د. نزار السامرائي
بعد أحداث سامراء والموصل بوقت قصير دعا نوري المالكي رئيس مجلس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، مجلس النواب إلى الالتئام الفوري لإعلان حالة الطوارئ في العراق لمواجهة ما أسماه بالتهديد الذي تتعرض لها "مقدسات الشيعة" في سامراء
وكذلك لمواجهة الهجوم الواسع الذي بدأته "داعش" في معظم مدن المحافظات الست التي كانت قد بدأت حراكا شعبيا سلميا في شهر كانون الأول/ ديسمبر عام 2012/ ثم تحول بعد عام واحد إلى انتفاضة مسلحة دفعت فاتورتها الأكبر مدينة الفلوجة خاصة وسائر مدن محافظة الأنبار، وعلى الرغم من أن عمار الحكيم رئيس المجلس الأعلى الإسلامي والشريك الرئيس في التحالف الشيعي الحاكم قد قال في الاجتماع الذي عقد في منزل رئيس الوزراء السابق وزعيم التحالف الشيعي إبراهيم الجعفري بإن ما حصل هو ولنكن صريحين، انتفاضة السنة على ما يستشعرونه من ظلم واقع عليهم، إلا أن إصرار الخطاب السياسي والإعلامي الرسمي على أن ما وقع هو من فعل داعش، يؤكد سوء النية الحكومية لاستهداف المكون السني تحت طائلة المادة 4 إرهاب، ولا يغير شيئا من الواقع أن الحكيم ارتدى البزة العسكرية كجزء من التحشيد الطائفي الذي بدأته مرجعية النجف عندما دعت إلى "الجهاد الكفائي" دفاعا عن المقدسات الشيعية المهددة، ذلك أن القادة الشيعة عندما يتجردون من التفكير الشيعي المعبأ بأسباب الضغينة والخنادق المتقابلة فقد نسمع لهم رأيا موضوعيا.
لكن التداعيات السريعة للأحداث تجاوزت موضوع حالة الطوارئ التي أرادها المالكي لوضع قيادات الكتل السياسية المشاركة في الحكومة والتي لم تشارك أمام الأمر الواقع ظنا منه أن نائبا شيعيا واحدا لن يمتلك الشجاعة للوقوف ضد هذه الدعوة وإلا سينظر إليه على أنه متواطئ ضد المذهب ومقدساته وتوجهات المرجعية الشيعية، ولكن الدعوة تبخرت وسط سخونة الأحداث الكبرى التي فرضت نفسها على المشهد السياسي والأمني.
ومع ذلك علينا أن نطرح سؤالا عن أهداف المالكي للدعوة لإعلان حالة الطوارئ فنقول ماذا يمكن أن تضيف حالة الطوارئ إلى سلطات نوري المالكي الحالية في حال صوّت مجلس النواب المنتهية ولايته الدستورية لصالح تمرير مشروعها المقترح؟ولماذا عودة المالكي الآن إلى مجلس النواب طلبا لدعمه في مسعاه لمزيد من السلطات؟ خاصة بعد أن استخف به طيلة ثماني سنوات وهمش دوره وأمر بإسقاط الحصانة عن بعض أعضائه واعتقال بعضهم الآخر بطريقة بوليسية على الرغم من تمتعهم بالحصانة؟
وما هي دوافع الحراك الشعبي الذي انطلق نهاية عام 2012؟ وهل تعد الثورة التي بدأت باقتحام مداخل سامراء يوم 5 حزيران/ يونيو ساعة الصفر لها ولتنطلق منها إلى مناطق أخرى؟وهل استغل الثوار عامل المباغتة الناتج عن عملية سامراء بعد تركيز اهتمام الحكومة عليها ليشنوا هجوما كبيرا على مدينة الموصل " 400 شمال بغداد "وتمكنوا خلاله من تحرير أجزاء واسعة من محافظة نينوى وهو ما عزز معنوياتهم فوسعوا من دائرة عملياتهم لتشمل محافظات صلاح الدين وديالى وأجزاء من محافظة التأميم "كركوك" وباتوا يصوبون أنظارهم نحو بغداد، مما قلب المشهدين السياسي والأمني في العراق وأدى إلى خلط للأوراق الإقليمية والدولية ووضع العراق مرة أخرى على رأس نشرات الأخبار، فالتحركات السياسية تأخرت كثيرا عن تحركات الأسطول الأمريكي الذي وصلت منه حاملة الطائرات "جورج بوش" وكأنها رسالة سياسية ذات مغزى للعراقيين الذين عانوا من ويلات الدور العسكري للولايات المتحدة في عهدي الرئيسين بوش الأب والابن .
من المعروف أن الحراك الشعبي في المحافظات الست المنتفضة كان قد طرح مطالب تتعلق بوضع حد للظلم الواقع على السنة الذين تعرضوا لحرب الإبادة والقتل والتهجير على الهوية، وتم طرح تلك المطالب في لائحة تتكون من 14 مطلبا كلها كانت تجسد معاناة المكون السني من الملاحقات غير المشروعة من جانب الأجهزة الأمنية أو التعذيب في المعتقلات الحكومية بحيث وصل حد الاغتصاب الجنسي للرجال والنساء، مما أوجد احتقانا سنيا لم يكن ممكنا السيطرة عليه لا من جانب الحكومة بالقمع ولا من الزعماء السنة المحسوبين على المالكي، والذي كان بإمكانه معالجة الاحتقان فيما لو توفر لديه الحد الأدنى من حسن النية.
أسوأ الدكتاتوريات هي التي تأتي عبر صناديق الاقتراع
تجاهل المالكي عن عمد دور السلطة التشريعية وهي السلطة العلية وتمتلك الحق الدستوري لعزل الحكومة، ولكن مجلس النواب كان قد تخلى عن سلطاته بسبب الإجراءات التي اتخذها المالكي بحق بعض النواب، فمنهم من صدرت بحقه مذكرة اعتقال استنادا إلى المادة 4 إرهاب، ومنهم تعرض لابتزاز بفتح ملف فساد، فتم إخضاع البرلمان لمشيئة المالكي بحيث لم يعد قادرا على ممارسة أبسط سلطاته، فعجز عن مجرد "استضافة" رئيس الوزراء لبحث التدهور الأمني الذي عاشه العراق أثناء ولايتي المالكي اللتين سجلتا أسوأ أداء لحكومة عراقية منذ قيام الدولة العراقية الحديثة عام 1921، بل إنه وبحكم صلاحياته منع كبار ضباط الجيش وضباط الأجهزة الأمنية من المثول أمام مجلس النواب لاستجوابهم بشأن فشلهم في ضبط الأمن.
ولم يتوقف الأمر على الجانب الأمني الذي يحتمل فرضية عدم الرغبة في كشف أسراره، بل تعداه إلى تجاهل دعوات كثير من النواب لاستجواب وزراء لا صلة لهم بالأسرار العسكرية، كما حصل مع استنكاف وزير التعليم العالي وهو قيادي في حزب الدعوة الإسلامية الحاكم عن الحضور أمام المجلس لأسباب، حتى تحول البرلمان إلى اللهاث وراء الامتيازات والمخصصات المالية، وتدنت سمعة المجلس إلى مستويات غير معقولة وكأن المالكي هو الذي أراد إيصاله إليها لمنعه من ملاحقة الفساد المالي والإداري أو الإخفاق في عمل الحكومة على مختلف الصعد.
ربما لم يتمتع رئيس دولة أو رئيس وزراء في العالم بصلاحيات تشبه الصلاحيات التي أخذها المالكي لنفسه،وكان معظمها خروجا على دستور عام 2005والذي ساهم المالكي بكتابته، ومع ذلك فقد ضاق الدستور على مقاسات المالكي ولم يعد يلبي نزوعه لتوسيع سلطاته على حساب السلطات الأخرى، وهذه الحالة هي التي أوجدت اصطفافا ضد "دكتاتورية المالكي" حتى من داخل التحالف الشيعي الحاكم، فالتيار الصدري والمجلس الأعلى سبق لهما أن اشترطا استبعاد المالكي عن رئاسة الحكومة للمشاركة فيها، وهذا ما حصل أيضا بعد انتخابات عام 2010.
أما السلطة القضائية فقد تم تسخيرها بما يخدم خطط المالكي السياسية والأمنية وخاصة تفسير الدستور والقوانين بما أمّن فرصته الملتبسة في تشكيل حكومته الثانية بعد انتخابات عام 2010، أو فرصته الراهنة للعودة إلى رئاسة الحكومة على الرغم من اتساع نطاق المعارضة لهذه العودة، ولاحظ خبراء القانون الدستوري بسهولة أن المحكمة الاتحادية العليا كانت على استعداد لإصدار أحكام متناقضة في قضايا متشابهة استنادا إلى فتوى قانونية قالت فيها إن صدور حكم من المحكمة لا يحتم الاستناد إليه في قضايا أخرى، لأن ظروف صدور أي حكم من قبلها تختلف عن ظروف النظر في أية قضية حتى في حال تشابه حيثياتها، وتعيد هذه الفتوى إلى الأذهان حكم المحكمة بعد انتخابات عام 2010 حيث قضت "بأن الائتلاف الذي يتشكل تحت قبة البرلمان هو الذي يشكّل الحكومة وليس الائتلاف الفائز بالانتخابات" ويبدو أن المحكمة تريد نسف الأساس الذي قام عليه حكمها السابق والذي جاء ملبيا لرغبة المالكي في مثل هذا التفسير ومستجيبا لرغبة الولايات المتحدة وإيران، إذ أن الانتخابات الأخيرة وضعت ائتلاف المالكي على رأس القوائم الفائزة وذلك عندما حصل على 92 مقعدا من مجموع مقاعد مجلس النواب المكّون من 328 مقعدا.
فهل تمهد المحكمة الاتحادية العليا الطريق لنفسها للتراجع عن حكمها السابق لتقول إن التحالف الفائز في الانتخابات هو الذي يشكّل الحكومة؟
هناك محاولات ومساع من جهات وأطراف مختلفة لتصوير ما حصل في محافظة نينوى على أنه استيلاء عسكري لتنظيم دولة العراق والشام الإسلامية (داعش) عليها، وهذا ما عكس على رأي خبراء عسكريين يراقبون المشهد العراقي أمرين في وقت واحد، الأول أن الجيش الذي تم تأسيسه بعد احتلال عام 2003، لم يتم تشكيله ليؤدي مهمات قتالية للدفاع عن العراق بل على العكس من ذلك تماما ظل حبيس الأفكار الطائفية والفئوية التي ظلت تغرس بين صفوفه من قبل جهاز التوجيه المعنوي ، والثاني أن جيشا بهذه المواصفات سيبقى من دون عقيدة قتالية وطنية جامعة خلافا لما ورد في دستور عام 2005 عن طرق تشكيل الجيش والقوات المسلحة من كل مكونات الشعب العراقي.
المرجعية الشيعية وفتوى الجهاد
مع أن المالكي سيحاول توظيف الفتوى التي أصدرها علي السيستاني بالجهاد الكفائي لصالح تكريس سلطته المطلقة على الشارع العراقي، إلا أن المراقبين يستعيدون أن السيستاني نفسه كان قد رفض بصورة قطعية إصدار مثل هذه الفتوى قبيل الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 بحجة فقهية طالما اعتمدها رجال الدين من المذهب الجعفري الاثني عشري، من أن الجهاد لا يجوز إعلانه في زمن الغيبة، أي غيبة الإمام الثاني عشر عندهم وهم المهدي المنتظر محمد بن الحسن العسكري صاحب الغيبة في سامراء المدينة السنية الوحيدة التي تضم مزارات شيعية، على الرغم من أن فقه المذاهب الأخرى يقول "في حال تعرض بلاد الإسلام لغزو من الكفار فإن جهاد الدفع يصبح فرض عين على كل مسلم ومسلمة" فهل امتنع السيستاني عن مواجهة "الكفار" عن عمد منه ثم أفتى بمجاهدة المسلمين السنة؟ فهل يستقيم الإسلام مع هذا الفهم المنحرف؟ أم أن الإمام الغائب قد ظهر من دون أن يعلن أحد عن ذلك؟
326 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع