس فينا روح الضبط والعمل الجاد والعطف على الجنود وحل مشاكلهم، حتى العائلية منها. وآنذاك، وإذ كنا شباباً ذوي طموحات وآمال وطنية عراض، ونستعجل الأمور فنحاول أن نستبق الزمن ونعيش على هذه الطموحات وتلك الآمال، كنا بحاجة إلى يد أمينة ترعانا وتلم شملنا وتهدينا إلى العمل الصالح في الطريق الصالح لتحقيق أهدافنا.
 
تنظيم الضباط الأحرار
لقد انبثقت منظمة الضباط الأحرار في شهر أيلول من عام 1952 وكان قائدها المقدم المهندس رفعت الحاج سري الذي أبلى بلاءً حسنا في معارك فلسطين وشهد مأساتها واطّلع على خيانة بعض القادة العرب المتعاونين مع الاستعمار  لتأسيس دويلة إسرائيل.
وأثناء وجودي ضابطاً في فوج الحرس الملكي الأول، توطدت علاقة متينة وصادقة بيني وبين الرئيس (النقيب) محمد مرهون الصفار ضابط الفوج، وصارت تجري بيننا أحاديث كثيرة تتخللها انتقادات للوضع وسوء الحكام فاعجبتني طروحاته وقلت في نفسي لا بد من هدف أراده الأخ محمد مرهون فقلت له، وتحديداً يوم 27 ت1 من العام نفسه: أرى وراء طروحاتك هدفاً! هلاّ أخبرتني به وأرحتني؟ وليكنْ قلبك مفتوحاً لي وأفصح عما تريد قوله وكن مطمئناً من أني مؤمن بكل طروحاتك. عندها انفرجت أساريره وانطلق متحدثاً دون خوف: أنت على علم بانبثاق منظمة الضباط الأحرار وقد انتميت لها، وما أعهده فيك من وطنية أرى أن تشاركنا هذا الانتماء. قلت له: قبل الانتماء لا بد أن أكون على علم بأهداف التنظيم ومبادئه، فقال: هذا من حقك، إن أهداف التنظيم تتلخص بـالأهداف الآتية:
1. تحرير العراق سياسياً واقتصادياً من الهيمنة الاستعمارية.
2. محاكمة الساسة الموالين للإنكليز، وعلى رأسهم نوري السعيد.
3. القضاء على الفساد الإداري والمالي، وتطهير أجهزة الدولة من المفسدين والمتعاونين مع الاستعمار والرجعية.
4. تحرير الفلاح من عبودية الإقطاع، وتحرير الأرض و توزيعها على الفلاحين.
5. إصلاح النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ونظم التعليم والقضاء.
6. العمل على تحقيق الوحدة العربية.
ورغبةً بزيادة في الإيضاح وبيان التفاصيل، سألته عن موقف تنظيم الضباط الأحرار من العائلة المالكة. أجابني بأنه لم يفكر الضباط عند تأسيس الحركة بإلغاء النظام الملكي، وكان أول أهدافهم هو التخلص من الساسة الضالعين في العمل مع الاستعمار والموالين له. وبعد سماعي لهذه التفاصيل التي كنت مؤمناً بها قبل سماعها منه، قلت له إني موافق على الانضمام إلى الحركة بشرط لا أحيدُ عنه أبداً، وهو ألا يُصاب الملك فيصل الثاني بسوء وأن يبقى ملكاً على العراق، ويحاكم كل من أساء للوطن محاكمة عادلة وعلى رأس هؤلاء نوري السعيد. بعد ذلك أطلعت زميلي وصديقي في الفوج الملازم صبحي عبد الحميد على تفاصيل ما جرى مع الرئيس محمد مرهون عن تنظيم الضباط الأحرار ومبادئه وأهدافه وعلى انضمامي إلى التنظيم، ودعوته إلى الانضمام معي فوافق فقدمته إلى الأخ محمد المرهون، وهنكذا أصبحنا ثلاثة ضباط في الفوج منتمين إلى التنظيم.
   
قبل ذلك كنت  قد بدأت أمارس واجباتي بتدريب المراتب في الفصيل الذي كنت آمره، وكانت أهم واجبات الضباط هي الخفارة ليلاً ونهاراً. وكان الفوج يقوم بواجب الحراسة والحماية في قصرَي الزهور والرحاب الملكيين، وكانت في كلّ منهما قوة لا بد من ضابط خفر فيها يومياً ليلاً ونهاراً. وكانت الأصول المتبعة في حالة خروج الملك أو الوصي أو كليهما أن يخرج الضابط الخفر لأداء التحية لهما. في أحد أيام حزيران من عام 1951 كنت أنا الضابط الخفر في قصر الرحاب الذي يسكنه الملك فيصل وخاله الأمير عبد الإله والعائلة المالكة. في ذلك اليوم اتصل بي مأمور البدالة وأخبرني بأن الوصي سيخرج الآن، فخرجت من مقري وإذا بالأمير عبد الإله يقف بسيارته بالقرب ويطلب مني الصعود والجلوس إلى جانبه، صعدت السيارة فانطلقت ولا أدري إلى أين نحن ذاهبان، إلى أن وصلنا إلى معسكر الرشيد فالقاعدة الجوية فيه. وهناك ذهبنا رأساً إلى أوكار الطائرات، وكان في استقباله الضابط الخفر الملازم الأول الطيار كمال العزاوي. ثم بدأ الأمير بتفتيش الطائرات حتى وقف بجانب طائرة من نوع فيوري القاصفة، فسأل الضابط الخفر عن صلاحية هذه الطائرة؟ فأجابه الضابط الخفر إجابة غاية في الصدق والجرأة بأن فيها عيباً سياسياً. فاستغرب الأمير من أجابته وسأله عما يقصده؟ ولم يتوانَ الضابط الخفر عن أن يقول: سيدي، إنّ تشغيل هذه الطائرة يكون بطلقة تشغّل المحرك تشغيلاً ابتدائياً، ولما كانت هذه الطائرة إنكليزية الصنع، فمعنى ذلك أنه إذا امتنعت بريطانيا عن تجهيزنا بهذه الطلقات فيعني أن هذه الطائرة لا تفي بالغرض الذي من اجله يتسلح الجيش.
لم يعلق الأمير عبد الإله على ما قاله الملازم الأول الطيار كمال العزاوي واستقلينا السيارة وعرجنا عائدين إلى قصر الرحاب الملكي.


المصدر: جريدة الناس

ملاحظة:هنالك حلقات أخرى بأذن الله تعالى ..

  

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

724 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع