د. علي محمد فخرو
عبر حقب طويلة ظن الشعب العربي أن مشكلته الأساسية هي مع نظام الحكم السياسي الاستبدادي، سواء أكان في صورة ملك عضوض، حكم الغلبة، في الأزمنة الغابرة باسم الخلافة الاسلامية، أو في صورة انقلابات عسكرية باسم حماية الأوطان، أو في صورة حكم الحزب القائد الذي من خلال ايديولوجيته وحدها ستنهض الأمة، أو مؤخرا في صورة قوى تحمل راية الجهادية التكفيرية العنفية التي لا تعترف الا بفهمها وحدها للدين وللسياسة ولطريق السعادة البشرية.
وفي الأزمنة الحديثة أدرك الشعب العربي أن لديه مشكلة أخرى كبيرة تمثّلت في طبقة أصحاب المال والاقتصاد، الذين بدل من أن يستعملوا ثرواتهم في بناء اقتصاد تنموي انتاجي عادل يعمُّ خيره الجميع انغمسوا في نشاطات اقتصادية تركَّزت في مضاربات العقار والأسهم، وفي تسويق منتجات الغير، وفي استثمار الفوائض والأرباح في أرض الغير ولصالح الأغراب. الهدف هو الربح السريع، بأقل جهد، وبأدنى المخاطر، وبتركزه في يد أقلية لا تمارس التشارك والتراحم والتضامن الانساني. ومن هنا ظل الاقتصاد العربي ريعيا واستهلاكيا، وبالتالي لا تمتد أغصانه في الأفق البعيد.
وفي السنين الأخيرة وجد الشعب العربي نفسه أمام مشكلة الكثير من رجالات الدين، المغالين في تشددهم وتزمتهم، المصرين على الانغماس في المشاحنات المذهبية الطائفية العبثية التي لا تخدم الدين، وانما تخدم أهداف القوى الصهيونية والاستعمارية التي تريد الابقاء على ضعف وتمزق الأمة العربية.
والآن، في هذه اللحظة، يجد الشعب العربي نفسه أمام اشكالية جديدة، اشكالية الكثيرين من القضاة العرب في اصدار أحكام جائرة غير منطقية، وأحيانا انتقامية، خصوصا بحق ناشطي السياسة من شباب وشابات حراكات الربيع العربي. وهذه اشكالية بالغة الخطورة.
ولا يعرف الانسان ان كان القضاة العرب يدركون أهمية الدور التاريخي الذي يجب أن يلعبوه في هذه المرحلة الحرجة من حياة شعوب هذه الأمة. فاذا كان الشباب قد يئسوا من أن تنصفهم الأنظمة السياسية، ومعها الجهات الأمنية التي تمارس الكثير من العنف والشدة، ويئسوا من المؤسسات الاقتصادية والمالية التابعة للرأسمالية العولمية المتوحشة التي لا تعترف الا باقتصاد السوق وقيمة التنافسية، ويئسوا من مؤسسات المجتمع المدني التي لم تعرف الا الصراعات والانقسامات فيما بينها والتي أنهكتها، والانتهازية الزبونية الخاضعة لسطوة السلطة، والتي قادت في النهاية الى ابتلاع سلطات الحكم لمجتمعاتها، وفي الفترة الأخيرة يئسوا من سلطات التعبير عن الرأي العام الممثّلة في الكثير من وسائل الاعلام المختلفة، والتي في كثير من الأحيان تبرر الظلم باسم حماية الأمن الوطني.. اذا كانوا يئسوا من كل تلك الجهات فان ملاذهم الأخير هو النظام القضائي، الذي يتطلعون اليه ليكون منصفا وعادلا.
هنا يتوجب طرح العديد من الأسئلة. الأول يتعلق بمهمات القاضي، فهل هي لا تزيد عن تفسير القانون وتطبيقه؟ أم أن له دوراً أيضا في توطيد العدالة؟ واذا كان القانون جائرا فهل يستطيع القاضي أن يتعايش مع ضميره اذا قبل بتطبيق أحكامه بدلا من الأعترا ض اوالتنحي أو حتى الاستقالة؟
هل حقا أن مسؤولية الجور والظلم والشدّة في القوانين تقع فقط على كاهل مشرعي القوانين وليس على مطبقيها أيضا؟
السؤال الثاني هل على الأقل أن حل جزء من تلك الاشكالية يكمن في نظام قضائي جديد يعتمد استقلالية القضاء اداريا وماليا وتعيينا للقضاة وترقيتهم ومحاسبتهم، بعيدا عن أي تدخل من قبل السلطة التنفيذية في الحكم؟
السؤال الثالث مدى الحاجة لادخال نظام هيئة المحلفين في المحكمة العربية حتى يكون الحكم على المتهّم نتيجة حكم القاضي والمحلّفين وبالتالي أكثر توازنا؟
ان اصلاح نظام وممارسة القضاء العربي أصبح أمرا لا يقل أهمية عن موضوع الاصلاح السياسي والاقتصادي والديني ذلك أن أبواب الفرج والأمل في أرض العرب أصبحت تضيق في وجه الانسان العربي، فاذا سد القضاء، أحد الملاذات الأخيرة، فاننا نهيّئ لبراكين من الغضب اليائس الذي سيحرق الأخضر واليابس.
ان أرض العرب تعيش جحيم النواقص الكثيرة في الحياة السياسية والاقتصادية والأمنية والاعلامية، فهل سنضيف اليها العيش في جحيم نواقص في أهم معقل من معاقل الحياة البشرية: معقل العدالة والانصاف والميزان؟
دعنا نذكرِّ قضاة أمة العرب بما قاله الامام علي بن ابي طالب عندما خاطب عامله في مصر بأن «لا تكونن عليهم (أي الناس) سبعا ضارياَ تغتنم أكلهم، فانهم صنفان، اما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق». وكذلك بما قاله الصدّيق أبوبكر لعموم الناس «وليت عليكم ولست بخيركم، فان أحسنت فأعينوني، وان أسات فقوموني». من حقّنا على فضاة العرب أن يقوموا هم بمنع بعضهم من أن يصبح سبعا ضاريا وبتقويم من يسيئ الى هذه المهنة الربانية العظيمة.
509 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع