ذكريات منع التجوال واغلاق مطار بغداد الدولي يوم ٢٩ - ٩ -١٩٧٣
(منع التجوال) قرار تتخذه السلطات في بعض الظروف والأحوال من أجل حفظ الأمن وتسهيل حركة القوات الامنية، وتامين السلامة العامة. وقد شهدت العاصمة بغداد عدة مرات تم حظر التجوال فيها، واهمها ما يحصل عقب وقوع الانقلابات العسكرية، وكذلك في ايام اجراء التعداد العام للسكان (1927، 1937، 1947، 1957، 1965، 1987). واحيانا يفرض حظر تجوال جزئي (ليلا فقط مثلا) كما في ظرف جائحة كورونا في بعض المدن حيث فرضت بعض الدول مثل المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية حظرا جزئيا للتجوال للحد من انتشار فايروس كورونا عام 2020.
من هو أول من طبق حظر التجوال في التاريخ الاسلامي:
وتروى كتب التاريخ أن أول من طبق حالة الطوارئ وحظر التجوال ومنع خروج الناس من بيوتهم في التاريخ الإسلامي هو والي البصرة زياد بن أبيه في عهد الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان حيث أعلن حالة الطوارئ في البصرة وهدد بقتل كل من تسول له نفسه خرق حظر التجول، حيث وبحسب كتاب "الدولة الأموية ومقوماتها الإيديولوجية والاجتماعية" لـ بثينة بن حسين، فإن الخليفة الأموى معاوية بن أبى سفيان، كان قد أوكل إلى زياد بن أبيه مهمة تنفيذ أوامر الوالي في مدينة البصرة بالعراق، ومطاردة اللصوص وقطاع الطرق والأشقياء والمتمردين والثوار، فقام الأخير بتأسيس شرطة البصرة، وهى التي قامت بتنفيذ قراراته بالقوة، وقد ألقى زياد خطبته المشهورة بالبتراء بالبصرة التي منع فيها على الناس الخروج ليلا، فهو نوع من حظر التجول. وبعد أن أصدر هذا القرار، كلف صاحب الشرطة بالخروج إلى شوارع البصرة فإذا وجد عاصيا لأوامر زياد يقبض عليه ". ويذكر الكتاب محمد عبد الستار البدرى في كتابه "رسائل الزمن المستترة"، أن زياد بن أبيه، والذى يعتقد أنه كان أول من طبق حظر التجوال الليلى في مدن العراق، كان لحماية ملك أخيه معاوية بن أبى سفيان، ويحكى أن أحد الرعية نام في الشارع فأيقظه جنود زياد أثناء الحظر فحملوه له، وامامه شرح الرجل أمره وأنه قد غلبه النوم، ورغم أن زياد صدق الرجل إلا أنه أمر بقتله حيث رأى أن في "قتله إصلاحا في الرعية".
صور من بغداد في يوم التعداد العام للسكان 1965 جسر الشهداء
صور من بغداد في يوم التعداد العام للسكان 1965 جسر الاحرار
صور من بغداد في يوم التعداد العام للسكان 1965 الكاظمية
الرئيس الشهيد عبدالسلام محمد عارف يشرف على تعداد عام 1965
منع التجوال في بغداد يوم 29 أيلول 1973
وأعود اليوم لموضوع حوادث زمرة ابو طبر الاجرامية التي اقلقت المواطنين والاجهزة الأمنية المختصة في مدينة بغداد خلال الفترة من 24 نيسان 1973 الجريمة الاولى جريمة المنصور (عائلة الحمامي)، والثانية يوم 2 آب 1973 (عائلة جان ارنست)، والثالثة يوم 31 آب 1973 (عائلة مدير الشرطة بشير السلمان). وهي الجرائم الدموية التي أربكت الوضع الأمني في بغداد وسببت حالة من الرعب الجمعي بين الناس، وادخلت الاجهزة الامنية بالاستنفار من اجل القبض على هذه العصابة الخطيرة ومنع امتداد هذه الجرائم او تكرار وقوعها.
وقد رافقت هذه المرحلة انمتشار رهيب للاشاعات (اشاعات الرعب) والتي كانت فيما بعد موضع الدراسة والبحث من قبل كل من الاستاذ الدكتور حاتم الكعبي في بحثه الموسوم (Social Psychological Analysis of Panic) والاستاذة الدكتورة ناهده عبدالكريم حافظ من خلال رسالتها للماجستير في علم الاجتماع بكلية الآداب جامعة بغداد والمعنونة (دراسة حالة رعب جمعي في مدينة بغداد) عام 1975 وهي الرسالة الوحيدة التي تناولت دراسة حالة الرعب الجمعي التي احدثتها جرائم عصابة ابو طبر في مجتمع مدينة بغداد عام 1973.
غلاف رسالة الماجستير للاستاذة ناهدة عبدالكريم حافظ من قسم الاجتماع تترصد حالة الذعر العام والاشاعات التي رافقت كل حادثة من حوادث ابو طبر
من الجدير بالذكر أن الدولة أولت اهتماما فائقا بموضوع هذه الجرائم، وضرورة التوصل لمرتكبيها، فاستعانت بخبرات اجنبية (قيل من المانيا الديمقراطية ومن فرنسا) كما ان الدولة ارسلت الخادمة المصابة بحادث بيت جان آرنست الى بريطانيا لغرض العلاج وافاقتها من الغيبوبة اثر ضربة من المجرم ابو طبر على راسها جعلتها تفقد الوعي ولكن للاسف لم تسترجع الوعي والذاكرة بعد افاقتها ولم تستطع ان تقدم معلومات ذات جدوى للسلطات الأمنية.
تفسير الدولة للحوادث:
كان من جملة التوقعات المحتملة عن دوافع هذه الجرائم التي توسطتها حادثة المحاولة الانقلابية لمدير الامن العام ناظم كزار يوم 30 حزيران 1973 بروز تاويلات عن احتمال وجود صلة بين وقوع هذه الجرائم (وبالاخص الجريمتين الأخيرتين) اللتين وقعتا بعد اسابيع قليلة من المحاولة الانقلابية، واحتمال وجود اطراف موالية لمدير الامن العام ناظم كزار الذي جرت تصفيته خلال مطاردته بعد هروبه باتجاه الحدود الايرانية، وأن تلك الأطراف تحاول الانتقام لمقتل اللواء ناظم كزار.
ناظم كزار في احدى فعاليات كلية الشرطة والى جانبه وزير الداخلية الفريق سعدون غيدان ورئيس اركان الجيش الفريق عبدالجبار شنشل وبالصف الخلفي اللواء عبدالودود محمد بسيم عميد كلية الشرطة
لم تصدر تفسيرات وبيانات وافية من السلطات الحكومية لتفسير وتأويل الحوادث الإجرامية، خلال الفترة من 24 نيسان 1973 لغاية يوم 24 ايلول 1973 حيث كان خطاب لنائب رئيس مجلس قيادة الثورة خلال اجتماع لمناقشة مشروع الحكم الذاتي لشعبنا الكردي عقد يوم الاثنين 24 أيلول 1973 في بناية المجلس الوطني قال فيه بشأن الجرائم:
((إن الجرائم الأخيرة ليست جرائم لأشخاص ساديين، بل هي جرائم يرتكبها عملاء خونة باعوا انفسهم للأجنبي ولن يفلتوا من العقاب)) وقال ((إن الثورة قادرة على سحق الجيوب المضادة)). ولكن واقع الحال ونتائج التحقيقات المعمقة مع زمرة ابو طبر الاجرامية لم تصل الى وجود اي صلة لاطراف اجنبية او مخابرات معادية في وقوع هذه الجرائم ولم يثبت وجود صلة للعصابة باي طرف اجنبي معادي..
خبر منع التجوال في بغداد كما نشرته جريدة الجمهورية في صفحتها الاولى
من ذكريات منع التجوال يوم الجمعة 29/9/1973 الثاني من شهر رمضان 1393 هـ
بعد ان وقعت الجريمة الثالثة أو بالأحرى التحدي الأمني الثالث يوم 31 آب 1973 (مقتل عائلة مدير الشرطة بشير السلمان) إتخذت الدولة قراراً باجراء تفتيش عام للمساكن في بغداد للبحث عن أدلة توصل لكشف (عصابة ابو طبر) في ضوء نتائج التحقيقات والكشف الجنائي لمسارح الجرائم الثلاث التي وقعت في بغداد والاستعانة بالخبراء. ونشرت جريدة الجمهورية يوم 29/9/1973 في صدر صفحتها الأولى ((مصدر مسؤول يوضح أهداف قرار منع التجوّل: نشاط واسع لكشف القتلة المجرمين وتطويق إجرامهم الوحشي)) حيث اوضح مصدر مسؤول امس ان قرار منع التجول الذي اصدره السيد سعدون غيدان وزير الداخلية جاء بعد موافقة الجهات العليا على اقتراح تقدمت به اجهزة الامن المختصة لاجراء تحريات محدودة في بعض مناطق بغداد حول الجرائم الثلاث الغامضة التي وقعت مؤخرا في ثلاث ضواح من بغداد.
وقال المصدر أن الإجراءات الأمنية تشمل إيقاف رحلات الطائرات المغادرة الى خارج القطر من مطار بغداد.
وكان ناطق بلسان وزارة الداخلية قد أعلن في وقت سابق أن الجهات المسؤولة تبذل نشاطا واسعا وجهود استثنائية للكشف عن المجرمين الذين اشارت التحقيقات الاولية في الجرائم الثلاث انهم زمرة واحدة وان الجهات الامنية المختصة اتخذت من جانبها كافة الاجراءات الوقائية اللازمة لتطويق هذا الاجرام الوحشي.. وقال انها تحتفظ بالتفصيلات المتعلقة بالموضوع لحين استكمال التحقيقات الاصولية.
وجدير بالذكر ان نائب رئيس مجلس قيادة الثورة كان اشار قبل ايام قليلة ان الجرائم الاخيرة ليست جرائم ساديين كما يتصور البعض، بل هي جرائم ارتكبها العملاء الخونة الذين باعوا انفسهم للاجنبي. واكد السيد النائب ان المجرمين لن يفلتوا من العقاب وسوف يكشف امرهم وينالوا العقاب الصارم.
وفي اليوم التالي 29/9/1973 نشرت جريدة الجمهورية تحقيقا صحفيا تحت عنوان ((جماهير الشعب تستجيب بوعي لقرار منع التجول- المواطنون يرحبون باللجان المختصة ويقدمون لها المعلومات المطلوبة بدقة – إجراءات الثورة تستهدف كشف المجرمين لينالوا العقاب الصارم)).
ونشرت صور لشوارع مدينة بغداد تحت حالة منع التجوال وصور من زيارات اللجان المختصة بجمع المعلومات وورد فيه (اكدت جماهير شعبنا امس مرة اخرى، حرصها الشديد والتزامها الواعي بالاجراءات التي تصدر عن القيادة والسلطة الوطنية فما ان اعلن المذيع من تلفزيون بغداد في الساعة السابعة من صباح يوم الجمعة بيان وزارة الداخلية بفرض نظام منع التجول في مدينة بغداد وضواحيها حتى اشعار آخر حتى استجاب المواطنون وعلى مختلف الأصعدة وفي كافة جهات ومحلات وأطراف بغداد العاصمة لهذا النداء فأغلقت الأسواق والحوانيت والمحلات العامة والخاصة وتوقفت حركة المرور إلا من سيارات الشرطة والجهات الخدمية، المكلفة بتنفيذ بيان وزارة الداخلية واداء المهمات المنوطة بها والتزام ابناء الشعب دورهم ومساكنهم وسمح لاصحاب الافران والمخابز بفتح مخابزهم لتوفير الخبز والصمون للمواطنين، كما بقيت دوائر الكهرباء والاطفاء والصحة بكامل استعدادها لتقديم خدماتها حال الطلب.
من ذكرياتي الشخصية يوم منع التجول في بغداد:
وردنا عصر يوم الخميس السابق ليوم منع التجول تبليغ هاتفي بالحضور لدوائرنا (وكنت حينها ملازم اول منتسبا لمديرية شرطة التحريات الفنية) والتحقنا عند السادسة مساء بمقر المديرية في منطقة السنك وفي الساعة الثامنة تحركت بنا العجلات الى منطقة تجمع الكرخ في ملعب الادارة المحلية بالمنصور(مقابل معرض بغداد الدولي) وتم التاكد من تسجيل اسماء الحضور ثم تقسيمهم حسب الرقعة الجغرافية لمنطقة الكرخ وتحت اشراف المرحوم (طه ياسين رمضان) الذي كان المكلف بقيادة الحملة في جانب الكرخ،
طه ياسين رمضان المشرف على حملة تفتيش بغداد
المرحوم عدنان القصاب المشرف على حملات تفتيش قاطع المامون وتوابعها
وكان نصيبي ضمن قاطع شعبة المامون الذي كان يقوده المرحوم (عدنان القصاب) حيث تم نقلنا الى مقر قيادة شعبة المامون عند منتصف الليل ومن هناك تم تقسيمنا حسب القواطع الى فرق تفتيشية برئاسة عضو فرقة من الحزب وعضوية ضابط شرطة وضابط امن واحد عناصر الحزب وتم ابلاغنا بتوجيهات الحملة والاهداف منها،
المرحوم موفق عسكر (مدير عام دار الحرية) والمشرف على التفتيش
وكان مسؤول الفريق الذي كنت احد اعضائه هو المرحوم (موفق عسكر) مدير عام دار الحرية للطباعة آنذاك، حيث أوجز لنا تفاصيل المهمة وهي جمع المعلومات عن كل ما يفيد في كشف الجرائم الثلاثة والبحث عن المبرزات واية ادلة مهمة ومفيدة.
جزء من شارع الربيع قرب نفق الشرطة وجامع الملا حويش
وابتدأت مهمتنا عند الساعة السابعة صباحا في منطقة حي الاصلاح الزراعي قرب نفق الشرطة (وهي المنطقة المحصورة بين حي القضاة وبين شارع الكنيسة) وهي المنطقة التي يقع فيها منزل المرحوم موفق عسكر... وقد اكتفينا بالسؤال من صاحب الدار عند الباب عن معلومات عامة عن افراد اسرته ولم ندخل الا لسوى 20% من مجموع الدور التي فتشناها بالحملة. وقد لاحظت ان رئيس الفريق قد استلم قائمة معدة من قبل الامن العامة تتضمن اسماء اشخاص من سكنة محافظة بغداد من العناصر والاشخاص المحسوبة ضمن الاحزاب المعارضة حيث تم التاكيد على التعمق في التفتيش لدورهم خشية امتلاك اسلحة غير مرخصة او منشورات معادية.
ولا صحة اطلاقا لما اشيع او يشاع احيانا من انه تم تصوير العوائل او المشتبه فيهم فلم يكن بين فريق العمل من هو مصور او يمتلك جهاز أو آلة تصوير. وقد انتهت المهمة حوالي الغروب (وكانت اليوم جمعة وهو الثاني من شهر رمضان) حيث امضينا مهمة التفتيش على مدار النهار وكنت صائما وكذا السيد رئيس الفريق موفق عسكر، وبعض اعضاء الفريق حيث دعانا لمأدبة إفطار في داره ضمن المنطقة وبعدها اعلن انتهاء المهمة وانصراف كل منا الى غايته.
التفتيش لم يؤد الى نتائج ايجابية في كشف جرائم ابو طبر
وقناعتي الشخصية من خلال خبرتي وعملي الجنائي ان عملية منع التجول وتفتيش مدينى بغداد لم تكن لها اية نتائج ايجابية ملموسة على صعيد كشف الجرائم الحاصلة وكلنا نتذكر كيف تم القبض على المجرم ابو طبر وكيف وقع في قبضة رجال الشرطة بفضل تعاون المواطنين مع الاجهزة الامنية وبالاخص شرطة النجدة وشرطة مكافحة الاجرام.
4804 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع