د. سيّار الجَميل
لا اريد ان اكتب مقالا يعالج الوضع السياسي في العراق الذي يكتب عنه العراقيون يوميا عشرات المقالات ، اذ نقرأ ونسمع ما يصلنا منها ، وقد برعت اسماء عراقية ممتازة في نشر تحليلات في معالجة حالات ومراقبة ازمات ،
وتعد نصوصهم بمنتهى القوة والمنعة والتفكير النقدي الجاد ، علما بأن هناك المئات من الكتبة غير المحترفين يعبرّون عن آرائهم على الانترنيت بمنتهى السماجة والسذاجة وسيكنسهم الزمن ، نظرا لانعدام موضوعيتهم وتهريجهم وما يقومون به من توزيع اتهامات او القاء شتائم او اشاعة اساءات واستخدام اوسخ الكلمات والاوصاف لأسباب سياسيّة او طائفيّة او سايكلوجية مريضة .. دعوني اليوم اتحدث مفككا المشهد السياسي العراقي وما يعانيه من خلل وانقسامات ، واتساءل : هل سيجد اهل العراق طريقهم في ظل واقع خلقته ظروف عملية سياسية خطيرة مع رواسب مرحلة تاريخية مضت ومخلفات عهد سياسي راحل ؟؟
لقد جعلوني وغيري ننحدر الى مستوى العملية السياسية الحالية ، وهي وليدة زمن الاحتلال الامريكي للعراق . انها العملية التي قسمّت العراقيين الى ثلاثة (شعوب) متباينة باسم " المكوّنات الاساسيّة " مع نظرتها الى بقيّة العراقيين مجرّد اقليات تافهة ( كذا ) ! كلّ هذا جرى بعد ان كانت نخب العراق الفاعلة تتطلّع الى الارتفاع بالعراق الى مستوى احدى عجائب الدنيا السبع (الجنائن المعلقّة ) ، وكانت حالمة بذلك كأحلام العصافير ! السؤال الان : ما هي حالة هذه ( الشعوب ) التي افتقدت الارادة الوطنيّة الموحّدة منذ زمن طويل ، نتيجة للضربات والسياسات التي مورست ضدّ العراقيين منذ اكثر من خمسين سنة ؟
اولا : امامنا الشعب الكردي الذي يبدو اليوم وقد انقسم سياسيّا الى اتحاديين وديمقراطيين وتغييريين واسلاميين محافظين وغيرهم في اقليمهم الموّحد بعد ان خاضوا صراعات دمويّة في ما بينهم ، ولكنهم جميعا توحّدوا في ظلّ ارادة سياسيّة واحدة ازاء العراقيين ، اذ آمن الكرد جميعهم بمبادئ واحدة لم يتفرقوا ابدا من دونها ومن دون المصالح الخاصة بإقليمهم ، وهذا سرّ قوتّهم في التعامل مع بقيّة العراقيين ، وسواء رضينا ام ابينا ، فهم حتى الان اذكياء ويعرفون كيف يشتغلون سياسيّا مع الاخرين !
ثانيا : اما الشعب الشيعي في العراق - ضمن المنطق الذي فرضته العمليّة السياسيّة - ، وكما انبثق ما اسمي بـ " البيت الشيعي " ، فهو ينقسم الى شيعة اسلاميين يتبعون مرجعيّة طهران الايرانيّة ومنهم الدعويون والبدريون وغيرهما ، والى شيعة اسلاميين يتبعون مرجعيّة النجف العراقيّة ومنهم كلّ من المجلسيين والصدريين مع غيرهما من الاتباع . ويبدو ان الانقسام سيتعمّق في حالة عدم استمرار التحالف الوطني الشيعي بينهم ، الا في حالة انضمام الدعويين الى مرجعية العراق وترك نوري المالكي لوحده ! اما في حالة الرضوخ لإرادة ايران بقبول الولاية الثالثة ، فسيلعب المالكي بالجميع لعبته على امتداد السنين القادمة ! ان الشيعة بقسميهما يشكلّون الاغلبيّة السياسيّة ، ولكن الاقليّة المعلمنة من الشيعة، فلا يعتبرونها منهم ما دامت لا تحمل ايّة توجهّات دينيّة مقدّسة كونها تقّدم عراقيتها وعلمنتها على شيعيتها مع احترامها للمذهب .
ثالثا : اما السنّة في العراق فهم الحلقة الاضعف ، وهم يعيشون ضياعا واغترابا ، وقد ازدادوا تشرذما بفعل عدم وجود ايّ انتماء يجمعهم او مرجعيّة توحدّهم ، فبقيت ارادتهم مشلولة ، ولا مبادئ موحدّة تربطهم وتؤلّف بينهم ، وهم ما زالوا يتغنوّن باسم الوطن والعروبة والاسلام علما بأنّهم غير مترابطين لا من الناحية الجغرافيّة ولا من الناحيّة التنظيمية ، وليس لهم ايّة ارادة سياسيّة تجمعهم ، كما انّهم لم يفكرّوا يوما انهم جزء له استقلاليته ومشروعه في كيان عراقي خاص بهم ، بل تجدهم غير منسجمين لا من الناحيّة الاجتماعيّة ولا الثقافية ولا السياسية .. ولكنهم يشعرون جميعا بأنّهم عرضة للتهميش والاقصاء وقد اتهموا بالبعث والإرهاب والتكفير وما اشيع عنهم اعلاميّا وسياسيّا منذ العام 2003 ، مدنهم محاصرة او محتلة او مضطهدة ولا تمنح لها حقوقها المعنوية ولا استحقاقاتها المالية . مع معاناتهم من معاملة سيئة للغاية . انّ السنّة في العراق غير موحدّين على الاطلاق ، بل ان المأساة عند بعضهم الذي يبيع كلّ قيمه ومبادئه واهله من اجل السلطة والمال والجاه مع ثمة تباينات طبقيّة ومدينية وريفيّة وعرقيّة في ما بينهم ..
رابعا : القوى العلمانية العراقية ، وهي قوى نخبوية غدت اقلية مكروهة ومهمشّة اليوم في مجتمع يسود فيه المناخ الديني والسلوك الطائفي ، وهي قوى لا تلقى ايّة استجابة تذكر لدى الناس ، بل وانها مخترقة من اناس موتورين وباطنيين يتحدّثون باسمها ولكن قلوبهم مع السلطة .. وتتوضّح صورتها البائسة بواسطة الانتخابات الاخيرة . انّ العلمانيين العراقيين غير متفّقين حتّى اليوم على برنامج سياسّي موحّد او على فكر ايديولوجي مرن او مبادئ وطنيّة حقيقيّة ، ولم تزل الخلافات جوهريّة بين الليبراليين والديمقراطييّن والقومييّن والماركسييّن التقدمييّن والشيوعيين.. مع ضعف صوتهم في بحر من الاعلاميّات الهجينة والفوضويّة والطائفية والارتزاقيّة .. ان نظافة هؤلاء وقوّة مبادئهم لا تستقيم مع غيرهم من الجهلة وذوي المصالح الخاصة او مع المنافسين الطائفيين والمتخلفين ! كنت قد اقترحت على احد الزعماء السياسيين العلمانيين العراقيين ولمرتين اثنتين، ان يغادر اطار العمليّة السياسيّة الحاليّة ، ويؤسّس له جبهة سياسيّة معارضة في البرلمان بعد ان غدروا به في انتخابات 2010 ، لكنه فضّل البقاء مشاركا . واعتقد انه لو قاد معارضة سياسيّة برلمانية فاعلة في السنوات الاربع الماضية لحاز اليوم على اكثر من مليون صوت !
ان المشاكل التي يعانيها العراق اليوم لا يمكن ان تجد حلولا لها من خلال انتخابات برلمانيّة والتي لها فائدة تاريخيّة واحدة ، انها عبرّت عن انقسام العراقيين تعبيرا صادقا وواضحا ، وسواء كانت الانتخابات مزوّرة ام ليست كذلك ، فان " التغيير " الذي حلم به البعض ، بل وبنى عليه الآمال لا يمكن ان يحدث سياسيّا في بنية سياسيّة تقليديّة متخلفّة ومستلبة ومختلة الموازين في مجتمع يعاني من الانقسام ، بل وان التغيير يحدث من خلال نهج معيّن واضح له برامجه ورؤيته المستقبلية البعيدة . انّ القيادات الطوباوية المعروفة على الساحة العراقية لا يمكنها ان تقود أيّة ثورة ، او ايّ تغيير جذري من اجل البناء والمجتمع يعاني من كل هذه الانقسامات.
ان الانقسام الذي انتجته العملية السياسية الماكرة التي قامت بتفسيخ بنية المجتمع العراقي اليوم وجعلتها حقيقة تمشي على الارض هو اخطر ما يعاني منه العراق اليوم . لقد عاش العراقيون انقسامات سياسية متعددة على امتداد القرن العشرين ، وجرت دماء وذهبت ضحايا وجرت انقلابات واكتظّت معتقلات وسحلت اجساد ونصبت مشانق واعدمت قيادات وزهقت ارواح .. ولكن انقسامات اليوم اخطر وامرّ ، اذ ترسخّت الكراهية والاحقاد بين الاعراق والمذاهب والطوائف والجهويات .. وبالرغم من كلّ التفسخات الحاصلة وافتقاد الامن واستلاب الثروات الوطنية ، الا ان الانتخابات في كل مرة تحرّك المشهد السياسي ، وبقدر ما يمضي الزمن بكل مثالبه السياسية ، الا ان الوعي بها عند العراقيين يبدو عاليا جدا ، وكأنهم بدأوا يراهنون عليها من اجل ابقاء حزب حاكم او زعيم متسلط او من اجل تغيير حزب او زعيم او حالة ..
ويبدو ان العراقيين المؤمنين بالتغيير الحقيقي كانوا من القلة بمكان .. ولقد سبقني احد الاخوة الكتّاب العراقيين بالقول ان الاسلوب الديمقراطي الذي راهن عليه البعض من اجل التغيير لا يجدي نفعا !، دعوني اقول : انني ارى ان التغيير الحقيقي بحاجة الى حدث تاريخي كبير يسلك طريق القطيعة وان الضرورة تقضي بحصول مفاجأة كبرى بمجيء قيادة تؤمن بتغيير العراق وتقدمه .. بمعنى ان التغيير الحقيقي لا يأتي الا من خلال ثورة حقيقية ترسم طريقا جديدا للحياة .
لقد انتهى ماراثون الانتخابات لعام 2014 نهايات غير سعيدة للجميع بعد ان قالت (الشعوب العراقية ) كلمتها ، ولكن علينا ان نعلم بأنّ مشكلاتها هي غير مشكلات النخب السياسيّة التي تطمح بكلّ قواها استلاب السلطة والمال وستبقى الاحوال تراوح في مكانها ، بل تزداد كلّ يوم تعقيدا بسبب مشكلة تنصيب رئيس الوزراء وتوزيع المناصب، ولا يعرف حتّى الان من سيفوز بالسلطة في ظل صراع النخبة المعلن او ذوبانه في كواليس المنطقة الخضراء .. وما الذي تريد ايران رسمه من اجل ابقاء العراق ضعيفا جدا وذيلا لها لا ندّا يواجهها ويقف امام مشروعها من اجل مصالحه الوطنيّة ! دعونا ننتظر مفاجآت قادمة
وللحديث بقية .
369 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع