لماذا هتف العراقيون بوجه المالكي: لا تخادع؟

                                   

                                           د. محمد عياش الكبيسي

ربما لم يشهد العراق حشودا جماهيرية كتلك التي خرجت في الجمعة الماضية، وهي الجمعة التي كانت تحت عنوان «لا تخادع»، وهي شهادة تقويمية لخصّت نظرة العراقيين لرئيس حكومتهم نوري المالكي.

قبل سنتين تقريبا كان شعار التظاهرة الأولى في وسط بغداد «كذّاب نوري المالكي»! وهي شهادة سابقة لا تختلف عن لاحقتها، وكلا الشهادتين تؤكدان أننا أمام نموذج جديد في الحكم، فكل الذين ترَبَّعوا على عرش العراق كان ممكنا أن يوصفوا بالظلم أو الطغيان أو الجبروت، هذه هي المفردات المحفوظة في الذاكرة العراقية، وهي رغم بشاعتها توحي بالقوة والبطولة بخلاف المفردات الجديدة «كذاب» و «مخادع»، والتي طبعتها الجماهير على جبين نوري المالكي المسؤول الأول في حزب الدعوة الإسلامية!
نوري المالكي قتلَ وشرّدَ وانتهك كل الحرُمات والمُحرمات، فسجونه مليئة بالأبرياء والبريئات، وأكثر من سبعة ملايين هم عدد المشرّدين والهائمين على وجوههم في الداخل والخارج، حتى أصبح العراق سجنا كبيراً لا مثيل له، ومع كل هذا لم تشأ الجماهير المُنتفضة أن تطلق على المالكي لقب «الطاغية»، لعلمها أن نفسيّة المالكي قد تجد راحتها في مثل هذا اللقب، حيث سيتوهم نفسه في مصاف الطغاة الكبار! ثم إن سياسات المالكي وسلوكياته المتراكمة لم توح للجماهير بشيء من القوة والصلابة، بقدر ما كشفت لهم عن طبيعة ملتوية ومخادعة.
فشل المالكي في الحصول على الأصوات التي تؤهله لمنصب رئيس الوزراء، حيث تقدم عليه إياد علاوي بفارق مقعدين، رغم الاتهامات التي وجهت للمالكي باستغلاله للسلطة في التزوير والترويج لقائمته، لكن المالكي راح يستعين بالقضاء العراقي في عملية تسييس واضحة شبيهة بما حصل فيما بعد للهاشمي والعيساوي، فأصدر القضاء حكمه بأن القائمة الفائزة بالانتخابات لا يحق لها تشكيل الحكومة!!
ربما يظن المراقبون أن القضاء المسيّس هو من حسم القضية لصالح المالكي، إلا أن الحقيقة أكبر بكثير من هذه الحيثية، حيث تشير كل المعلومات إلى أن المالكي عقد صفقة خطيرة مع الطرفين الأجنبيين المتنفذين في العراق (أميركا وإيران)، وهذه الصفقة هي التي أجبرت إياد علاوي على أن يرضخ لحكم الواقع ويتنازل عن استحقاقه الانتخابي، وسيأتي اليوم الذي يقف فيه المالكي في قفص الاتهام ليكشف للعراقيين حقيقة هذه الصفقة وحجم التنازلات التي قدمها للأميركيين والإيرانيين.
لم يكن في الدستور العراقي شيء اسمه (المجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية)، لكن الأميركيين اخترعوا هذا الاسم لإقناع القائمة العراقية الفائزة بأن هذا المجلس يمتلك من الصلاحيات ما يفوق صلاحيات الحكومة، وأن المالكي سيكون خاضعا لهذه السياسات! لكن المجلس هذا لم يرَ النور لحدّ الآن، وهذه خديعة أخرى تضاف إلى خديعة المحكمة الدستورية وقرارها التاريخي، وبهاتين الخديعتين تمكن المالكي من الوصول إلى دفة الحكم في أخطر مرحلة يمر بها العراق.
أما مجلس الرئاسة والذي كانَ يُسبّب للمالكي صداعاً مستمراً، فقد تمكن المالكي وبوسائل مختلفة أن يقنع منافسه التقليدي في الائتلاف الشيعي عادل عبدالمهدي بالاستقالة من منصبه كنائب للرئيس جلال الطالباني، ثم قام بفتح الملفات الكيدية ضد خصمه العنيد طارق الهاشمي وهو النائب الآخر للرئيس، فلم يبق في مجلس الرئاسة إلا الطالباني، وهو رجل مريض وعاجز، والنائب الثالث خضير الخزاعي وهو من المقربين جدا للمالكي وقيادي بارز في حزب الدعوة، وبهذا يكون المالكي قد اختطف الرئاسة بالكامل لصالحه.
ابتكر المالكي سياسة الملفات لابتزاز خصومه ومنافسيه أو إقصائهم، وهذه الملفات مصنفة عند المالكي بمستويين: مستوى الإرهاب لتصفية خصومه الكبار، وهي في الغالب اعترافات تنتزع بالقوة وتحت وطأة التعذيب، أو باستغلال حالة الاقتتال التي حصلت لأكثر من سبب كما بين المقاومة والاحتلال، وما بين القاعدة والصحوات، وما بين الأحياء السنّية والميليشيات الطائفية.. إلخ، وهذه كلها وفرت مصادر ثرية لصياغة الملفات الكيدية وبالطريقة التي تناسب سياسات المالكي والتي يستخدمها بطريقة مزدوجة ومتناقضة.
أما المستوى الثاني فهو مستوى الفساد، فالمالكي يحتفظ بمئات الملفات لكثير من الوزراء والبرلمانيين ومجالس المحافظات وكبار موظفي الدولة، حيث تنتشر الرشاوى والعقود الوهمية، والمالكي لا يتدخل للحد من هذه الظاهرة الوبائية بل هو من يفتح الباب على مصراعيه ليورّط أكبر عدد ممكن من السياسيين والمسؤولين، ثم يستخرج هذه الملفات في الوقت المناسب للابتزاز والتصفية!
لقد ساعد المالكي على المضي في سياسة الملفات هذه غياب القضاء العادل، والذي يفترض به أن يجعل الملفات نفسها التي يحتفظ بها المالكي وثيقة دامغة لإدانة المالكي نفسه، فأي حاكم هذا الذي يحتفظ بكل هذه المعلومات الخطيرة عن مئات الإرهابيين والفاسدين من كبار المسؤولين في حكومته، ثم يتكتم عليها ولا يخرجها إلا في وقت المنافسات والمناكفات السياسية! كما ساعد على هذا أيضا ضعف الوعي الشعبي، حيث راح يتداول هذه المعلومات وكل وفق أغراضه ودوافعه الشخصية لتسقيط هذا الطرف أو ذاك، وكان الأجدر والأولى محاسبة المالكي، فهو المسؤول الأول عن كل هذه الملفات، وليس ملاحقة الضحايا الذين يقعون عن علم وعن غير علم في هذه الفخاخ.
على المستوى الشعبي، اتسمت أول ردة فعل من قبل المالكي على التظاهرة التي انطلقت قبل سنتين بالخداع، حيث طلب من المتظاهرين أن يمهلوه مائة يوم لكي ينفذ لهم كل مطالبهم، وقد كسب المالكي بهذه المهلة وقتا إضافيا ليس من أجل تنفيذ المطالب بل من أجل إنجاز عدد آخر من الملفات.
لم تعد تنطلي سياسات المالكي هذه على أحد، فتفجرت الانتفاضة الكبرى الموجهة ضد المالكي تحديدا، حيث احتضن المتظاهرون عددا كبيرا من المشاركين في العملية السياسية كرافع العيساوي وسلمان الجميلي وأثيل النجيفي وعلي الحاتم وأحمد أبوريشة ومجالس المحافظات.. إلخ، وهذه رسالة واضحة أن الشعب العراقي قد شخّص المشكلة بدقة، وميّز بين الجاني والضحية.
تعامل المالكي مع هذه الانتفاضة العامة بنفس الأسلوب، فراح يطلق أفراداً من المعتقلين والمعتقلات، وفي الوقت نفسه يقوم باعتقال المئات، كما حصل مؤخرا في ديالى والموصل والأعظمية والطارمية، ثم راح يتهم المتظاهرين بأنهم يغلقون الطريق الدولي ويحاصرون المسافرين والتجار، لكنه بعد أيام راح هو بنفسه يغلق المنافذ الحدودية مع الأردن وسوريا!
أخيرا أخذ المالكي يبعث بممثليه سعدون الدليمي إلى الأنبار والشهرستاني إلى سامراء، ليقدما للجماهير وعودا سخية ومديحا بلا حدود، فالحراك الجماهيري انقلب من «فقاعة نتنة» إلى «مظاهرات دستورية» و «مطالب شرعية»، لكن رد الجماهير كان واضحا وبسيطا: نحن لا نثق بوعود المالكي، هكذا أيضا ردد خطباء الجمعة، ورددت كل الجماهير المنتفضة: لا تخادع.
إن سياسة الخداع لا يمكن أن تستمر طويلا، فحبل الكذب قصير، وإن الذي يصر على هذه السياسة يحتاج إلى ذاكرة قوية وذكاء استثنائي، وإلا فستنقلب هذه السياسة وبالاً وبلاءً على صاحبها.
أما الجماهير المنتفضة فقد لخّصوا مطالبهم كلها بهذه الرسالة «لا تخادع»، بمعنى أنهم لا يريدون حاكما يكذب عليهم ويخادعهم!!ء

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

888 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع