الفريق بكر صدقي حياته ومصرعه
حينما كان العراق جزءا من الامبراطورية العثمانية كانت حصته من تلامذة كلية استنبول العسكرية تتراوح بين 60 – 70 تلميذا يتخرجون ضباطا في الجيش العثماني
وقد انخرط معظم الضباط العراقيين المتخرجين مع زملائهم العرب في جمعيات تهدف الى انتزاع الحكم الذاتي للشعوب العربية وقد ازداد نشاطهم عندما خاب املهم في جمعية الاتحاد والترقي التي مارست سياسة البطش ضد الجمعيات السرية العربية خاصة بعد اطاحتها بالسلطان عبد الحميد الثاني عام 1908
ومع احتدام الحرب العالمية الاولى ودخول تركيا الحرب الى جانب المانيا وجد الضباط العراقيون الفرصة قد واتتهم للتخلص من الهيمنة العثمانية ففر نفر منهم من الجيش العثماني والتحقوا بالثورة العربية التي اعلنها الشريف حسين شريف مكة ضد الاتراك بالتحاف مع البريطانيين حين سهلوا لهم المهمة في دحر الاتراك.
وبعد ان وضعت الحرب اوزارها واقتسمت الدول المنتصرة – انكلترا وفرنسا – البلاد العربية بموجب معاهدة ( سايكس – بيكو ) كان العراق من حصة بريطانيا
وحالما نصب الامير فيصل ملكا على العراق عاد الضباط العراقيون الى بلدهم مع فيصل وساهموا في بناء الدولة الحديثة وتشكيل الجيش العراقي الذين كانوا عموده الفقري .
سير مارك تاتون سايكس - فرانسوا جورج بيكو
فقد لعب بعضهم دورا متقدما في تاسيس الدولة الجديدة واحتلوا المسرح السياسي لاكثر من ثلاثة عقود تشكلت خلالها ثلاثون وزارة اشترك في رئاستها ثلاثة عشر شخصا سبعة منهم من الضباط العراقيين الذين حاربوا العثمانيين الى جانب الحلفاء مع شريف مكة وهم:
عبد المحسن السعدون وجعفر العسكري وياسين الهاشمي ونوري السعيد وجميل المدفعي وعلي جودت الايوبي وطه الهاشمي.
كانت وفاة الملك فيصل الاول المفاجئة عام 1933 حدثا هائلا لانه لم يكمل مهمته التي اضطلع بها حينما تراس الدولة العراقية ولم يكن ولده الشاب الملك غازي في حالة يستطيع معها ان يملا الفراغ الذ ي تركه والده ومن هنا دبت الفوضى في صفوف الجيش وصار العسكر يتدخلون في السياسة مما فتح الباب واسعا لاستثمار قوة الجيش لغايات سياسية
فقد كانت فترة حكم الملك فيصل 1921 – 1933 فترة تكوينية وبناء الدولة في تاريخ العراق السياسي كما كانت تلك الفترة مميزة حيث تم اعطاء القوى السياسية فيها اهتامام كبيرا لتاسيس الدولة الجديدة ومؤسساتها وانشائها من العدم. فرغم العداوات التي كانت قائمة بين الفرق السياسية المختلفة فقد تمكن الملك فيصل ان ينجح في مهمته حكم البلاد ويبرهن على ان المظلة الملكية هي الضرورة الوحيدة التي تتطلبها ظروف وحاجة الجهات العراقية المختلفة
وفي هذا الجو ظهرت امام الفريق بكر صدقي مطامع كبيرة جعلته ينظر الى افق اوسع لتحقيق مآربه مستغلا غياب القيادة المدنية الحكيمة القادرة على الامساك بكل الخيوط ووضع الحلول السليمة لكل معظلة ، واطماع بكر صدقي هذه شجعته على القيام باتصالات ببعض اصدقائه ومنهم العقيد شاكر الوادي الذي صور له سهولة العمل وعظمة المجد الذي سيفوز به اذا نجح في عمله وخلف قيادة طه الهاشمي رئيس اركان الجيش الذي كان يكن له حقدا كبير.
حينذاك امكن ابلاغ المؤامرة التي حاكها بكر صدقي مع حكمت سليمان الى عدد من الضباط الموجودين في ( قره غان) وعلى الاخص عبد اللطيف نوري قائد الفرقة الاولى ..
ولهذا وضع القائدان بكر صدقي وعبد اللطيف نوري مسودة رسالة موجهة الى الملك غازي يطلبان فيها تأليف وزارة جديدة برئاسة حكمت سليمان
كانت مطامح بكر صدقي في الواقع تتركز في توجيه ضربة تضمن للجيش بان يصبح هو الاداة المسيطرة على امور البلاد، وان تصبح قيادة هذا الجيش في يد بكر صدقي نفسه. ويبدو ان احدا من المغامرين لم يكن يتطلع في اي وقت الى الحصول على الدكتاتورية الشخصية او الرسمية
اضافة الى ذلك ان سمعة بكر صدقي تعاظمت عقب قيادته الحملة ضد الاشوريين عام 1933 التي امره بها الملك غازي اثناء غياب والده خارج العراق فخلقت لدى بكر صدقي نزعة عسكرية .
ومن هنا ظهر الجيش كعامل مهم في السياسة العراقية وخاصة عندما قضي على عصيان الاشوريين عام 1933 بقيادة بكر صدقي قائد المنطقة الشمالية انذاك فنال الجيش احترام الشعب وتقديره واعتبره الحارس الامين لاستقلال العراق ورمز سيادته الوطنية. ومن هنا شعر الضباط باهميتهم السياسية وقدرتهم على التاثير في مجرى الاحداث عندما اكتشفوا بعد ذلك انهم استغلوا ببشاعة حينما استخدمتهم السلطات الحكومية كجهاز بوليسي تسخره اهواء السياسيين المتناحرين على السلطة وربط هؤلاء العسكريون مصيرهم ببعض السياسيين القدامى الذين عرفوا باتجاهاتهم القومية امثال:
ياسين الهاشمي ونوري السعيد ورشيد عالي الكيلاني ولم تتبلور في اذهانهم فكرة استخدام الجيش لقلب نظام الحكم
وفي 7 ايار/مايو 1935 بدا عصيان عشائري جديد في عهد حكومة ياسين الهاشمي قام به الشيخ خوام زعيم عشائر آل زريج احتلوا خلاله المبنى الحكومي – السراي – في الرميثة وحطموا خط سكك الحديد فيها واسقطوا طائرة عراقية وقتلوا اثنين من الضباط البريطانيين مما اضطرت حكومة الهاشمي الى اعلان الاحكام العرفية في الرميثة وارسلت قوات الجيش تحت قيادة اللواء بكر صدقي الذي كان قد اشتهر بالقسوة والبطش مع الاشوريين فهاجم صدقي المنطقة والقى القنابل على قراها من الجو وقبض على الشيخ خوام وانتهت حركة العصيان بعد ان ابدت قوات بكر صدقي في الرميثة قسوة كبيرة حينما هاجمت قراها وتحطيم منازلها وقتل العديد من المواطنين دون تمييز كما عقدت محاكمات عرفية لذوي الصلة بالعصيان مما نتج عنه اعدام تسعة اشخاص من ابناء العشائر وسجن اخرين بعضهم مدى الحياة وبضغط من بكر صدقي على رئيس واعضاء المحكمة فقد حكمت على الشيخ شعلان العطية زعيم عشائر الاكرع في الديوانية واحد زعماء ثورة العشرين بالاعدام
وقد ادت هذه الاعمال ردود فعل عنيفة لدى الاوساط الشعبية والسياسية التي عقدت اجتماعا في منزل مولود مخلص قدمت على اثره مذكرة احتجاج الى الملك غازي على الجرائم التي ارتكبت بحق العشائر العراقية
مصرع بكر صدقي
دعي الفريق بكر صدقي لحضور مناورات عسكرية يجريها الجيش التركي فسافر بالسيارة مع مرافقيه وبعض المقربين اليه عن طريق كركوك ثم الموصل التي وصلها يوم 10آب/اغسطس 1937 وقضى تلك الليلة في دار الضيافة في الموصل . وفي اليوم التالي 11آب قرر صدقي ان ينتقل الى مقر سرب القوة الجوية في الموصل لكي يقضي ليلة هناك نظرا لزحام دار الضيافة بالزبائن فاخليت له غرفة آمر الرف ليبيت فيها ، وبينما كان بكر صدقي يجلس عصرا امام بناية مقر السرب محاطا بكل من الضباط محمود ايوب وجهاد عبد الغني ونديم صديق وموسى علي آمر السرب وكاظم عبادي الذي حضر بطائرته في اليوم نفسه مع بعض الهدايا لكي يستصحبها بكر صدقي معه الى تركيا ، في هذا الوقت دخل الطيار محمود هندي وهو احد الضباط( المتآمرين) الغرفة المخصصة لبكر صدقي وخرج من الباب الخلفي تاركا اياه مفتوحا فتسلل منها الجندي محمد عبد الله التلعفري الذي اعده الضباط( المتآمرون) لاغتيال بكر صدقي وخرج على حين غرة من الباب الرئيس للغرفة شاهرا مسدسه ووقف على راس بكر صدقي واطلق عليه ثلاثة عيارات نارية تفجر الدم من راسه على اثرها كالنافورة فاصيب الحاضرون بالذهول غير مصدقين ما حدث!!.
فقام عندئذ الرئيس الاول- الرائد – الطيار محمد علي جواد قائد القوة الجوية العراقية الذي حضر في اليوم نفسه بالطائرة لتوديع بكر صدقي وهمّ على الجاني وامسك به محاولا تجريده من سلاحه الا ان الجندي التلعفري اراد ان يتخلص منه بدفعه دون جدوى قائلا له انه لايستهدفه ، ولما لم ينجح الجندي اضطر الى ان يطلق على الرائد محمد علي عيارا ناريا اصاب مقتلا من قلبه فخر محمد علي جواد صريعا مضرجا بالدماء.
شهادة الطيار موسى علي
يتحدث العقيد الطيار موسى علي عن اللحظات الاخيرة من اغتيال بكر صدقي فيقول : أنه دخل دار ضباط السرب الاول في الموصل بعد ظهر يوم الحادي عشر من آب 1937 ، وفي الساعة الرابعة والدقيقة الخامسة والعشرين ، فرأى بكر صدقي جالساً على أريكة ضخمة وعلى يساره أريكة ضخمة أخرى طويلة جلس في زاويتها اليمنى ،أي على يسار بكر صدقي محمد علي جواد ، وأشار بكر عليّ أن اجلس على يساره وفي محل محمد علي جواد الذي إنسحب الى الجانب الاخر من الاريكة وكان بكر صدقي يتحدث بصورت منخفض مما اضطرني الى أن أقرب رأسي قرب رأسه وإذا بي أسمع محمد علي جواد يتساءل " شتريد" ولما أدرت رأسي الى الخلف وجدت جندياً خيالاً يلبس ثوبا خاكياً مع سروال قصير واقفاً خلفنا ويداه وراءه وهو على بعد خمسة أمتار فظننتُ بأنه من مريدي بكر .. ولم ينظر بكر الى الخلف بل بقي ثابتاً ، واذا بي أسمع صوت إطلاقات نارية فأدرت رأسي الى الخلف فوراً لمعرفة مصدرها واذا بي أرى الجندي الذي كان واقفاً يطلق مسدسه باستقامتي وسمعت بكر صدقي يئن أنة واحدة وبعدها سكن بدون حراك ( موسى علي، أضواء على مقتل الفريقين جعفر العسكري وبكر صدقي ، ص 50 ، طبعة 1981)..
994 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع