زيد الحلي
تقدمت مرة الي استاذي في الدارسة الابتدائية ، المعلم الفاضل عبدالجبار الآلوسي قائلا :
ألا تعرفني أستاذ ؟؟..و كنت في الاربعين من عمري، فأجابني رحمه الله ، وقد بان عليه الكبر وعاديات الزمن : أهلا وسهلا بك، واعذرني لعدم تذكّري لك، فالذين ادرّسهم، سنويا اكثر من 150 تلميذا ، وقد مارست التعليم اكثر من خمسين عاما، فكيف اتذكر كلّ من درّسته ؟...ثم ربت علي كتفي ضاحكا: انت تعرفني لأنني معلمك، وانا لا أعرفك لانك تلميذ من بين مائه وخمسين تلميذا.. صورتي امامك، واحدة، وصورتك امامي مختلطة بعشرات الصور...وتبادلنا الحوار والذكريات وودعّته بعد ان طبعت على جبينه قبلة امتنان.. مرت في خاطري، صورة لقائي بأستاذي المرحوم ابا خولة الآلوسي ، المعلم الكبير ، والمربي الاكبر ، مثلما مرت احاديثه التربوية التي كان يزاوج فيها بين الدرس والتوجيه المجتمعي .
كان الرجل ، أسكنه الله شآبيب رحمته ، يقتطع في كل حصة دراسية دقائق ، ليحدثنا نحن طلبته عن اهمية السلوك السوي في الحياة ، مركزا على الوفاء ، الذي كان يسميه عنصر الانسانية ، فبدونه تصبح الحياة خالية من الود والتراحم والشكر .
ومن اقواله التي لازلت عالقة في وجداني ، رغم مرور عقود من الزمن (ان الوفاء وذكر المعروف ، خصلة يمنحها الله سبحانه وتعالى لذوي القلوب الصافية ، الممتلئة قوة وشموخا) ... ما اصدقك معلمي .
ان الانسان الوفي ، انسان غير هياب للأقاويل مرفوع الرأس ، قوي الشكيمة ، لا يخاف من ماضيه ، مثلما يؤمن بالمستقبل دون تردد ، وذكر المعروف ، ليس عيبا او مثلبة ، بل شجاعة فليس هناك انسان تبوأ مركزا او حصل على شهرة دون ان تكون له بدايات ، ولا بد لهذه البدايات من موجه ومحتضن ، فحرام علينا ان نبخس حق من اعطونا من وقتهم ودمائهم واعصابهم حتى استوى عودنا..
ان الوفاء يبقى سيد الأمنيات ، ففيه تتصالح النفوس وتتجه الى عمق سريرة التواد ، ويا مسعد من تكون قلوبهم وفية ، خالية من البغضاء والنميمة ، وكل موقع زائل ، والدنيا دوارة ، لكن خصلة الوفاء باقية ، متجذرة في النفوس ، فالوفاء والطيبة ، وفعل الخيروتواصل الأرحام ، والدعوة الى نبذ الترسبات الحياتية وتكلساتها ، مسارات تحيي النفوس وترطبها ، وترش عليها أطاييب العطور ..وتنمي الضمائر مع قناعتنا بان الوفاء يعني الضمير الحي ، الذي يحاكي الصدق مع النفس .
في خارطتنا المجتمعية ، اجد لوحات ضبابية لأشخاص ، صدقوا انفسهم من خلال مواقع ، حصلوا عليها في زمن الفوضى ، فنسوا أمسهم ، وتعاملوا مع يومهم فقط ، متنكرين للايادي التي مُدت اليهم في فترة بداياتهم ، ولما اشتد عودهم ، تناسوا تلك الايادي ، بل ان بعضهم ، اشبهه بالارنب الذي تحول الى ذئب محولاً قطع تلك الايادي حتى لا تؤشر اصابعها الى ماض لايسر !
اشعر بالبؤس على هؤلاء الذين اشاهدهم على التلفاز او اقرأ تصريحاتهم وانظر الى صورهم ، وسمات وجوههم ، فأجد ان كلامهم لا يشبه سلوكهم .. هم والوفاء في حالة تقاطع .. مثل تقاطع الملح والسكر !
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
415 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع