نحن نعانق السماء – الجزء الثاني
استحضارات وتنفيذ الضـربة الجوية الشاملة الثانية ٢٣ أيلول / سبتمبر 1980
د علوان العبوسي
٧ - ٣ - ٢٠١٧
الجزء /٦
الساعة 2100 يوم 22أيلول / سبتمبر 1980، رن الهاتف في غرفة حركات القاعدة كان الصوت لآمر القاعدة يطلبني للحضور في مقره، إبتسامة عريضة على وجهه وهو يستقبلني ويجلسني بجانبه ويقول اتصل معي السـيد قائد القوة الجوية وشكرني على دقة التنفيذ لهذا اليوم وأكد لي أن دقة إصابات طائراتكم منعت العدو من رد الضـربة والتعرض لقواعدنا وقطعاتنا، وقد طلب مني إعادة الضـربة غداً عند الضـياء الأول، ضحكت مستبشـراً وقلت له قرار صحيح وبإذن الله سـيتم التنفيذ وسأقود العملية أيضاً ولكن بأسلوب آخر لخط الرحلة تحسباً لاحتمال تعرض تشكيلاتنا من قبل العدو، أجابني آمر القاعدة دع غيرك يقود العملية هذه المرة لأنني أحتاجك معي في القاعدة، أجبته كلا لا يزال الوقت مبكراً والخبرة والتجارب التي نملكها نحن القدامى لا يمتلكها معظم طيارينا، وقد أعطتني الضـربة الجوية الأولى هذا اليوم العديد من الملاحظات والمؤشـرات التي تؤكد لي على ضـرورة متابعة موضوع الضـربات الجوية المهمة من قبلنا، سأقود الضـربة غداً أيضاً حتى أسمح لأكثر عدد من الطيارين بالمشاركة معي وبالتالي تكون لدي القناعة التامة بتنفيذهم لأي واجب مهما كانت صعوبته من دون تحسب للمشاكل التي قد تحدث في الجو، خاصة أن الأهداف مهمة واحتمالات الخطأ واردة وأجهزتنا الملاحية قديمة وغير متطورة لا تساعدنا في الوصول إلى أهدافنا وإنما تعتمد على الطيار في دقة قراءته الخريطة والتقيد بالتوقيتات وعليه نحتاج إلى طيارين ذو خبرة عالية في الطيران والتنسـيق مع الأحداث والمستجدات الكثيرة التي قد تحدث سواء المتوقعة وغير المتوقعة، خاصة انك تعلم احتمال تدخل العدو يكون أكثر في الأيام القادمة وأنا أريد أن يكتسب قادة التشكيلات الثقة التامة في إنجاز مهامه، أجابني على بركة الله إذاً وقد أقتنع بكلامي، اتصلت مع آمر الجناح الفني المقدم المهندس ج ع ج ، وضباط أسلحة الأسراب وقادة التشكيلات واتفقنا على أن نلتقي بعد عشـر دقائق في غرفة الحركات.
الساعة 2130 من اليوم نفسه غادرت مقر القاعدة مسـرعاً لإنجاز ما مطلوب، لاسـيما وأن الوقت ضـيق ويجب أن تقلع طائراتنا كلها غداً في الساعة 0530 صباحاً وعلينا أن نهيئ خطة الطيران وخرائط الرحلة وتسليح الطائرات وفحصها قبل الطيران تحسباً لأي عطل محتمل على الأرض ثم إيجاز الطيارين مع أخذ قسط من الراحة قبل الطيران.
الساعة 2330 من اليوم نفسه استكملت تقريباً كافة استحضارات التنفيذ، طلبت من قادة التشكيلات أن يذهبوا للراحة واتفقنا على التواجد غداً في الساعة 0430 في غرفة إيجاز السـرب الأول، وأشعرتهم بأن التنفيذ سـيتم مبكراً لاحتمال تعرض قاعدتنا لضـربة جوية معادية انتقامية ومحاولة منعنا من الطيران إذا تأخرنا في التنفيذ «فرق التوقيت مع إيران حوالي 30 دقيقة لصالحهم حيث تشـرق الشمس لديهم مبكراً وبامكأنهم الطيران قبلنا والوصول إلى قواعدنا ونحن لا نزال على الأرض إذاً علينا أن نأخذ ذلك بعين الاعتبار، ونقلع بطائرتنا قبل شـروق الشمس» خاصة أن العدو قد قام حتماً بإصلاح مدارج قواعده الجوية وجهزها للطيران مباشـرة بعد الضـربة الجوية الأولى وهذا ما أخبرنا به أحد قادة التشكيلات للضـربات الجوية الثانية على قاعدة شاروخي الجوية حيث لاحظ تواجد المعدات على المدرج للمباشـرة بتصليح الحفر التي أحدثتها قنابل طائرات الضـربة الجوية الشاملة الأولى.
الساعة 2400 من اليوم نفسه ولم يبق سوى خمسة ساعات على الضـياء الأول، غادرت غرفة الحركات لأخذ قسط من الراحة بعد يوم طويل متعب، قابلني الأخ آمر القاعدة على سلم الغرفة قائلاً ممكن أطلع على أسلوب التخطيط للضـربة الجوية الشاملة الثانية غداً؟ أجبت نعم ممكن وأوضحت له التغييرات التي أحدثناها ولاسـيما وأن خط الرحلة السابق كان يمر فوق مدينة سنندج مباشـرة وهذا خطأ تعبوي غير مقبول ينتج عنه كشف طائراتنا وبالتالي تعرضها وهي محملة بكامل حمولتها للمتصديات المعادية مما سـيضعنا في موقف محرج جداً، شكرني ووافقني على الخطة الجديدة وطلب مني أن أتجول معه داخل القاعدة قليلاً لوجود بعض الاستفسارات الإدارية والتعبوية لديه وبدأنا نتجول ونضع الاحتمالات في حالة تعرض العدو لنا بغاراته الجوية عند مطلع الفجر، وتأكدنا من خلال هذه الجولة البسـيطة بما مطلوب اتخاذه، ورجاني أن أقلل طيراني حتى أتمكن من مساعدته في الأيام القادمة، قلت له إن شاء الله تستقر أمور الطيران وهي الأهم في هذه المرحلة والحمد لله الشباب اندفاعهم عال والبركة فيهم ومشاكلهم الفنية والأخطاء سوف تقل يوماً بعد آخر.
الساعة 0100 يوم 23 أيلول 1980 رجوت من آمر القاعدة أن يسمح لي بأخذ قسط من الراحة حتى أتمكن من الطيران في الواجب صباحاً وأوصلني بسـيارته العسكرية إلى غرفتي في دار الضباط بالقاعدة وودعني على أمل اللقاء بعد ساعات قليلة في غرفة الإيجاز.
الساعة 0345 استيقظت على طرق خفيف على باب غرفتي في سكن الضباط وصوت خفيف ينادي بإسمي «ع ...ع » فزعت مذعوراً تحسباً قد يكون الوقت قد فاتني وفتحت الباب فإذا امر القاعدة خ خ قائلاً صباح الخير أنا لم استطع النوم تحسباً لاحتمال تأخركم وأنتم متعبون البارحة، ضحكت معه وشكرته وأكدت له أني كنت قد أخبرت عريف الخفر والسائق إضافة إلى توقيت منبه الساعة جلس معي في الغرفة وهذا ما اعتدنا عليه من زمان طويل منذ أن كنا طلاباً في كلية الطيران ، وفي الدورات التي اشتركنا فيها في الاتحاد السوفيتي، وعندما كنا آمري أسراب وغيرها وغيرها حيث كانت صحبتنا طويلة وأخوية ومبنية على الإيثار والثقة المتبادلة وكنت عوناً له في كل شئ، تركته يدخن سـيكارته بهدوء وأخذت حمام بارد ثم صليت الفجر ودعوت الله سبحانه وتعإلى ان يوفقنا في مسعانا هذا اليوم، ودعوته بالتيسـير وأن يحفظنا من كل سوء وأن يديم نعمه أنه السميع المجيب، ثم ارتديت ملابس مدنية أسفل ملابس الطيران لاحتمال القذف من الطائرة في الحالات الاضطرارية، غادرنا غرفة منامي في دار الضباط باتجاه غرفة الإيجاز وهناك وجدت طياري الواجب كافة مع طياري المتصديات المكلفين بواجب قصف مطار سنندج وواجب الدوريات الاعتيادية.
وكان لنا هذا الحوار الموجز مع الطيارين.
- السلام عليكم يا أبطال.
- وعليكم السلام سـيدي.
- الكل عرف واجبه؟ «وجهت كلامي إلى آمري الأسراب وقادة التشكيلات».
- نعم سـيدي...
- إذاً أذكركم ببعض النقاط الجوهرية عليكم اتباعها بدقة، ولاسـيما، وأن معظمكم قد نفذ الواجب نفسه يوم أمس.
- سـيكون معي في التشكيل كلاً من الرائد م س ، والنقيب ن ن ، والملازم الأول محمد مظلوم، والملازم الأول س د ، والملازم الأول عادل دعدوش، والهدف هو قاعدة شاروخي، والتشكيل الأخر بقيادة الرائد محمود رشـيد، والهدف قاعدة همدان، والتشكيل الثالث بقيادة الرائد م ح ط ، على قاعدة تبريز الجوية، أما واجب قاعدة سنندج يؤجل ليوم غد إن شاء الله.
- أؤكد على الجميع بالصمت اللاسلكي حتى الوصول إلى الهدف ويخرق في الحالات الضـرورية جداً، اليوم يختلف عن البارحة والعدو حتماً وضع باعتباره ضـربتنا الجوية هذه ومن المحتمل ستكون استحضاراته أفضل من يوم أمس وعليه أؤكد على أسلوب الطيران الواطئ جداً أسفل الكشف الراداري وعلى الجميع متابعة قائد التشكيل وعدم الارتفاع عن مستوى طائرته سواء في المنطقة الجبلية أو الصحراوية وبقوة الله سـيكون تنفيذنا هذا اليوم أفضل من البارحة.
- سوف لا نتورط بأي إشتباك جوي مع العدو لعدم تيسـر الوقود الكافي والأسلحة الملائمة لذلك ولكن عليكم بالطيران الواطئ جداً والسـرعة العالية والتخفي الجيد.
- يجب ان تضعوا باعتباركم النزول في قاعدة أخرى عند العودة، لاحتمال تعرض قاعدتنا لضـربة جوية معادية «أما مطار الرياض الثانوي أو كلية القوة الجوية».
- أؤكد على عدم إجراء أية مناورة فوق الهدف بل الاستمرار بنفس ارتفاع القصف وبسـرعة 1000إلى الأمام ثم الدوران إلى اليسار باتجاه العودة.
- السـرب 47 سـيهتم بالدوريات هذا اليوم تحسباً لأي خرق معاد حسب توجيه قيادة القوة الجوية.
- اضبطوا ساعاتكم الشخصـية وتأكدوا من ساعة الطائرة أيضاً، الوقت الآن 0500 ولدينا 30 دقيقة للإقلاع ووقت وصول الهدف 0615.
- تشكيل الرائد م ح ط يتأخر لحين نزول طائراتنا إن شاء الله «هذا التشكيل من طائرات السـرب الخامس الباقية سـيتم طيرأنه من قاعدة الحرية ضد قاعدة تبريز ويكون نزوله في قاعدة فرناس إن شاء الله تعإلى».
-هل هناك سؤال؟
- كلا سـيدي.
- إذاً دعونا نتناول شيء من الطعام قبل الطيران «وكان الأخ آمر القاعدة قد أوعز إلى مطعم الضباط بإعداد وجبة إفطار سـريعة في غرفة إستراحة الطيارين»، تناولنا الطعام وبعض القهوة والحليب وتوكلنا على الله.
من الأمور الطريفة أيضاً قد اتفقت مع الطيارين ارتداء ملابس مدنية أسفل بدلة الطيران تحسباً للإجراءات بعد القذف من الطائرة لا سمح الله لتسهيل عملية الأختفاء من العدو حتى الوصول إلى الحدود وعندما تأكدت من ذلك وجدت أن نسبة 50% منهم لم يرتد الملابس المدنية وقال أحدهم «سـيدي إن شاء الله ما نقذف» ضحكنا جميعاً وتمنيت للجميع السلامة وتوجهنا إلى خط الطيران في الوقت المحدد والظلام مازال يسدل أجفأنه لكن بعد التشغيل والدرج والإقلاع سـيزول هذا الظلام تدريجياً.
أقلعنا في الساعة 0530 يوم 23 أيلول 1980 بحدود 24طائرة «18 سوخوي22، 6ميج 21، كان الوقت ظلام في الضوء الأول للشـروق»، في الحقيقة كان خط الرحلة في الذهاب لهذه الطلعة أفضل من خط الرحلة للضـربة الأولى، ومع ذلك فقد تعرض التشكيل لرمي مكثف من مدفعية م ط خلال خط الرحلة مما يدل أن العدو رفع درجات إستعداداته أكثر مما كان عليه في اليوم الأول لا أريد أن أتوغل في تفاصـيل خط الرحلة في الذهاب لأنه أشبه بالضـربة الأولى تقريباً، ولكن هناك موقف لا ينسـى أبداً، وعندما أستذكره الآن أذكره بتفاصـيله الدقيقة كافة، إن هذا الموقف يوضح جانباً مهماً من جوانب الصبر الذي يمثل القوة والشجاعة ونكران الذات وغيرها من الصفات التي يجب أن يتصف بها الطيار المقاتل بصورة عامة، وطيارو الهجوم الأرضي بصورة خاصة وهذا سأرد عليه لاحقاً.
طائرات الضربة الجوية تستعد للاقلاع
تدمير طائرتين معاديتين وإنقاذ طائرتين سوخوي22
بعد طيران 40 دقيقة قطعنا خلالها 400 كلم ولم يبق لنا سوى 50 كلم فقط للوصول إلى الهدف، الجو ضباب خفيف مدى الرؤيا حوالي 3 كلم في الارتفاعات الواطئة والوقت 0613 ، بدت أمأمنا منطقة الهدف واضحة وهناك حركة طائرات معادية غير طبيعية، فوق القاعدة «علمنا من أحد الأسرى لاحقاً أن هذه الطائرات كانت تروم النزول في القاعدة بعد أن شنت ضـربة جوية على بغداد صباح هذا اليوم 23 أيلول 1980»، وكالعادة بدأت الدفاعات الجوية في القاعدة المتمثلة بمدفعية فولكان 30ملم ضد الجو، وصواريخ رابير الإنكليزية أرض – جو بإطلاق قذائفها وكانت تبدو في الصباح واضحة أكثر منها يوم أمس عند الظهيرة وكأنها الجحيم من يدخل وسطها تسقط طائرته لامحال، بالمقابل كان الموقف محرجاً جداً لطائرات الفانتوم المعادية، وكما أتخيله وهي في دائرة المطار تروم النزول فيه، وأسلحة ضد الجو تطلق قذائفها بشكل عشوائي، ومن دون أي اعتبار لطائراتهم الصديقة ومن المؤكد أن هذه الطائرات وقودها قليل جداً، وإذا كان العكس لماذا لا تخرج من دائرة المطار أو تهاجم طائراتنا، لكون الفانتوم طائرة متطورة وفيها ما يكفي من العتاد لمواجهتنا !!! إذاً الموقف معقد بهذا الشكل وعلى هذا الأساس كان لا بدّ أن يحدث حادث، وهذا لصالحنا بالطبع وبالفعل حالة الإرباك هذه سببت ارتطام إحدى طائرات الفانتوم بالارض، وهو في مرحلة النزول النهائية، وقد بدت لي واضحة جداً ولازلت أذكرها حتى الآن، أما الطائرة الأخرى فكانت على مدرج المطار، وفي الثلث الأول منه حيث أصابتها قنابل طائرتي، وسأروي لاحقاً ذلك تفصـيلاً.
كانت خطة معالجة المدارج وطرق الدرج في هذه المرة تتم بعد التقرب بزاوية 45 درجة، وذلك لأسباب تعبوية تتعلق بالدفاعات الجوية بصورة خاصة لكونها كانت مكثفة في بدايات المدارج وتجنباً لها اخترنا هذه الطريقة، ولكن ضمان دقة الإصابة في مثل هذا الهجوم بعدد قنابل قليل كالتي نحملها يكون غير مضمون، ومع ذلك كانت ثقتنا عالية بإصابة الهدف، أخذ تشكيلي المؤلف من «6» طائرات سوخوي 22 وضع الهجوم على شكل ثلاث مجموعات، كل مجموعة مؤلفة من طائرتين، كان ندائي للتشكيل بأعلى صوتي الله اكبر الله اكبر وانقضت طائرتي على الهدف مع طائرة رقم «2» باتجاه المدرج الرئيسـي، وكانت نيران أسلحة الدفاع الجوي تضـيء مقصورة القيادة لقربها مني لكون الوقت لا يزال مبكراً، والجو ضباب خفيف وضوء الشمس لا يزال خافتاً، على أية حال حلقة مسددة الطائرة بوضع قصف قنابل وهي تتقدم طائرتي بمسافة قليلة تسـير باتجاه وسط المدرج تقريباً، وطائرة فانتوم مرقطة بألوان الصحراء «البني والاصفر الغامق» تتسابق مع حلقة المسددة على مدرج المطار، حيث هبطت قبل ثواني قليلة وقام الطيار بفتح مظلة الوقوف لإيقاف الطائرة بأسرع ما يمكن ريثما يستطيع أن ينجو بنفسه وطائرته من حمم قنابل طائراتنا التي لا ترحم، ومن المؤكد كان في حالة نفسـية لا يحسد عليها، وهو يلعن قيادته ووسائل دفاعها الجوي، التي لم تحسن التصـرف معه وزجته في هذا الموقف الصعب بينما يفترض تحويله إلى مطار آخر قريب أو منطقة إنتظار قريبة أيضاً وهذا أبسط إجراء ممكن أن تتخذه منظومة الدفاع الجوي، ولكن أعتقد أن وسائل الدفاع الجوي الإيراني لم تستطع كشف تشكيلاتنا إلّا قبل 2 – 3 دقائق فقط، وهذا الوقت لا يسمح للمنظومة من اتخاذ إجراء مناسب تجاه طائراته،م وهي في مرحلة الهبوط، وهذا يعود بطبيعة الحال إلى دقة خطة ضـربتنا الجوية، والصمت اللاسلكي والتخفي الجيد من وسائل الدفاع الجوي الإيراني، على العموم ولحسن الصدف تزأمن تقرب حلقة مسددة طائرتي مع طائرة الفانتوم في وسط المدرج، وجاء بركان ندائي للتشكيل الله أكبر ثم ضغطت زر القنابل فئة 500كلغم، وهي تسقط تحت الجناح الأيسـر لطائرة الفانتوم المعادية وتحيلها والمدرج الرئيسـي للقاعدة ركاماً، في هذه اللحظة ينادي قائد التشكيل الثاني الرائد م س «عاشت يدك سـيدي» أجبته أشكرك، الموقف لا يزال متوتراً والعدو في ورطة، ففي هذه اللحظة بالذات «لحظة سقوط قنابل طائرتي على طائرة الفانتوم وسط المدرج»، جلب انتباهي إنفجار شديد إلى جهة اليمين في اتجاه تقرب الطائرات المعادية للنزول، فإذا بإحدى طائرات الفانتوم ترتطم في الأرض قبل حوالي 500 متر، عن بداية المدرج وأعتقد هناك ثلاثة أسباب، أولها نفاذ وقوده، وثانيها إصابتها بأسلحة دفاعهم الجوي وثالثها إرتباك الطيار وهو في لحظة الهبوط، وهو يرى هذه السـيناريوهات أمام عينه أنه موقف صعب جداً يفترض به في مثل هذه اللحظة، إما أن يغادر خارج دائرة المطار، أو يقذف تاركاً طائرته، أخذت طائرتي بالابتعاد عن القاعدة وأخذت أراقب دقة قصف التشكيل، فوجدته دقيق ومركز بشكل أفتخر به، ناديت التشكيل «بارك الله فيكم» ثم استدرنا إلى جهة اليسار باتجاه العودة وأنا مسـرور جداً أنها حصـيلة جيدة، «تدمير طائرتين فانتوم + تدمير مدارج وطرق الدرج للقاعدة»، ولكن أقولها بحرارة هو قلة عدد القنابل التي نحملها، وبالتالي قلة القدرة التدميرية لطائراتنا وهذا هو حال السلاح الروسـي.
الضربة الجوية يوم 23 ايلول 1980 – قاعدة شاروخي
الساعة تشـير إلى 0635 إرتفاع الطيران 15-30 متر السـرعة 1000 كلم/ ساعة، في طريق العودة طلبت من أعضاء التشكيل أن يعرفوا أنفسهم فناداني الجميع عدا رقم «6» الملازم الأول عادل دعدوش، ضمن تشكيل رائد م س … طلبت من قائد تشكيله أن يستمر بندائه للتأكد وقد حاول عدة مرات ولكن من دون جدوى، وتبين لنا مبدئياً أن إحدى طائرات التشكيل قد فقدت، وهي حالة طبيعية محتملة ولكن حتى لا أثير مشاعر التشكيل، قلت لهم هناك احتمال «إنفصال فيشة الإتصال الراديوي مثلما حدث يوم أمس مع الطيار نفسه ولم ينتبه عليها إلّا قرب القاعدة لكونه أحدث طيار في التشكيل».
بعد مغادرة منطقة الهدف بدأت أجهزة الإنذار والتحذير الخلفية للطائرات تشـير أن هناك تشكيل معاد يهاجمنا من الأعلى يساراً، وبعد أن تأكدنا منه والإتصال به بصـرياً أوعزت للتشكيل بالانحدار إلى 15 متر والمحافظة على السـرعة 1000 كلم/ساعة، «عادة هذا الإجراء يجعل من التسديد على طائراتنا صعب ولا يحقق للعدو فرصة نجاح هجومه»، وقد تأكدنا أن الطائرات المعادية كانت من طراز «ف5» كفاءتها النوعية دون مستوى طائراتنا، استمر التشكيل بهذه الصورة حوالي 5 دقائق مما يعني أن مسافتنا عن القاعدة 380كلم وعن الحدود 250كلم، «أحب أن أنوه أن أي إشتباك مع العدو في مثل هذا الموقع خطأ قد يؤدي إلى فقدان عدد من طائراتنا بسبب نفاذ الوقود، لكون الاشتباك الجوي يحتاج إلى أقصـى طاقة محرك وهذا بدوره يقلل من صـرفيات الوقود إضافة إلى تفرق الطائرات ويضعف مبدأ التعاون وكل هذه الأوضاع ليست بصالحنا»، في هذه الأثناء نأدى رقم «2» الملازم الأول س د ، بأن خزانات الوقود الإضافية لديه لم تصـرف وهو يطالبني باتخاذ إجراء معين، سألته إقرأ عداد الوقود لديك أجابني «1500 كلغم»، بينما المفروض أن يكون لديه بحدود «2300 كلغم» إذاً الحل الأمثل هو التخلص من هذه الخزانات «سعة 800لتر لكل منها»، لكونها تزيد من وزن الطائرة ومقاومة الهواء وبذلك يزيد من صـرفيات الوقود العمومية، ناديته تأكد من ذلك مرة ثانية أجابني سـيدي متأكد بأن الخزانات الاحتياطية أسفل الطائرة لم تصـرف وأنها مليئة والضوء الخاص بها لم يضئ «دلالة على عدم نفاذ الوقود منها»، أعطيت له أمر بقذفها فوراً وفعلاً شاهدت الخزانات وهي تسقط من الطائرة ثم تتحطم بصحراء لوط الإيرانية، التشكيل في موقف صعب لا تحسد عليه طائرتان معاديتان تطاردنا، طائرة عاطلة، الأراضـي صحراوية لا تساعد على التخفي وتحتاج إلى صبر وهدوء للمحافظة على الارتفاع الواطئ جداً، والذي يشكل خطورة للطيارين الأحداث خاصة بالسـرع العالية بسبب المتغييرات الايروداينمكية للطائرة.
نتيجة لزيادة سـرعة طائراتنا وتفوقها النوعي على طائرات العدو فقد ازدأدت المسافة بين تشكيلنا والتشكيل المعادي، واختفت علامات وصوت التحذير المنبعث من الطائرات المعادية، وبهذا أستطيع أن أقول بأن موقف تشكيلنا الآن أفضل ولكن بقيت لدينا مشكلة الوقود الذي من المحتمل لا يكفي للوصول إلى القاعدة، ونحن بمثل ظروف الطيران هذه من حيث السـرعة والارتفاع الواطيء «حيث تزيد صـرفيات الوقود كثيراً»، لذلك جرى الحوار الآتي:-
- رقم «2» من قائد التشكيل إقرأ كمية الوقود الآن.
- قائد التشكيل من رقم «2» الوقود 1400 كلغم سـيدي.
- إذاً هذه كمية قليلة لا تكفي للوصول إلى القاعدة ومن المحتمل إذا استمر الطيران بهذا الشكل فإن على الطيار أن يترك طائرته قبل القاعدة بـ «50 – 70 كلم» إذاً الحل الوحيد لتلافي ذلك هو إما التسلق أو تقليل السـرعة، وفضلت تقليل السـرعة والاستمرار بالارتفاع الواطئ جداً وأبلغت التشكيل:
- تشكيل حميد من قائد التشكيل أخفض السـرعة إلى 600 كلم/ ساعة وحافظ على الارتفاع الواطئ جداً أجابني أعضاء التشكيل كافة بالتنفيذ «في الحقيقة هذا الإجراء سـيقلل صـرفيات الوقود إلى الثلث تقريباً وبذلك تزداد فرصة ضمان الوصول إلى القاعدة».
لاحت لي عن بعد سلاسل جبال زاجروس التي ستساعدنا على التخفي من الكشف الراداري والرصد الأرضي الإيراني... وهنا فكرت مرة أخرى بطريقة تضمن لرقم «2» الوصول إلى القاعدة بنسبة 100% تقريباً، إذاً علينا أن نقطع مسافة معينة فوق المناطق الجبلية ثم نتسلق إلى ارتفاع 5000 م لكي نقلل صـرفيات الوقود إلى الحدود الدنيا، ولكن قطع تفكيري صوت رقم «5» الرائد الطيار م س وهو ينادي سـيدي مضخات الوقود الرئيسة لا تعمل واشتعال الضوء الأحمر الخاص بها «NO PUMPING»، حمداً لله أن هذا العطل حدث هنا ونحن في حالة مستقرة من الطيران إذ لو حدث هذا العطل قبل أو أثناء القصف أو أثناء المطاردة لكنا فقدنا الطائرة والطيار حتماً، بسبب انطفاء الطائرة في مثل هذا العطل وذلك لكون المحرك في تلك الحالات يحتاج إلى كمية وقود كثيرة والحالة هذه تجعل الوقود ينساب بطريقة طبيعية من دون دفع وغير مسـيطر عليها، وبالمقابل سـيكون تجهيز المحرك بكمية وقود قليلة لا تكفي لاشتغاله بظروف المناورة أو السحب الشديد أو المطاردة، أجبته بكل هدوء ليكن ذلك ولكن أرجو أن تتصـرف مع الطائرة بكل هدوء، وتجنب الحركات الخشنة السالبة أو الموجبة، أجابني نعم سـيدي أمرك سأفعل سألته ماسبب ذلك أجابني قد تكون طائرة مصابة بطلق ناري أو شظية قلت هذا لايهم طالما طائرتك مستقرة حتى اللحظة.
إذن هناك طائرتان عاطلتان والمسافة لا تزال بعيدة عن القاعدة والله هو الحارس الأمين، قرأت آية الكرسـي ودعوت الله أن يتم نعمته علينا، ويحفظ التشكيل لحين وصول القاعدة، المطبات الجوية في المنطقة الجبلية شديدة وينبغي أن نقوم بحركات معينة لتلافي التعجيل السالب لاسـيما وأن الرقم «5» يحتاج إلى الهدوء في الطيران، والأكثر خطورة هو التسلق بالتشكيل كاملاً إلى ارتفاع 5000متر ولكن المسافة عن الحدود أصبحت 50كلم، وهناك سأتصل بالقاطع الرابع لكي يؤمن لنا غطاءً جوياً من قبل متصدياتنا، وقد وجدت أن هذا الإجراء هو الأفضل.
كان النداء تشكيل حميد واحد من قائد التشكيل تسلق ببطئ إلى ارتفاع 5000 متر ثم حول على ذبذبة قاطع الدفاع الجوي الرابع، وتأكد من تجهيز مدفع 30ملم «تحسباً لأي إشتباك جوي قد نقوم به مع العدو، طبعاً تقوم به الطائرات الصالحة فقط».
- نأدى جميع أعضاء التشكيل بالتنفيذ، ومن ثم طلبت التأكد من كمية الوقود منادياً:
- من قائد التشكيل إلى رقم «2» إقرأ كمية الوقود لديك.
- رقم «2» إلى قائد التشكيل، سـيدي 800 كلغم «المفروض في مثل هذه الكمية من الوقود أن تكون الطائرة فوق المطار للنزول».
- إذاً الوقود قليل جداً والمسافة عن القاعدة لا تزال بعيدة «150كلم»... اتصلت بمركز توجيه قاطع الدفاع الجوي الرابع لكي يوجه متصدياتنا باتجاه التشكيل وفوراً تم متابعة التشكيل من قبلهم وأعطانا أقرب مسافة للقاعدة ووجه متصدياتنا باتجاه التشكيل ولازلت أذكر كان قائد تشكيل المتصديات النقيب الطيار ع ف معاون آمر السـرب 47 ناداني حمداً لله على السلامة سـيدي نحن باتجاهكم، أوجزته باحتمال وجود طائرات معادية لازالت تطاردنا وفي التشكيل طائرتين عاطلة أجابني أمرك سـيدي سأتابع.
طائراتنا المتصدية ( ميج 21 )تتهيئ للاقلاع
لاح لنا عن بعد حوض محافظة السليمانية البهي الجميل ومناطق حلبجة ودربندخان، وهنا اطمأنيت لوضع التشكيل وأوعزت إلى رقم «5» الاستمرار بالارتفاع نفسه إلى القاعدة وجعلت برفقته رقمي «3، 4» أما أنا فقمت بالتسلق مع رقم «2» إلى ارتفاع 8000 متر وبصورة تدريجية ثم قللت السـرعة إلى 550 كلم/ الساعة كأحسن سـرعة لأطول مدى ممكن الطيران فيه، وكانت مسافتنا عن القاعدة حوالي 100كلم الساعة الآن 0655 اتصلت بالسـيطرة الجوية لقاعدة كركوك وتأكدت من نزول جميع الطائرات التي طارت معنا بسلام وطلبت منهم إعطاء أفضلية النزول لطائراتنا، وأنا في هذا الوضع سـررت جداً لثلاث أسباب هي:-
- نجاح ضـربتنا الشاملة الثانية وتدمير طائرتين فانتوم في قاعدة شاهروخي الجوية.
- إنقاذ طائرتين في ظروف تعبوية صعبة.
-عدم تمكن العدو من قصف قاعدتنا بسبب نجاح ضـرباتنا الجوية تجاه القواعد التي من المحتمل أن ينفذ طيرأنه منها وهي قاعدة شاهروخي وتبريز.
تم نزول طائرة رقم «5» الرائد الطيار ( م س) وكذلك طائرة رقم «2» الملازم الأول الطيار (س د)، ولكن بكمية وقود صفر، وكذلك نزول جميع الطائرات عدا رقم «6» الملازم الأول الطيار عادل دعدوش ذلك الضابط الطيار الكفوء الملتزم المحب للطيران،أغلب الظن أنه قد أستشهد إما بواسطة الدفاعات الجوية الكثيفة أثناء القصف أو بواسطة الطائرات التي كانت تطاردنا لقد أخذ سـره معه لأنه لم يجبني عند الإتصال معه، لكي يفصح لنا عن السبب بسم الله الرحمن الرحيم «ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءً عند ربهم يرزقون» صدق الله العظيم.
استقبلنا من قبل الأخوان في القاعدة على أحر من الجمر وعلى رأسهم آمر القاعدة خ خ ، مهنئين بسلامة الوصول ثم عانقت كلاً من الرائد م س والملازم الأول س د ، وهنأتهم بسلامة الوصول وشكرتهم على حسن تصـرفهم والتزامهم بتطبيق الأوامر في الجو، نقلنا للأخوان ما جرى وقد سـروا لذلك كثيراً، تم إيجاز الطيارين ما بعد الطيران وتناولنا التفاصـيل الدقيقة في الطلعة كدرس مستفاد للطلعات القادمة.
تم رفع تقرير بالمهمة إلى قيادة القوة الجوية وبعد التمحيص والتدقيق والإتصال معي بالهاتف، حيث شـرحت لهم ظروف الطلعة منحت سنة قدم ممتاز من قبل السـيد قائد القوة الجوية الفريق الطيار الركن محمد جسام الجبوري .
استنتاج عام:
من الدورس المهمة في هذه الطلعة هو الصبر والأمل وهدوء الاعصاب، فنحن ندرب طيارين الهجوم الأرضي خاصة وباقي الطيارين عامة على هذه الدروس، وكلما كان الطيار متعلم جيداً ويعرف خصائص طائرته بشكل دقيق بإمكأنه أن يأخذ القرار المناسب في الوقت المناسب، هذا على مستوى الطيار في كل طلعة من طلعات طيرأنه أما قائد التشكيل فتكون مسؤولياته أعمق وأبعد وإلا قد يحدث ما لا يحمد عقباه بكل سهولة لأن الطائرة سـريعة والعدو يستغل كل هفوة من قبله، فعلى سبيل المثال لو تصـرف قائد التشكيل عكس ما اتخذ من قرارات كأن أعطى أوامره إلى التشكيل بالتسلق أو ترك رقم «2» يتسلق بمفرده، واستمر التشكيل في طريقه لأصبح صـيداً سهلاً للعدو، فنصـيحتي للطيارين دائماً الحفاظ على وحدة التشكيل بالتصـرف الهادئ واتخاذ القرار السليم في الوقت المناسب، وهذا لا يأتي من فراغ وإنما من حب المهنة أولاً، والالتزام بالتعليمات وسـياقات الطيران ثانياً، وعدم الانقطاع عن الطيران فترات طويلة ثالثاً..
يتبع الجزء / السابع
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
http://algardenia.com/maqalat/28618-2017-02-21-22-11-13.html
4884 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع