وتغيرت معالم الطريق .. للتاريخ والعبرة ح / 5
يوم قـُرعت طبول ُالحرب توجه الشباب ُوهم محملين بكل ِ إرثهمُ العائلي ُوالمجتمعي إلى واقع ٍجديدٍ مختلفٍ في كل شيء ،حيث لم تتضح معالم الطريق أمام الجميع بعد ..
هنا بدأت المعاناة ُالشخصية َوالاجتماعية َ لهم ولعائلاتهم التي كانت تتلظى على جمر ِالانتظار ِولوعة ُالفراق ِ، بل وحتى الطعام أختلف َ مذاقه في تلك السنين الصعبة ، فهذه الأم لا تستطيع أن تطبخ َ أكلة معينة كون أبنها يحبُ هذا النوع َ من الطعام ِ وهو ألان في جبهات ِ القتال ِ وتلك قد حرمت نفسها من شرب ِ الماء َ البارد َ لأنها لا تعرف ُ هل يتمتع ولدها بشرب الماء أصلاً وذاك أب ٌ قد حرم نفسه من أشياء كثيرة لأنه ينتظر ُ ولده ليشاركه هذه الأمور وغيرها من قصص ٍ لا تزال ماثلة في الذاكرة ِ لحكايات ٍحقيقية ٍوليست من نسج الخيال .
في عام 1986 وكانت المعارك محتدمة في كل القواطع والجبهات العسكرية دخل علينا شهرُ رمضان َ المبارك في الشهر ِالخامس ِ تحديداً واستبشرَ الناس ُخيراً فهذا شهرٌ مبارك وممكن أن يتوقف فيه القتلُ والدمار وخصوصاً أن طرفي النزاع هما دولتان مسلمتان ويُفترض احتراماً لقدسية الشهر وما يقتضيه من توجه ٍ للعبادة والصوم أن يتركوا السلاح جانباً وأن يتوجه الطرفان للمساجد وأداء العبادات وليس التوجه نحو مزيد ٍ من المصائب والويلات للجميع .
في هذا الشهر الفضيل وتحديداً يوم 12 / 5 / 1986 وبعد أن أستشهد الكثير من أخوتي وأصدقائي الكرام رحمهم الله بواسع رحمته ولا أنسى بل أكاد أسمع اليوم بعد أكثر من ربع قرن على هذا الأمر صوت الشهيد جعفر الشجيري وهو يقعُ أرضاَ وقد أصيب َ في رأسه إصابة مميتة فيصدر ُ صوتاً كأنه الشخير عند النائم وحين أردت الاقتراب منه منعني توفيق أبن مدينة الديوانية الكريمة وكان أكبر مني سناً قائلاً لي دعه انه يموت ولن نستطيع إسعافه .
بعدها بدقائق معدودة أُصبتُ إصابة ٍقاتلة ٍوكنتُ في مكان ٍ مرتفع ٍ يصعب ُ الوصول َ إليه في تلك اللحظات ُالرهيبة والمخيفة حيث تناثرت الجثث والأشلاء وهدير ُالدبابات ِوقصفُ المدافع ِيصمُ الأذان والرعب ُمرتسم ٌ على الوجوه ِوالجباه رغم محاولة التماسك والتسلح بالعزيمةٍ والثبات ولكن نحن أيضاً أناس ٌ عاديون تمتزج فيهم المشاعر والأحاسيس المختلفة بين بطولة وخوف وبين شجاعة وإقدام أو تخاذل ٍ أو إحجام ٍ .
صرخت ُ على زملائي المنشغلين بالقتال ِوتأمين ِسلامتهم الشخصية وهم مثلي شباب وجدوا أنفسهم وسط َاللهيب ِ ولا يعرفون كيف الخلاص وأين المفر ، طلبت منهم إنقاذي وأنا أصارع النزيف الشديد والمستمر من جسدي وسياط ٌ من اللهب ِ والنار تستعرُ في جسدي من شدة الإصابة وقوتها وهنا بدأت قواي تخور وأحسست باني مفارق لهذه الحياة ، هنا رأيت وجه أمي الحبيبة ومعها أخوتي الصغار وكأني أودعهم الوداع الأخير ولا أدري كم أستغرق مني الوقت وأنا أشهد أن لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله حتى سألت الله بشفاعة حبيبه محمد عليه أفضل الصلاة والسلام أن يساعدني وينقذني وفعلاً أحسست بعودة النشاط بجسدي واستعدت الهدوء وفكرت بأني لو وقفت ُ على قدمي فإني سوف أتلقى الرصاص المنهمر مما يعرضني للموت حينها رميت السلاح والعتاد الذي لم أستخدمه وبدأت بالتدحرج على أرضٍ صلبة ٍ زادتها الشظايا المتطايرة خطورة وصعوبة فكنت أغمض ُ عيني وأحاول أن التف على نفسي لكي أتفادى الشظايا حتى رأيتُ قطعة خشب ٍلصندوق عتاد ٍ محترق فأسندتُ جسدي المتهالك عليها وزحفت ُ إلى مكان دبابة عاطلة هناك جاءني المسعفون وهما أحمد من العمارة وخليل من ديالى فقاما بحملي وحين وصلنا لشق ٍترابي كان يسمى (شق النار) وهو مكان ُ يختبئ فيه المقاتلون ليقوموا بالرمي ومشاغلة الجانب الأخر في هذه الشق واجهت المسعفان مشكلة وجود جثث ٍ كريمة ٍ لشهداءٍ سقطوا قبل قليل وهنا قلت إخواني اتركوني هنا قالا لا بل سنسحبك على هذه الجثث وفعلاً تم سحبي ومررت على جسد شهيد فإذا بالدم يخرج من صدره رحمه الله من شدة ضغط جسدي عليه ، حتى وصلنا إلى مركبة صغيرة تكدس فيها الجرحى انطلقت مسرعة إلى حيث مكان يبعد ُعن الخط الأمامي للمعركة هناك تم وضعي بعربةٍ إسعافٍ لتنطلق مسرعة نحو مستشفى العمارة العسكري وكنتُ طوال الطريق أتحدث مع أحد زملائي وأسمه طه من أهل الحرية ببغداد وأقول له أسمعني جيداً أريد منك أن تتصل بأهلي وتـُطمئن والدتي علي وتقول أني بخير ثم بعد يومين تتصل مرة أخرى للتأكد من وضعي هل تم أعادتي إلى بغداد أم بقيت في العمارة وبعدها بيوم أو يومين تخبرهم بحقيقة الأمر ،
في المستشفى الذي تملأ الدماء أرضيته بسبب الجرحى والكل يعمل بأقصى سرعة للاستجابة للحالات الحرجة تم وضعي على سرير متحرك وعلى الفور تم إدخالي إلى صالة العمليات حيث أتذكر طبيباً برتبة ِ مقدم وكان من أهالي مدينة راوه وبدأ يضحك معي ويمازحني لحين إعطائي المخدر لكي يتم إجراء العملية والتي تمت بنجاح ولله الحمد حيث أفقت بعد يوم وأذكر إني كنت متعباً ومنهكاً جداً ووجدت نفسي وسط أسلاك وأنابيب في أنفي ومنطقة البطن وأنا لا أقوى على الحراك جاءني لحظتها أحد العاملين بالمستشفى وسلم علي وقال بأن هناك نساء من اتحاد النساء قد قمنا بزيارة الجرحى وقد تركن لكم هذه هدية وهي بعض الحاجيات الخاصة بالاستخدام الشخصي فهل تحتاجها قلت لا أريدها خذها لكن أرجوك أسدي لي خدمة أنا لدي أقرباء في مدينة العمارة وهن بمثابة خالاتي ومنهن سيدة أسمها أم سعدون هي قابلة للنساء والكل في العمارة يعرفها فأرجوك أخبرها بوضعي لكي تأتي وأولادها لرؤيتي فقال سأفعل وأُخبرهم ولكنه لم يفعلها .
بعدها قالوا سوف يتم نقلكم إلى بغداد وتهيأت المركبة التي كانت معدة بشكل وكأنها ردهة متنقلة حيث تم وضعي بنقالة للأعلى وتحت مني أيضاً جريح أخرى وكنت أشعر بالبرد القادم من فتحات التهوية وكذلك بان شفتاي كانت تصاب بالتشقق وأشعر بالعطش ولكن لا مناص من الأمر فانا ممنوع من شرب الماء يومها ، حتى إن وصلنا مستشفى الرشيد العسكري كانت جميع ممراته ممتلئة بالجرحى فقالوا لسائق المركبة خذهم إلى مستشفى الكرامة في جانب الكرخ فقلت الحمد لله هناك الأهل والأحبة وفعلاً باشر العاملون بإنزالنا من المركبة وأذكر عامل مصري ومن حيث لا يعلم قام بسحب أنبوب موضوع في أنفي لتفريغ الأمعاء بعد أن داسه بقدمه لكون الأنبوب طويل ووقع على الأرض أثناء حملي للردهة وشعرت بالألم وجاء الأطباء لفحصنا فقالوا يجب أن نعيد هذا الأنبوب إلى الأنف مرة أخرى وهكذا بدأتَ ملامح ُ فصل ٍ جديدٍ من حياتي أنه الإقامة والمكوث بالمستشفيات والتعرف على أجواءها ومحيطها وكادرها وهناك حدثت العديد من المفاجآت على جميع الصعد .
نعم لقد تغيرت معالم الطريق بالنسبة لي أسوة بكل أبناء جيلنا من الأبرياء الذين ذاقوا الأمرين فهم إما شهيد أو معاقٍ وجريح أو فاقد ُ لطعمِ الحياة وهو يحيها وسط اللهب المستعر أو مشرداً خلف الحدود أو محروماً من أبسط مقومات الحياة الكريمة وكل ذلك يجري والناس لا تعرف من هول الصدمات أنها تُسير بخطى ثابتة للإمام لا تحيد عما رُسم لها من طريق ٍتاهت معالمه في عالم الضياع
وللحديث بقية أن كان في العمر بقية بإذن الله تعالى.
الگاردينيا: الأخ/ أبو الحارث ..عمرك طويل انشاءالله ...
1177 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع