د. سيّار الجميل
" رائعة هي كلمات الشاعر محمود حسن اسماعيل ، وخلود لحن وضعه وغناه الموسيقار محمد عبد الوهاب قبل اكثر من ستين عاما ".
لقد كان دعاء الشرق الجميل قد سمعناه طويلا .. نحن جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية والذي عاش خصب حياته في النصف الثاني من القرن العشرين .. لقد كانت قصيدة رائعة محفّزة ، ولكنها توهم الناس بجعل الاخيلة حقائق ثابتة ، وكان الناس قد آمن معظمهم بمبادئ كانت اساسية في تفكيرهم .. ولما توالت النكبات والهزائم .. هربوا منها نحو اخيلة واوهام من نوع آخر ، ولم يفكروا ابدا بواقعهم ، وما الذي يمكنهم ان يعملوا من اجله .. لقد استلبت تلك المعاني من قبل الاحزاب القومية على مدى ثلاثين سنة ، وعند العام 1979 ، بدأت تلك المعاني تسحقها احزاب الاسلام السياسي واتجاهاته القاتلة .
ان دعاء الشرق ستحلق بنا في اجواء مشحونة بالكرامة والتمجيد والمفاخر ، وان كلماتها والحانها معا تجعل الانسان اليوم يتأسّى كثيرا لما كان عليه الحال قبل ستين سنة .. دعونا نتوقف قليلا عند صاحبها الشاعر الرائع وموسيقارها الكبير ونسمعه بصوته .
وقفة عند الشاعر
ولد الشاعر المصري القدير محمود حسن إسماعيل في بلدة النخيلة بمحافظة أسيوط 2 يوليو / تموز 1910 ، وتوفي في الكويت 25 أبريل/ نيسان 1977 ، ونقل جثمانه ليدفن في مصر. ، وكان قد تخرج في كلية دار العلوم ، وقد نبغ في الشعر نبوغا مبكرًا واستقطب ادبه الشباب ، وقد أصدر ديوانه الأول وهو طالب سنة 1935 بعنوان "أغاني الكوخ" وبعد ثلاثين سنة من الابداع ، نال جائزة الدولة في الشعر سنة 1965 على عهد الرئيس عبد الناصر . غنى له العديد من الفنانين ، وفي مقدمتهم الموسيقار محمد عبد الوهاب قصيدة "النهر الخالد". وتوفي في الكويت ونقل جثمانه ليدفن في مصر.
ومن قصائده المغناة " النهر الخالد" و"دعاء الشرق" اللتان غناهما الموسيقار محمد عبد الوهاب، وتغنّى ببغداد في قصيدة "بغداد يا قلعة الأسود" التي غنتها السيدة أم كلثوم، وقصيدة "نداء الماضي" التي غناها الفنان عبد الحليم حافظ، وأنشودة "يد الله" للمطربة نجاح سلام و"الصباح الجديد" التي غنتها الفنانة فيروز.
ان اعمال محمود حسن إسماعيل تتمثل في القصائد والاشعار في دواوين ، هي : 1- أغاني الكوخ 1935 ، 2- هكذا أغني 1937 ، 3- الملك 1946، 4- أين المفر 1947، 5- نار وأصفاد 1959 ، 6- قاب قوسين 1964 ، 7 - لا بد 1966 ، 8- التائهون 1967 ، 9- صلاة ورفض 1970 ، 10- هدير البرزخ 1972 ، 11- صوت من الله 1980 ، 12- نهر الحقيقة 1972 ، 13- موسيقى من السر 1978 ، 14- رياح المغيب، نشرته دار سعاد الصباح لأول مرة عام 1993.
عمل محررا ومساعدا للدكتور طه حسين في المجمع اللغوي المصري ، كما عمل مستشار ا ثقافيا في الإذاعة المصرية ، وتقلد منصب مدير عام البرامج الثقافية والدينية ورئيس لجنة النصوص في الإذاعة المصرية. وأنشأ محطة القرآن الكريم وجمع تسجيلات الشيخ محمد رفعت وحفظها. واخيرا عمل مستشارا في لجنة المناهج بوزارة التربية بالكويت التي توفي فيها عام 1977 .
من يقرأ اشعاره يجده من التقليديين المجددين المتأثرين بجماعة شعر ابوللو الشهيرة ، وهو رومانسي النزعة مع التزام ديني .. خياله خصب وعاطفته مشبوبة ويرسم الاوهام حقائق ، او انه يعبّر عن مرحلة تفكير غير واقعية في مرحلة تاريخية اعتقد الناس فيها ان الاحلام تتحقق او هي متحققة في اذهانهم ..
نص " دعاء الشرق "
لقد اهتم الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب بهذا " النص " ، وخرج مبدعا في تلحينه لحنا رائعا وقام بأدائه نفسه . انه " نص " يلائم تلك المرحلة التاريخية الصعبة التي خرج منها العرب عند منتصف القرن العشرين ، وقد تأسست اسرائيل في قلب فلسطين اثر انتهاء الحرب العالمية الثانية .. ونضوج الفكر ة القومية التي كان العرب يهيمون بالأهداف التي رسموها لهم ، وبروز جيل جديد طموح يسعى الى التحرر والتقدم بوسائل مختلفة ..
لقد قسّم عبد الوهاب اللحن الذي اعده لغناء هذه القصيدة الى ثلاثة كوبليهات .. استطيع ان اصف الكوبليه الاول بأنه تمجيدي يحكي قصة العرب في الشرق وانتقالهم من الظلام الى المجد ، ولكن يحفز ويغنيها عبد الوهاب بحركة هادئة متسلسلة مكررا اياها :
يّا سَمَاءَ الشَّرقِ طُوفِي بِالضِّيَاءِ وَانشُرِي شَمسَكِ فِي كُلِّ سَمَاءِ
ذَكِّـرِيهِ وَاذكُـرِي أيِّامَهُ بِهُدَى الحَــقِّ وَنُـــــــــورِ الأنبِيَــــاءِ
كَانَــتِ الدُّنيــــَا ظَلامًا حَـــولَهُ وَهوَ يَهدِي بِخُطَاهُ الحَائِرِينَا
أَرضُــهُ لَم تَعــرِفِ القَيـــدَ وَلا خَفَضَت إلا لِبَارِيهَا الجَبِينَــا
كَيفَ يَمشِي فِي ثَرَاهَا غَاصِبٌ يَملأُ الأُفــقَ جِرَاحًا وَأنِينَــ ا
كيف من جناتها يجنى المنى ونرى في ظلها كالغرباء
ثم الكوبليه الثاني يبدأ التساؤل عن الرايات وهي تزحف عبر التاريخ ، وكأنها قادمة من اعماق العصور الوسطى يحملها المنتصرون ، وكانت خفاقة في الشهب .. كلمات مشبوبة تحكي الى اين وصل العز والبأس والكلّ يمشي وراء ذلك .. وقد اصرّ عبد الوهاب على ان يجعل هذا الكوبليه ، وكأنه مارش من المارشات العسكرية التي يحتاجها الشباب في اندفاعهم نحو بناء الحياة ، وهو تصويري لزحف غاضب كبير نحو الغاصبين الذين ملأوا الافق جراحا وانينا ، ويغني عبد الوهاب :
أيها السائل عن راياتنا لم تزل خفاقة في الشهب
تشعل الماضي و تذكي ناره عزة الشرق و بأس العرب
سيرانا الدهر نمضي خلفها وحدة مشبوبة باللهب
أمماً شتى و لكن العلى جمعتنا أمة يوم الندا
ثم يأتي الكوبليه الثالث ليحكي لنا قصة الحاضر ، ويتخيل وحدة الشعب وانبعاثه من جديد في طريق واحد .. ويفترض الهدى والحق والاباء وميثاق العهد .. ولكن الشاعر يتخيل اخيرا انه كان يحلم في نومه ، وقد شق الفجر واشرقت الشمس وينتهي بأجمل صورة بأن ذلك الفجر الذي كان مقيدا بدمائنا وان جذوتها قلوب الشهداء الذين ضحّوا من اجل مبادئ وقيم عليا .. اخذت بالاضمحلال هذا اليوم في الحقيقة ويا للأسف .. فهل كان الحلم مزيفا ؟ ام كان الناس يعيشون اوهاما ويصدقونها ؟ فكل ما حدث ويحدث لا يترجم ابدا تلك " الصورة " المثالية التي تربينا عليها قبل خمسين سنة !
نحنُ شعبٌ عربيٌ واحد ضمّـــه في حَومة البَعث طريقٌ
الهُدَى وَالحَقُّ مِن أعلامِهِ وَإبَاءُ الرُّوحِ وَالعَهـــدُ الوَثِيــقُ
أَذَّنَ الفَجــــرُ عَلَى أيَّامِنَــا وَسَرَى فَوقَ رَوَابِيهَا الشُّــرُوقُ
كُلُّ قَيــــدٍ حَولَهُ مِن دَمِنَــا جَذوَةُ تَدعُـــو قُلُوبَ الشُّــــهَدَاءِ
واخيرا اقول بأن كلمة " البعث " التي استخدمها الشاعر ، لم يقصد بها حزب البعث ، بل قصد بها الانبعاث من الموت الى الحياة . ان كلا من الكلام واللحن يعبران عن روح عصر نهضوي جديد ، ومن دون ان يدرك الشاعر ان الشعب لم يكن واحدا ، ولكنه " دعاء " خذل من قبل اهله قبل ان يكتسحه الاخرون لنصبح غرباء في بيوتنا وفي اطراف هذا العالم بعد مرور ستين سنة على حلم ذلك الزمن الجميل
لسماع دعاء الشرق بصوت عبد الوهاب ، اضغط على الرابط
https://www.youtube.com/watch?v=DmqqUE9HVNI
452 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع